البحث عن الجذور

مشروع طموح في مدينة وهران الجزائرية يربط بين العمل المحلي والبحث عن صياغة جديدة للهوية الوطنية، تعبر عن الرغبة في انطلاقة جديدة لدى الشباب والمثقفين الجزائريين. بقلم بيآت شتاوفر

مصحة سيدي الهواري، الصورة: بيآت شتاوفر
مصحة سيدي الهواري: مستشفى قديم تم بناؤه على أنقاض حمام تركي من القرن السابع عشر

​​

الجدال حول فترة الرعب والإرهاب أمر يبدو مستحيلا عمليا في الجزائر. لكن العديد من الجزائريين يحاولون بطريقة أخرى أن يتفاعلوا مع تاريخ بلادهم الحافل بالآلام ومع هويتهم ذات المكونات المتنوعة.

وفي وهران بالذات، هذه المدينة الكسموبوليتية بحق، ما يزال هذا الوعي حيا بين المواطنين. هنا نشأ أيضا مشروع اجتماعي ثقافي جاء ملائما لحاجيات سكان إحدى الأحياء الفقيرة ويكشف في الآن نفسه عن "الطبقات" المغمورة "للهوية الجزائرية". إنه إحدى المشاريع التي لا تعيد بث مشاعر الأمل فقط، بل تتجاوز ذلك إلى وضع أسس لمجتمع في حالة من الأخذ والرد في التعامل مع تاريخه.

أنقاض حمام تركي

سيدي الهواري هو اقدم أحياء مدينة وهران. هنا أسس بحّارة أندلسيون أول مستوطنة لهم قبل ما يزيد عن ألف سنة، وهنا ظل الإسبان والأتراك لعدة قرون يتنازعون الهيمنة على المدينة. لكن حي سيدي الهواري يشهد الآن حالة من التدهور؛ واجهات أغلب المباني في حالة من التفتت وبنايات شوارع بأكملها مهددة بالانهيار متحولة في الأثناء إلى ما يشبه أحياء الأكواخ.

وسط هذا الحي الذي زحف عليه الفقر نشأ مشروع يعد بالكثير من الأمل أكثر من أي مشروع سواه. إنه مشروع " Santé Sidi El Houari" الذي يستمد إسمه من المستشفى الفرنسي القديم. صاحب المبادرة ورئيس هذا المشروع هو الطبيب كمال بريكسي الذي أسسه قبل خمسة عشر سنة وما يزال إلى حد اليوم المحرك الرئيسي للجمعية التي تحمل نفس الإسم.

داخل جدران المستشفى القديم الذي تم بناؤه على أنقاض حمام تركي من القرن السابع عشر هناك حياة جديدة بدأت تنشط منذ مدة غير طويلة. لسنوات عديدة ظلت مجموعات من المتطوعين تعمل على إجلاء ما تراكم من أنقاض ونفايات داخل البناية المهددة بالانهيار، وتوصلت إلى إعادة الهيكل الأساسي للبناية إلى هيأته الأصلية.

هنا وجد المشرفون على هذا العمل أنفسهم أمام معضلة وهي الافتقار إلى معارف ميدانية بتقنيات البناء القديم، معارف لا غنى عنها من أجل القيام بعمل الترميم على أسس ملائمة للطابع الأصلي للعمارة التي يبلغ عمرها بضعة قرون. والحال أن هذه المعارف قد نسيت خلال السنوات التي عقبت استقلال البلاد. هكذا تم إرسال مجموعة من المتطوعين إلى فرنسا كي يتلقوا هناك تكوينا في الميدان على أيدي حرفيين مختصين.

وأخيرا كان بإمكان هؤلاء أن يستثمروا ما حصّلوه هناك من معارف في العمل الميداني لترميم البناية، ثم أن يلقنوا ما تعلموه إلى شبان عاطلين عن العمل ممن غادروا المدارس في سن مبكرة. منذ بضعة سنوات غدا بإمكان هؤلاء الشبان أن يتلقوا داخل مشروع "مصحة سيدي الهواري" تكوينا مهنيا معترفا به يشمل ثلاث اختصاصات في أعمال البناء. وحاليا هناك 57 شابا يتلقون تكوينا مهنيا على نفس المنوال وداخل الإطار نفسه.

العمل على إرساء وعي مواطني جديد

إلا أن بريكسي ومن خلال أعمال ترميم المستشفى العتيق كان يتابع أهدافا أخرى تتجاوز حدود المشروع الاجتماعي والثقافي. فالمشروع الصحي لسيدي الهواري يطمح أيضا إلى تحسيس المواطنين وجعلهم يكتسبون "نظرة جديدة" إلى مدينتهم وإرثها الثقافي الثري.

كما يرمي إلى جعل المواطنين يولون أهمية أكبر لصيانة مدينتهم ومزيدا من الاهتمام بمسائل البيئة وحقوق الإنسان، كما يصرح الطبيب النشط الملتزم. وعلى هذا النحو يتم بالنهاية تنشيط يقظة "وعي مدني" جديد مازال المجتمع الجزائري يشتكي من افتقاده في العديد من المواقع.

تنوع الهوية الجزائرية

كما ينطوي مشروع "Santé Sidi El Houari" على بعد إضافي في الغايات التي يتابعها. ويتعلق الأمر في كلمة بمسألة الهوية الجزائرية. فخلال أعمال الترميم والإصلاح التي أجريت على المستشفى العسكري القديم تم الكشف عن طبقات أركيولوجية تشهد على توالي ثلاث حقب معمارية مختلفة كما يقول الدكتور بريكسي:

الفرنسية والتركية والإسبانية. وهو ما يكشف بوضوح عن مدى التأثيرات المتنوعة لشعوب وثقافات مختلفة من المحيط المتوسطي على تاريخ المدينة.

غير أن الجزائر على إثر حصولها على الاستقلال قد سلكت سياسة تجاهلت هذه التركيبة المتنوعة لتاريخها وحصرت تعريف هويتها على بعديها العربي والإسلامي دون غيرهما. وقد جثم هذا الخيار لهوية مملاة من سلطة فوقية على المجتمع مثل "غطاء من رصاص" يقول بريكسي. لكن هذه الفترة قد ولّت الآن حسب قوله، وقد تكوّن لدى الناس شعور غريزي بأن هذا التعريف المفتعل لم يكن يستجيب البتة إلى الواقع الحقيقي.

يدعو بريكسي إلى ضرورة أن يأخذ الجزائريون والجزائريات بأيديهم وبصفة مضاعفة أمر البحث عن "جذورهم الأصيلة" وأن يكتشفوا لهم بهذه الطريقة هوية جديدة. وهو أمر يراه من الضرورات الملحة، ذلك أن حالة الضياع التي يعاني منها الكثير من الشباب لها جذورها وجزء هاما من مسبباتها في هذا الأمر.

تنظيم جولات عبر الحي

ولكي يتمكن شباب الحي من الاطلاع على هذه الطبقات المغمورة من "هويتهم الجزائرية" اعتمد بريكسي ومساعدوه استراتيجية خاصة تتمثل في تقديم تكوين معرفي لمجموعة من الأحداث والشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و25 سنة، سيكون عليهم بدورهم أن يتولوا بعدها مهمة نشر ما تلقوه من معلومات بين عدد أكبر من مماثليهم.

وتعتمد طريقة عملهم على تنظيم جولات عبر الحي وتقديم عروض مرتجلة تستحضر شخصيات من التاريخ الجزائري أو تنشيط نوع من ورشات للرسم تجسد معالم معمارية تاريخية.

العديد من النشطين في الحقل الثقافي والمثقفين في وهران يرون أن "التملك" بالتاريخ الجزائري الحافل بالمعاناة والآلام عنصر لا غنى عنه في تطور المجتمع الجزائري. "هناك عدد أكثر فأكثر من الناس الذين أصبحوا يقرّون بأن هوية الجزائر لا تعود إلى أصل واحد بل إلى جذور متعددة"، يقول محمد ملياني أستاذ الآداب الأنكليزية بجامعة وهران. ويضيف بأنه من غير الممكن أن يعمد المرء إلى إقصاء جزء ما من هذا الماضي أو إلى إلغائه بجرة قلم. ومن يفعل ذلك فإنه يرتكب "عمل عنف" ضد المجتمع.

محمد ملياني يدعو هو أيضا وعلى هذا الأساس إلى وعي ذاتي جزائري جديد. ومن هذا المنطلق فإن جزائر المستقبل لن يكون لها بالتالي أن تتأسس على التمترس والتحصن ضد أوروبا، بل أن تكون "متنوعة، متعددة اللغات والثقافات."

ويظل السؤال الآن هو إلى أي مدى سيكون لهذه الرؤى أن تجد لها صدى في أماكن أخرى من البلاد الجزائرية، أم أنها ستظل لا تعرف انتعاشا إلا فوق التربة الخصبة المميزة لمدينة وهران.

وفي أي حال من الأحوال فإن مشاريع من نوع "مصحة سيدي الهواري" تظل تعبر عن الرغبة في انطلاقة جديدة، وتشع بشيء من الأمل. وذلك هو ما يحتاج إليه أكثر من أي شيء في بلاد ما تزال محززة بوقائع سنوات متتالية من الرعب.

بقلم بآت شتاوفر
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2006

بيآت شتاوفر صحفي سويسري مختص بشؤون المغرب العربي

www

مشروع " Santé Sidi El Houari باللغة الفرنسية