تعلُّم المسلمين للغة الألمانية تقدير لعلوم الألمان وآدابهم

افتتاح أوَّل قسم للغة الألمانية في مدينة أربيل الكردية شمال العراق يشكّل حدثًا بارزًا وجديدًا من نوعه في العلاقة الثقافية الألمانية العراقية، ويبيِّن مدى الاحترام والتقدير الذي تتَّمتع به ألمانيا في كردستان العراق. ألبريشت ميتسغر يعرفنا بمميزات هذا القسم.

تشهد مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان في شمال العراق، حالة ازدهار، حيث يُبنى هناك فندق تلو الآخر. ومن بين هذه الفنادق أيضًا فندق روتانا الذي يعتبر من فنادق الخمسة نجوم ويقع بالقرب من المطار.

وفي منتصف شهر نيسان/أبريل 2012 التقى في صالة الاجتماع بهذا الفندق بعض الضيوف اللامعين، وكذلك بعض الوزراء ومستشاريهم الآتين من ألمانيا بالإضافة إلى القنصل العام الألماني وبعض الممثِّلين عن الهيئة الألمانية للتبادل الأكاديمي (DAAD)، حيث احتفلوا بتدشين أوَّل قسم للغة الألمانية في المنطقة الكردية.

وحتى كتابة هذا المقال سجَّل من أجل الدراسة في هذا القسم في جامعة صلاح الدين في أربيل سبعة وعشرون طالبًا، من بينهم الشابة الصغيرة المجتهدة أويزان خوشناو نجم الدين، التي أصبحت قادرة بعد خمسة أشهر فقط من دراسة اللغة الألمانية على التعبير عن نفسها باللغة الألمانية بشكل جيد ومثير للدهشة.

وتسعى الطالبة أويزان إلى تحقيق هدف غير عادي؛ فهي تريد العمل كمعلمة للغة الألمانية في مدينة كولونيا الألمانية، رغم أنَّها لم تكن في ألمانيا على الإطلاق ولا تعرف مدينة كولونيا إلاَّ من الصور.

وهي لا تعرف بالضبط لماذا اختارت مدينة كولونيا، ولكن هذه الشابة الكردية واثقة من أنَّها تحب الأدب والفلسفة الألمانية، وقد قرأت أعمالاً لكلّ من نيتشه وكانط وماركس وغوته وشيلر مترجمة إلى اللغة الكردية.

ولذلك فهي ترغب كثيرًا في قراءة هذه الأعمال الكلاسيكية في لغتها الأصلية. ولهذا السبب تدرس أوزان منذ خريف عام 2011 اللغة الألمانية كلغة أجنبية في جامعة أربيل.

مشروع عصري وعملي

ويتم تمويل هذا المشروع من قبل الهيئة الألمانية للتبادل الأكاديمي DAAD بالتعاون مع معهد هيردر التابع لجامعة لايبزِغ (لايبتِسغ) والذي يعتبر أكبر قسم للغة الألمانية كلغة أجنبية في جمهورية ألمانيا الاتحادية. وتقول السيدة إيزابيل ميرينغ، التي تعمل مدرِّسة لدى الهيئة الألمانية للتبادل الأكاديمي DAAD في مدينة أربيل، إنَّها راضية عن مسار الفصل الدراسي الأوَّل.

افتتاح قسم اللغة الألمانية في جامعة صلاح الدين في إربيل. DAAD
فصل جديد في العلاقات الكردية الألمانية: افتتاح المركز الإعلامي التابع للهيئة الألمانية للتبادل الأكاديمي DAAD في أربيل وقسم اللغة الألمانية في كلية اللغات في جامعة صلاح الدين في أربيل.

​​

وعن ذلك تقول أيضاً إنَّ مستوى الطلاب لديهم قد تحسَّن كثيرًا، وتضيف: "في البداية لم يكن الكثيرون يعرفون ما هو الغرض من هذا التخصص. ولكنني لاحظت بعد انتهائنا من أوَّل كتاب زيادة في إقبال الطلبة".

وفي الواقع يعتبر قسم اللغة الألمانية هنا في أربيل مختلفًا تمام الاختلاف في توجُّهه العملي عن العديد من أقسام علوم اللغة الألمانية الأخرى الموجودة منذ فترة طويلة في العالم العربي - مثلاً في جامعة القاهرة في مصر.

ففي تلك الأقسام لا يزال يتم تدريس المناهج الدراسية الألمانية التي تعود إلى الستينيات والسبعينيات، لذلك ينهي الخريجون دراستهم في تلك الأقسام وهم على سبيل المثال قادرون على قراءة الأدب الألماني باللغة الألمانية الكلاسيكية من العصور الوسطى، غير أنَّهم لا يجدون تقريبًا أية فرصة في سوق العمل.

وحول المتخرِّجين من تلك الأقسام الألمانية يقول كريستيان هولسهورستر، مدير مجموعة شمال أفريقيا والشرق الأدنى والشرق الأوسط لدى الهيئة الألمانية للتبادل الأكاديمي: "إذا سارت معهم الأمور جيدًا، يصبحون مرشدين سياحيين يُرون السيَّاح الأهرامات. ولكن إذا لم تسر بشكل جيِّد، يصبحون من سائقي سيَّارات الأجرة؛ ولذلك من الممكن أن تكون دراستهم من دون معنى".

ولذلك فقد بدأت منذ عام 2005 الهيئة الألمانية للتبادل الأكاديمي وبالتعاون مع العديد من الجامعات الألمانية في تطوير خطة جديدة، تمكِّن أقسام اللغة الألمانية في الخارج من أن تكون متلائمة أكثر في المستقبل مع متطلبات سوق العمل التي تحدِّدها التطوّرات الاقتصادية.

الدراسة من أجل سوق العمل

ويقول الأستاذ كريستيان فاندريش الذي يعمل في معهد هيردر وقد شارك في تطوير المناهج الدراسية لقسم اللغة الألمانية في أربيل: "من المهم جدًا أن نعرف لأي سوق عمل سنُدرِّس الطلاب". ويضيف أنه لا بدّ من الحديث مع أرباب العمل لتحديد المجالات المهنية.

وفي هذا الصدد يضيف: "يكمن التحدي في تدريس اللغة الألمانية تدريساً مكثفاً جدًا، ولكن كذلك في تقديم العناصر المهنية للطلبة في فترة مبكِّرة جدًا من الدراسة، في السنتين المدرَسيتين الثانية والثالثة".

وتوجد لدارسي الألمانية في هذا القسم ثلاثة مجالات مهنية تمكِّنهم من العمل في المستقبل؛ أي تدريس اللغة الألمانية كلغة أجنبية والترجمة بالإضافة إلى مجال التواصل بين الثقافات.

ويمثِّل قسم اللغة الألمانية في أربيل هذا النهج المبتكر، حيث تتميَّز الفصول الدراسية الأولى بدراسة اللغة الألمانية بصورة مكثَّفة، وفي الفصول الدراسية اللاحقة يتم التركيز على العناصر المنهجية والتربوية، والعلوم اللغوية والدراسات الثقافية، من أجل تقريب الطلاب من الثقافة الألمانية و"الفكر" الألماني. حيث يتم هنا في أربيل تدرس اللغة الألمانية كلغة أجنبية ولا يتم تدريس علوم اللغة الألمانية التقليدية.

لكن السؤال هل سيتمكَّن جميع الطلاب بعد إنهائهم هذا التخصص من تكلم اللغة الألمانية بالشكل الذي يمكِّنهم في آخر المطاف من العثور على عمل بعد تخرّجهم؟ هناك بعض الشكوك، خاصة وأنَّ طلاب هذا القسم ليسوا من الحاصلين على أفضل الدرجات في مرحلة الدراسة الثانوية.

وفي العادة يختار الطلبة المتفوِّقون في كردستان العراق تخصّصات أخرى مثل الطب أو الهندسة، وأمَّا الطلبة ذوو الدرجات الأقل فهم حين يرغبون في دراسة اللغات يفضِّلون أولاً الإنكليزية أو الفرنسية، وبعد ذلك تأتي اللغة الألمانية.

"الإنكليزية لغة ضرورية، أمَّا الألمانية لغة زائدة"

وبعد يوم واحد من الافتتاح الرسمي لقسم اللغة الألمانية والذي أقيم في فندق روتانا، أقيم في حرم الجامعة الاحتفال الثاني في الهواء الطلق، حيث اجتمع الحضور في خيمة كبيرة كانت تقيهم من أشعة الشمس.

كريستيان فاندريش، أستاذ في معهد هيردر. DAAD
المسؤول عن تطوير المناهج الدراسية في قسم اللغة الألمانية في أربيل، الأستاذ الدكتور كريستيان فاندريش، أستاذ في معهد هيردر.

​​

وحضر هذا الاحتفال جميع الطلاب الذين كان نصفهم تقريبًا من النساء والفتيات اللواتي لم يكن من بينهن من ترتدي الحجاب، رغم أنَّ المجتمع الكردي يعدّ مجتمعًا محافظًا. وحتى أنَّ بعضهن كنّ متأنِّقات ومتزيِّنات ويرتدين أحذية بكعوب عالية.

وكان كلّ طالب من الطلاب يتقدَّم ويقول جملة باللغة الألمانية. اقتبست الطالبة المجتهدة أويزان نجم الدين جملة من أقوال يوتا ليمباخ، المديرة السابقة لمعهد غوته: "الإنكليزية لغة ضرورية، أمَّا الألمانية لغة زائدة". ولكن جميع طلاب هذا القسم لا يتقنون اللغة الألمانية مثل الطالبة أويزان، إذ لا تزال الألمانية على أية حال لغة صعبة بالنسبة لمعظمهم.

لذلك تعتقد إيزابيل ميرينغ أنَّ ثلث الطلاب فقط سوف يكونون في النهاية قادرين حقًا على استخدام معارفهم اللغوية. وتقول ميرينغ على الأرجح أنَّ حلم أويزان في التدريس في مدينة كولونيا لن يتحقَّق.

وكذلك يبدو الطالب شوان عبد الله أكثر واقعية. فهو يريد البقاء في كردستان، ويقول: "أنا أحب الثقافة الألمانية، وأحب اللغة الألمانية، كما أنَّني أعتقد أنَّ اللغة الألمانية لغة عالمية. ولكنني أفضِّل العمل فيما بعد كمدِّرس وكمترجم".

ولكن قد يتفاجأ الطالب شوان عبد الله أثناء دراسته بمعرفة أنَّ لهذا البلد الذي يحلم به ويحبه صورة مظلمة. ذلك لأنَّ مدرِّسته إيزابيل ميرينغ تهتم كثيرًا بتعريف الطلاب أيضًا بالجانب المظلم من التاريخ الألماني - أي بالهولوكوست. وأحيانًا لا يكون هذا الموضوع أمرًا سهلاً في الشرق الأوسط، وكذلك في مدينة أربيل قد يصادف المرء بسرعة سائقي سيَّارات أجرة يعبِّرون عن إعجابهم بأدولف هتلر.

وتقول إيزابيل ميرينغ: "لكنني وجدت عندما كنت أعمل في الأردن أنَّه من الممكن حمل الطلاب على التفكير. كما أنَّ بعضهم يغيِّرون رأيهم". ويقول زميلها كريستيان هولسهورستر من المركز الرئيسي للهيئة الألمانية للتبادل الأكاديمي إنَّ الأمر لا يتعلَّق بتاتاً بنقل صورة إيجابية فورية ومباشرة عن ألمانيا. ويضيف: "إذا كنا نريد تخريج طلاب قادرين على العمل كوسطاء بين الثقافات، فيجب علينا أيضًا تسليط الضوء على الجوانب الإشكالية من تاريخنا".

إذًا ماذا سيقدِّم مثل هذا التخصص؟ صحيح أنَّه لن يخلق الكثير من فرص العمل، ولكنه يحظى بقيمة رمزية. وذلك لأنَّه يبرز صلة الصداقة التي تربط الأكراد العراقيين بالثقافة الألمانية. ويظهر أنَّ المسلمين يقدِّرون من دون ريب الأدب والفنّ الغربي. وأخيرًا يمثِّل أيضًا رسالة سياسية تدل على أنَّ الأكراد يجدون في ألمانيا شريكًا مهمًا، وليس فقط في سياسة التعليم العالي.

 

ألبريشت ميتسغر
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013