لم يصل "نجم" أمستردام...بل تجاوزها "نجماً في السماء"

فرح الكاتب والصحفي خالد الحروب "فرحاً طفولياً هائلاً" حين أعلمته مؤسسة الأمير كلاوس الهولندية بفوز الشاعر المصري الثوري الشهير أحمد فؤاد نجم بجائزتها الثقافية السنوية الرفيعة. فهو من كان وراء ترشيح نجم لنيل الجائزة، كما يقول. لكن الموت سبق حفل أمستردام التكريمي المهيب بأيام قليلة فقط إلى "عاشق الأرض والناس والثورات" الذي رحل إلى السماء "نجماً فوق سفينة فرعونية من قلب ميدان التحرير". وفي خواطره وذكرياته التالية يقدم خالد الحروب إلى روح أحمد فؤاد نجم، عبر موقع قنطرة، "اعتذاراً ودمعتين".

الكاتبة ، الكاتب: خالد الحروب

قبل أكثر من ثلاثة شهور اتصلت بي فريبا الهولندية الإيرانية الأصل من مؤسسة الأمير كلاوس في أمستردام وزغردت لي النبأ: أحمد فؤاد نجم فاز بالجائزة السنوية الرفيعة للمؤسسة الرصينة، ويتسلمها في الحفل المهيب يوم 11 ديسمبر/ كانون الأول 2013.

تخبرني فريبا بالنبأ لعلاقتي المباشرة بالموضوع، وتريد رقم تلفونه أو تلفون "نوارته" كي تعلمه بالقرار. رغم فرحي الطفولي الهائل لم يكن مسموحاً لي بإبلاغه النبأ لكوني من رشحه للجائزة ومن دون علمه. كان الورد كله قد "تفتح في جناين صدري" وشعرت بهواء طازج يملؤه. تفكك في داخلي مباشرة ودفعة واحدة شبح ذنب كان قد تراكم خلال السنوات الماضية، وأنا أفاتح أصدقاء كثيريين بضرورة ترشيح "نجم الدنيا وأمها" لجائزة أمستردام المخصصة لمبدعين من العالم الثالث.

 في كل عام وفي الحفل البهي الذي تنظمه المؤسسة ويرعاه القصر الملكي أعاتب نفسي وأنا أرى الجائزة تجوب العالم من إفريقيا، إلى أمريكا اللاتينية، إلى الصين، إلى آسيا الوسطى. كنت أرى نجمه يطوف في سماء المدينة، ويلتف حوله مثقفون وفنانون من كل رياح الأرض.

قبلات أبدية

الآن انفكت عقدة التأثيم السنوي وفاز "نجمنا" من بين عشرات المرشحين. عندما انفتح عقد ثمانينياته العمرية زاد قلقنا. قد يسبقنا الموت إليه، فلا يمر بسماء المدينة الغنية بالثقافة، ويوقع على هوائها قبلات أبدية من شفاه "بهية". أردناه نجماً صاخباً بالحياة هناك، قبل أن يتحول إلى نجم صامت في السماء. كان نجم السماء أسرع!

خالد الحروب.   ibn-Rushd
الكاتب والصحفي خالد الحروب مدير مشروع الإعلام العربي في مركز الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية في جامعة كمبريدج البريطانية.

​كانت أمستردام وبردها الدافيء وضيوفها المتجمعون بعد غد الأربعاء ١١ ديسمبر/ كانون الأول في انتظار عاشق الأرض وبَهيّة والناس والثورات. كان النيل قادماً إلى المدينة العريقة، بكل عنفوانه وهدوءه، بحكمته وطيشه، بغضبه وحزنه، برصانته ونزقه. كانت المدينة وبعد الإعلان عن فوز النجم بالجائزة تنتظره "بسبع وسائد محشوة بالسحاب الخفيف، وبرائحة البخور النسائي وقد ملأ المكان"، وأغنيات تركها نجم آخر لنا معلقة هنا في سقف المدينة يوم فاز بذات الجائزة عام 2005.

محضن الكلمات

​هنا دار ميريت للنشر: محضن الكلمات هنا، عين النص هنا تحارب مخرز السلطان. هنا هو، على المقعد الجلدي المتشقق، فوق الأرضية التالفة، وسط جدران هرمة حولنا كالهرم ... لكن فيها صموده الأسطوري أيضا. هنا محمد هاشم وفوضاه ... يدخن ويحترق، يتحدث ويعشق. يقول لي ولزميلاتي من القناة الرابعة البريطانية نحن لا نكره الغرب، نكره حروب الغرب، ونكره تغطرسه.

هنا، كما ترون على الأرفف، الغرب كله يتبختر واقفاً وجالساً: أدبكم، مسرحكم، قصتكم، روايتكم: من بريطانيا وإيرلندا، إلى فرنسا وألمانيا، نتابع كل ما تكتبون، ونفرح به. لكن عندما نرفع رؤوسنا من بين دفات الكتب، يرتطم نظرنا بدباباتكم. نعاود القراءة في نصوصكم, ونعاود التطلع في دباباتكم: محاصرون ومشطورون نحن بين نصكم ورصاصكم!

عن محمد هاشم ونجم وميريت كنت قد نقلت وشماً من من أوشام المدن كتبت عن ذلك السحر يوما ما: “محمد هاشم دمعته سريعة، ربما كهزائمنا! قبل أن نأتي إلى هذا المقهى تبادل وعبد المعطي الجعبة أحاديث عابرة. مازحة بضحكات نادرة كانت الـ " آه " الساخرة سرعان ما تخرج بهلع حاسد فتفصم عمر الضحكات البريئة وتشطره بنصلها اللئيم الذي لا يتركنا وشأن ضحكاتنا.

سؤال وصفعتان

قال عبد المعطي في واحدة منها: أتعرف كيف صمد أخي معاذ في التحقيق مع الإسرائيليين؟ لقد تذكر أحمد فؤاد نجم. معاذ يحب شعر نجم، كما يحبه عبد، وتذكر الأرض الطيبة التي كان يتغنى بها نجم ويقسم بالدفاع عنها. كان المحقق الإسرائيلي يسأله سؤالاً ويتبعه صفعتين، ومعاذ في عالم آخر. كان يتجلى مع أغنيات الشيخ إمام، ويصنع لنفسه وجسده درعا واقيا، فما عاد يحس بضرب المحقق.

دمعت عيون محمد هاشم، وبكى، وأحب معاذ على الفور. مسح دموعه من تحت النظارتين، وأقسم لعبد أن يرسل له نسخة من الأعمال الكاملة لأحمد فؤاد نجم، وعليها إهداء نجم نفسه موجهاً إلى معاذ.

كما العادة، عندما يفتح صديقي عبد جعبة أحاديثه، تخجل الرواية والخيال من نص الواقع، هنا الحياة وقصصها أغرب من الرواية، هنا عبد ومحمد هاشم اجتمعا.

زميلتان شقراوان

​أحمد فؤاد نجم ينظر بعيني صقر إلى زميلتيّ الشقراويين. يقيس زوايا جسدَيْهما ويتأملها. أرى بريق شباب يعود إلى عينيه فأبتسم. يلمحني أراقبه فيبتسم. ينقل نظره بيني وبينهما ويسرب لي بنظراته وابتساماته تساؤلاً حاسداً.

أهز رأسي مبتسماً لكن نافيا ما مر بخاطره. يقلب يديه الاثنتين إلى أعلى زاماً شفتيه، يقول لي بحركاته "وليه لأ يا أهبل؟"، عندها نطقت بكلمتين اثنتين وأنا أداوم الابتسام، زميلاتي وحسب!​ 

الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم في حوار مع الصحفي محمد مسعاد في المغرب عام 2009
"الفن الجيد هو فن سياسي بامتياز"، كما قال الشاعر أحمد فؤاد نجم في حوار مع الصحفي محمد مسعاد في المغرب عام 2009: توفي أحمد فؤاد نجم صباح الثلاثاء (الثالث من ديسمبر/ كانون الأول 2013) عن عمر ناهز 84 عاما. وقد تحدثت قصائده العامية المصرية باسم الفقراء ونددت بممارسات الطغاة. وكان يحلم أحمد فؤاد نجم بدول عربية خالية من الظلم. وكان نجم سُجِن أثناء حكم الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات نظرا لمواقفه من الحكومات المتعاقبة.

أقتربت منه، وقلت له لي عندك أمر آخر. قال: قل. فأخبرته عن معاذ شقيق صديقي عبد المعطي. قال لي: "خليني أتكلم مع عبد". أحترق الهاتف وأصيب عبد بخشوع الصدمة، فانعقد لسانه:

- إزيك يا ود يا عبد

- مين؟

- أنا أحمد فؤاد نجم

- .....

- خالد قلي عن أخوك معاذ، هو أحواله أيه؟

- ..... كويس، كويس، هو .... هو لو يعرف إنك إنك ...

- سلملي عليه، وقوله أنا بعتّلو نسخة من أعمالي عليها إهدائي، وخالد قللي عن السجن وعن صموده، دا ود جدع بصحيح. سلملي عليه أوي.

- شكرا، والله شكرا، هو رايح ينبسط كتير.

شتيمة جميلة

في لندن، شتمني عبد على المفاجأة الجميلة وقال لي انعقد لساني، ولم أعرف بماذا وكيف أرد. ينفرط عقد النص في الرواية يا صديقي، وتتكوم الكلمات خاشعة أمام وجع الحياة وحقيقتها.

​قبل أن يصير نجم أمستردام كما كان نجم كل مكان قرر هذا الأسطوري أن يظل أسطوريا ويلتحق بأوزيريس، ويغادر كما يليق بالأسطوريين أن يغادروا. ترك عشاقه وحيدين يحاولون تجميع أجزاءه وبعثها من جديد: تركهم في عهدة صديقه الصدوق محمد هاشم في "دار ميريت"، في شارع قصر النيل ... على بعد بيتين من الشعر من ميدان التحرير، حيث انتصبت قامة النجم وأعلن بعثه من جديد في 25 يناير المجيد.

اعتذار ودمعتان

يرحل فوق سفينة فرعونية من قلب ميدان التحرير، يلقي ابتسامة وسلاماً على أمستردام وهو يحلق بعيداً، يعتذر ويغادر. يترك الحفل، والمدعويين ... وأنا، مشدوهين أمام هزيمة الذنب الكبير، لقد تأخرنا في تكريمك هنا، تأخرت أنا في ترشيحك،...، في ضفاف اللامكان حيث عبرت سوف يعانقك الشيخ الإمام وينقل إليك اعتذاري السري والمفضوح، ودمعتين.

 

خالد الحروب

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: قنطرة 2013