لعنة سجن أبو غريب

بعد سلسلة من الفضائح والفظائع التي ارتكبت بحق السجناء والمعتقلين قرَّرت الحكومة العراقية في خريف عام 2006 إغلاق سجن أبو غريب، لكنَّها أعلنت بعد ذلك أنَّها ستعيد فتحه باسم جديد وسيتم تجديده بتمويل من الولايات المتَّحدة الأمريكية. برغيت سفينسون تلقي الضوء على هذه القضية.

سجن أبو غريب
سجن أبو غريب الذي كان يستخدمه الجيش الأمريكي وأساء فيه معاملة المعتقلين العراقيين - أعادت السلطات العراقية فتحه في الـ21 من شهر شباط/فبراير 2009 وأطلقت عليه اسمًا جديدًا

​​ الزهور الملوَّنة والأضواء الجديدة التي تم زرعها ونشرها منذ فترة غير بعيدة على جانبي الطريق المؤدِّية إلى سجن أبو غريب، لا تصرف الانتباه كثيرًا عن وحشية هذا المكان الذي تصدَّر في الحقبة الأخيرة من تاريخ العراق الكثير من عناوين الصحف العريضة. وطبيعة هذه المنطقة القاحلة والأسوار المرتفعة التي تعلوها أسلاك شائكة وتحيط بهذا السجن الذي يقع على مساحة مائة وعشرة هكتارات، تجعل المرء يشعر من بعيد بأنَّ الوجود هنا لا يُبشِّر بشيء حسن. ولا يمكن كذلك للجدران التي تم صبغها منذ بضعة أسابيع باللونين البيج والأزرق أن تغيِّر شيئًا من ذلك. فسجن أبو غريب كان يعتبر لعنةً وسيبقى كذلك بالنسبة للكثيرين.

ومن الواضح أنَّ حرَّاس السجن الذين كانوا يرتدون زيًا أنيقًا في أثناء استقبالهم الصحفيين، كانوا غير مرتاحين؛ ويبدو ذلك على وجوههم المشوَّهة التي تتحدَّث لغة خاصة. ولكن مع ذلك لا يُسمح لهم الإجابة عن أي أسئلة. وبدلاً عن ذلك فهم يستعرضون بفخر واعتزاز صالون الحلاقة الموجود في السجن، بالإضافة إلى المكتبة ومقهى الإنترنت وحجرة الخياطة وكذلك مركز اللياقة. وكذلك تم إنشاء ملعب في السجن، لكي يتمكَّن السجناء من اللعب مع أطفالهم أثناء الزيارات العائلية. والآن أُطلق على سجن أبو غريب اسم سجن بغداد المركزي. ومنذ نهاية شهر شباط/فبراير أُعيد فتحه، ومن المقرَّر أن يستوعب إلى حين ثلاثة آلاف سجين.

فضائح الصور وفظائع التعذيب

وقبل خمسة أعوام، في شهر نيسان/أبريل من عام 2004، انتشرت صور التعذيب الأولى من سجن أبو غريب في جميع أنحاء العالم. وفي واحدة من تلك الصور كانت تظهر جندية أمريكية شابة، كانت تسحب بإحدى يديدها سجينًا عاريًا بحبل وتمسك بيدها الأخرى سيجارة. ومنذ تلك اللحظة صار يتم خطف الأجانب الغربيين ويتم قتلهم بوحشية. ومصير المواطن الأمريكي، نيك بيرغ Nick Berg، الذي تم قطع رأسه أمام الكاميرا في شهر أيَّار/مايو من عام 2004، يعتبر مجرَّد مثال لحجم الإرهاب والدمار.

في شهر نيسان/أبريل 2004 تم نشر صور لمعتقلين عراقيين من سجن أبو غريب، يظهر فيها جنود أمريكيون وهم يهينون المعتقلين العراقيين ويسيئون معاملتهم؛ أثارت هذه الصور استياء عالميًا واسعًا

​​ ومنذ ذلك الحين لم يعد القتل يعرف في العراق أي محرَّمات. وفي حين كانت الهجمات تستهدف قبل نشر صور التعذيب في أغلب الحالات أهدافا عسكرية والأشخاص الذين يتعاونون مع قوى الاحتلال، أصبح يتم فيما بعد توجيه الهجمات الإرهابية ضدّ الجميع. وصار يسقط الكثيرون من المدنيين العراقيين في مستنقع أعمال العنف، وصار يتم كذلك خطفهم وسرقتهم وقتلهم.

وفي سنتي 2006 و2007 - السنتان الأسوأ على الإطلاق، عندما بلغ متوسَّط الهجمات التي كان يتم تسجيلها يوميًا في بغداد وحدها ثمانية عشر هجومًا في اليوم الواحد، كان الكثيرون لا يجرؤون في كثير من الأحيان على الخروج إلى الشوارع لعدة أسابيع. وفي الصباح كانوا يفتحون الباب بتردّد ويلتفتون إلى اليسار واليمين لكي يروا إذا كانت هناك جثث جديدة ملقاة على الرصيف. وفي هذه الأثناء بلغ عدد القتلى المدنيين في العراق طبقًا لتقديرات مختلفة ما بين نصف مليون وسبعمائة ألف شخص.

أبو غريب من صدام إلى الوجود الأمريكي

وسجن أبو غريب كان في عهد صدام حسين سجنًا للتعذيب سمعته سيِّئة. ويستمد هذا السجن اسمه من منطقة أبو غريب الواقعة غرب بغداد على الطريق الرئيسية المؤدِّية إلى الأردن. وفي بعض الأحيان كان يصل عدد السجناء الذين كانوا محتجزين هنا إلى خمسين ألف سجين، على الرغم من أنَّه لا توجد في هذا السجن سوى خمسة عشر ألف سرير. وهذا السجن كان أكبر سجن في العراق. وكان التعذيب يتم فيه يوميًا وكذلك كان يتم فيه تنفيذ أحكام الإعدام، وغالبًا ما كان السجناء يبقون في هذا السجن طيلة أعوام من دون سبب ومن دون محاكمات قضائية. ومَنْ كان يهمس باسم "أبو غريب"، عندما كان يتم سؤاله عن مكان وجود أفراد من عائلته أو أصدقائه، كان يصف بذلك مدى جور وطغيان نظام صدام حسين.

وعندما دخل الجيش الأمريكي إلى العراق، كان الكثيرون من العراقيين يعقدون آمالهم على أن يتم ردّ الاعتبار لحقوق الإنسان وكرامة الفرد؛ إلى أن ظهرت صور السجناء الذين كابدوا العذاب والذلّ في سجن أبو غريب وأثبتت هذه الصور عكس ذلك. وعلاوة على ذلك أظهرت هذه الصور أنَّ ممثِّلي حكومة غربية ومسيحية يقومون بتعذيب أشخاص مسلمين - وهذا الوضع جرح العراقيين الفخورين والمتديِّنين جرحًا عميقًا.

يقع سجن أبو غريب على بعد 25 كلم غرب بغداد تم بناؤه في فترة الستينيات. وفي عهد الرئيس العراقي السابق، صدام حسين تم فيه إعدام أربعة آلاف سجين

​​ وفي ربيع العام 2004 كان من الممكن مشاهدة هذه الصور في كلِّ مكان؛ وفي المقابل كانت هذه الصور تُشاهد في بغداد بأحجام كبيرة - في الأسواق وعلى جدران المنازل وفي وسط المدينة، كما كان يتم بيعها في ألبومات صور خاصة وفي أقراص مدمجة. وكذلك قام نحَّات بتشكيل تماثيل حسب هذه الصور وعرضها في معرض أُقيم في غاليري حوار المعروف.

وحاليًا لا توجد أي دراسة علمية موثوق بها حول العلاقة بين الإهانات التي تعرَّض لها العراقيون في سجن أبو غريب وزيادة تقديم الدعم للمقاومة العراقية من جانب المواطنين العراقيين. ولكن في الأحاديث اليومية يقيم العراقيون هذه العلاقة، لاسيما وأنَّه لم تتم حتى يومنا هذا مساءلة المسؤولين عن هذه الجرائم ومحاكمتهم بصورة كافية، الأمر الذي يشكو منه العراقيون بمرارة. ولم يمثُل أمام المحكمة إلاَّ ضابطً واحد في الجيش الأمريكي؛ حيث انتهت محاكمته بتبرئته. وفقط تمت إدانة أحد حرَّاس السجن، هو الأمريكي تشارلز جرانر، وصدر بحقه حكم بالسجن لمدة عشرة أعوام.

سجن أبو غريب بثوب جديد

وفي خريف عام 2006 قرَّرت الحكومة العراقية إغلاق سجن أبو غريب. وكان من المفترض تحويله إلى متحف، كان ينبغي أن يوثِّق وحشية نظام صدام حسين الدكتاتوري الذي تم إعدامه. وكذلك كان يدور الحديث أيضًا عن هدم هذا السجن. غير أنَّ الحكومة أعلنت في شهر كانون الثاني/يناير من العام الجاري أنَّه ستتم إعادة فتح سجن أبو غريب، باسم جديد وسيتم تجديده بتمويل من الولايات المتَّحدة الأمريكية. وقال نائب وزير العدل، إبراهيم بوشو مبرِّرًا هذا الإجراء: "سجوننا مكتظة بالنزلاء". وكان هناك أكثر من خمسة وثلاثين ألف سجين يقبعون في سجون أخرى، حيث كان يتحتَّم على نحو مائة وعشرين شخصًا تقاسم مهجع تبلغ مساحته خمسين مترًا مربعًا. وكذلك تحدَّثت هيئة الأمم المتَّحدة في تقرير تم نشره حديثًا عن أوضاع لا يمكن السكوت عنها.

تمت إدانة العريف السابق وحارس السجن، تشارلز جرانر وصدر بحقِّه حكم بالسجن لمدة عشرة أعوام بسبب إساءة معاملته المعتقلين في سجن أبو غريب

​​ ويضاف إلى ذلك أنَّه يجب - طبقًا للاتِّفاقية الأمنية التي تم التوقيع عليها بين واشنطن وحكومة بغداد ودخلت حيِّز التنفيذ في بداية العام الجاري - أن يتم تسليم جميع السجناء المحتجزين لدى الولايات المتَّحدة الأمريكية إلى السلطات العراقية. ويبلغ عدد هؤلاء السجناء خمسة عشر ألف سجين لم يتم عرضهم بعد على القضاء. وفي كلِّ شهر لا يتم فقط تسليم ألف وخمسمائة سجين منهم إلى السلطات العراقية. وعلى الرغم من أنَّ هناك ستة سجون قيد الإنشاء في البلاد، لكن ما يزال ثمة وقت حتى الانتهاء من إنشائها. فوزير العدل تعرَّض لضغوطات؛ والآن يمكن لسجن أبو غريب أن يستمر في نشر الرعب والخوف، حتى وإن كان اسمه الآن هو "سجن بغداد المركزي".

استمرار مسلسل التعذيب والاعتقالات

وكذلك ما يزال التعذيب منتشرًا في السجون العراقية حتى في هذا العراق الجديد، مثلما اكتشفت الأمم المتَّحدة ومنظمة العفو الدولية ومنظمة هيومان رايتس ووتش. وفي كلِّ أسبوع ثمة اعتقالات جديدة. وفي حين أنَّ معظم الذين كان يتم إيداعهم السجن في الأشهر التي تلت غزو الجيش الأمريكي للعراق في عام 2003، كانوا من مؤيِّدي صدام حسين وحزب البعث، أصبحت أصول السجناء الآن أكثر تنوعًا. وعندما تم التقاط صور التعذيب في سجن أبو غريب، كان نحو خمسة وسبعين في المائة من المعتقلين ينتمون إلى المواطنين السُّنَّة. كما أنَّ المداهمات التي كانت تتم في المناطق الواقعة فيما يسمى بالمثلث السني الذي يشمل مدينتي الرمادي والفلوجة ويعتبر مركز المقاومة، كانت تنتهي في أغلب الأحيان باعتقال جميع سكَّان المنطقة الرجال من قبل الجنود الأمريكيين.

عنف لا ينتهي - السؤال الذي يطرحه الجميع حاليًا في العراق هو هل ستكون قوات الأمن العراقية قادرة بعد انسحاب الجيش الأمريكي في عام 2011 على السيطرة على الأوضاع في البلاد؟

​​ ولكن في هذه الأثناء لم تعد الجماعات الإرهابية تشكِّل التحدي الأكبر، بل الجريمة التي تتنامى بسرعة. ولهذا السبب فإنَّ السؤال الذي يطرحه الجميع حاليًا في العراق هو هل ستكون قوات الأمن العراقية قادرة بعد انسحاب الجيش الأمريكي في عام 2011 على السيطرة على الأوضاع في البلاد. وفي خلال الست سنوات الأخيرة تكوَّنت في العراق منظومات لها شكل المافيا المعروفة من دول أمريكا اللاتينية؛ حيث أصبحت حوادث السطو والسرقة والخطف من أجل المطالبة بفدية جزءًا من الحياة اليومية المحزنة في العراق.

وكذلك يُسجَّل في السجون العراقية نزلاء آخرون؛ حيث لم يعد الأمر يتعلَّق فقط بالإرهابيين والمجرمين. إذ صنَّفت منظمة الشفافية الدولية في تقريرها الخاص بالفساد العراق في طليعة الدول الفاسدة. ومنذ الغزو الأمريكي للعراق نشأت في بلاد الرافدين شبكة من الفساد تصل إلى جميع فروع المجتمع في العراق، مثلما كتبت هذه المنظمة.

كما أنَّ هناك وزراء سابقين من كلا الحكومتين الانتقاليتين لهم علاقة بقضايا الفساد. وإذا ما كان رئيس الوزراء الحالي، نوري المالكي، سوف يتعامل مع الفساد بجدية ويحاربه مثلما أعلن، فإنَّ سجن أبو غريب سوف يمتلئ وتستنفد طاقته الاستيعابية من دون شكّ بعد وقت قريب. وعلى أي حال لن ينعم العراق بالراحة بسرعة وسيبقى يكافح لوقت طويل ضدّ إرث الرئيس العراقي السابق، صدام حسين وتركة الاحتلال الأمريكي.

برغيت سفينسون
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2009

برغيت سفينسون صحفية ألمانية حرة تعمل في عمَّان وتسافر بانتظام إلى العراق.

قنطرة

الفيلم الوثائقي "قواعد العمل المعتادة":
سجن أبو غريب- مأساة باسم أداء الخدمة العسكرية
حاز الفيلم الوثائقي "قواعد العمل المعتادة" Standard Operation Procedure جائزة لجنة التحكيم في مهرجان برلين السينمائي "برليناله" لهذا العام. الفيلم يعالج خلفيات ممارسات التعذيب في سجن أبو غريب، بيد أن محصلة هذه المعالجة السينمائية جاءت متباينة كما ترى أريانا ميرزا.

تعليق
موقف أوروبا من فضيحة سجن أبي غريب
يتوجّب على ألمانيا أن تتخذ موقفا حازما، ليس من الولايات المتّحدة فحسب، بل أيضا من بريطانيا العضو في العائلة الأوروبية. تعليق بيتر فيليب من الدويتشه فيلله.

حقوق الإنسان
التعذيب مستمر في الوطن العربي
تلاحظ منظمات الدفاع عن حقوق الانسان ترديا لأوضاع حقوق الانسان في الجزائر وتونس والمغرب بشكل خاص. ففي المغرب على سبيل المثال تكاد تكون غالبية الضحايا من الإسلاميين أو من الرجال، الذين تعتقد الشرطة وأجهزة المخابرات السرية أنهم من أتباع الجماعات الاسلامية. تقرير روديغير ماك من الرباط.