إنها معاييرنا المزدوجة!

لماذا تظل قضية دارفور خارج نطاق اهتمام السياسة والإعلام العربيين بالمقارنة مع قضايا نزاعات المشرق العربي؟ بقلم معتز الفجيري ورضوان زيادة

بالنسبة الى كثيرين في العالم العربي، فإن "المأساة الإنسانية" في دارفور لم تحدث، لسببٍ بسيط هو ان الإعلام العربي لم يركز عليها. لذلك لا يشعر المرء بالاستياء والحرج من الإهمال والإنكار الذي يبديه العرب لما يدور في إقليم دارفور في السودان من فظاعاتٍ إنسانية فحسب، وإنما يخالجه شعورٌ بانعدام الضمير يذكّر بالتناسي التاريخي للدور الذي لعبه بعض العرب الأفارقة في تصدير الرقيق.

وإذا افترضنا أنه من المنطقي ألا تأخذ الحكومات العربية موقفاً داعماً بوضوح للحق الإنساني في دارفور، باعتبار أن آخر ما تفكر فيه أية حكومة عربية كمحددٍ في سياستها الخارجية هو قضايا حقوق الإنسان، فما هو تبرير الإعلاميين والمثقفين والناشطين والفنانين العرب، حتى الحائزين منهم على صفة سفراء النيات الحسنة للأمم المتحدة؟

وكيف لهم أن يبرروا صمتهم عما يدور في دارفور، إذ لم يصدر أي بيانٍ أو موقفٍ صريح يعلن موقفاً إنسانياً حازماً تجاه ما يجري هناك، اللهم إلا البيان الصادر في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2006، والذي ضم عدداً محدوداً من المثقفين العرب استنكروا فيه «صمت العالم العربي إزاء المأساة الإنسانية في دارفور».

مئات الآلاف من القتلى

إن نظرة خاطفة تقرأ بلغة الأرقام ما جرى في السنوات الأربع الأخيرة تجعلنا نكتشف عمق المأساة الإنسانية المتكررة في دارفور. ويستمر المشهد هناك بلا أي تغيير أو حتى أملٍ في التغيير، بل إنه يتجه إلى تعقد الوضع الإنساني وانعدام الأمن وتفشي الفوضى، فقتل الأبرياء يتواصل من دون محاسبة بحيث أصبح الإفلات من العقاب واقعاً، كما أن استمرار النزوح واللجوء القسري للمدنيين بات قصة تروى يومياً.

وتزداد الأمور تعقيداً مع تدهور الوضع الأمني على الحدود بين السودان وتشاد نتيجة تصدير الصراع، ثم غموض موقف حكومة الخرطوم لفترة مديدة من الموافقة على استقبال قوات أُممية لحماية المدنيين في الإقليم، وغياب الدور العربي والتستر على دور حكومة السودان في دارفور في المأساة، حيث لم تصدر الى الآن مجرد إدانة واحدة من أية عاصمة عربية، ولا من القمم العربية المتوالية، باستثناء التقرير الذي أصدرته الجامعة العربية عام 2004 ووزع على نطاق ضيق، وهو تقرير متواضع بالمقارنة مع ما صدر في ما بعد عن الأمم المتحدة.

لقد قُتل في دارفور ما يتراوح بين 300 و400 ألف شخص منذ العام 2003 إما كنتيجة مباشرة للنزاع المسلح، أو لسوء الوضع الإنساني وتفشي الأمراض وسوء التغذية، وتعرض أكثر من مليوني إلى اللجوء والنزوح، كما جعل الصراع نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون شخص يعيشون على الإعانات الإنسانية.

من ناحية أخرى لم يوفر اتفاق أبوجا للسلام، الموقع في الخامس من أيار/مايو الماضي بين حكومة الخرطوم وأحد أكبر فصائل المعارضة في الإقليم، الأمن والسلام في دارفور، بل إن أغلب المؤشرات والتحليلات تشير إلى أن الأمور اتجهت إلى الأسوأ.

نزاع عربي داخلي

فالاتفاق منذ توقيعه يحمل بذور فشله إلى حد وصفه من جانب البعض بالقنبلة الموقوتة، حيث لم ينص على آليات واضحة لتنفيذ بنوده، كما ان اعتماده على الحكومة السودانية في عملية التنفيذ شكّل تناقضاً مع كونها طرفاً أساسياً في الصراع.

ولم تقدم الحكومة منذ توقيع الاتفاق أية تصورات ملموسة لنزع سلاح الميليشيات غير النظامية والتي تعرف «بالجنجاويد»، تلك التي خاضت حرباً بالوكالة عن الحكومة منذ عام 2003، وارتكبت معظم الجرائم بشهادة تقرير فريق تقصي الحقائق التابع للأمم المتحدة عام 2005 والذي ضم من بين أعضائه الأمين العام للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، بل استمرت الحكومة في تسليح هذه الميلشيات بحسب إفادة حديثة من بعثة الاتحاد الأفريقي في دارفور.

لكن من المؤسف حقاً أن يستمر البعض وخصوصاً حكومة الخرطوم في التشكيك في حقيقة ما يجري في الاقليم من جرائم ضد الإنسانية، إذ يكفي أن نقول أن السودان أرست أول سابقة عربية في ممارسة اختصاص المحكمة الجنائية الدولية عقب تحويل قضية دارفور إلى لاهاي بواسطة مجلس الأمن عام 2005.

للصراع في دارفور خصوصيته في المنطقة العربية باعتبار أنه نزاع داخلي بين حكومة المركز وحركات معارضة مسلحة، ويرتبط أساساً بخلل في التنمية واستحواذ المركز على السلطة لعقودٍ طويلة، في مشهد جغرافي متعدد الأعراق والثقافات والأديان بشكلٍ جعل الحروب تلد الأخرى في السودان للأسباب نفسها.

إنكار الإحداث في دارفور

إن ضعف الانشغال العربي بما يجري في دارفور على رغم بشاعته ربما تفسره مركزية صراعات المشرق، وخصوصاً الصراع مع إسرائيل، لدى قطاع عريض من النخب السياسية والثقافية العربية، والتي لم يكتف بعضها بإهمال ما يجري في السودان وإنما حاولت إنكاره، كما خلصت بعض التقارير الصادرة عن اتحاد الأطباء العرب والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

كما ظلت دارفور إلى الآن خارج نطاق اهتمام الإعلام العربي بالمقارنة مع قضايا نزاعات المشرق العربي، و"كأنها قضية لا تعنينا مباشرة أو أننا لا نريد لها أن تكون كذلك" على حد تعبير احدى الإعلاميات العربيات.

ويُصر بعض وسائل الإعلام العربية على تصوير الأزمة في دارفور باعتبارها "مؤامرة صهيونية – أميركية" تستهدف تقطيع أوصال السودان وسرقة مقدراته، مع إنكار أو إغفال أية جرائم تُرتكب في الإقليم. كما يتجه بعض وسائل الإعلام، وهو الأمر الملحوظ في الإعلام المصري في شكل خاص، إلى تغليب قضايا الأمن القومي على أية اعتبارات إنسانية أخرى.

فالإعلام المصري غلب عليه في كثيرٍ من الأحيان ليس الطابع الإنكاري للأزمة الإنسانية في دارفور فقط، بل الطابع الاستعلائي عند التعاطي مع قضايا السودان عموماً، وهو الأمر الذي اتضح عند تغطية أزمة اللاجئين السودانيين الذين قتل منهم العشرات، إثر اعتصامهم في أحد ميادين القاهرة اعتراضاً على سياسات تتعلق باللجوء، ولجأ الإعلام المصري الرسمي حينها إلى ممارسة طابع تحريضي تبريري لموقف قوى الأمن، واستعلائي عنصري تجاه السودانيين البسطاء الذين فرّوا من قهرهم في السودان ليصطدموا بهراوات الأمن المصري!

ازدواجية المعايير

واليوم تأخذ قضية الاعتراض على وجود قوات تابعة للأمم المتحدة في دارفور نصيباً كبيراً من النقاش في المنطقة، ففي الوقت الذي تشكو الأنظمة العربية من تقصير المجتمع الدولي وازدواجية معاييره في التعامل مع قضية الصراع العربي - الإسرائيلي، وتتكرر المطالبات بحماية دولية للمدنيين في فلسطين، نجد العقل العربي وفي شكل آلي يُمارس ازدواجية المعاير ذاتها، وتسحق حساباته السياسية الضيّقة ملايين المدنيين في دارفور، الذين لا ذنب لهم سوى أنهم وجدوا أنفسهم فجأةً طرف مساومة في الصراع بين النخب السياسية والفكرية العربية مع الغرب.

الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان في أديس أبيبا، الصورة: أ ب
الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان في أديس أبيبا

​​إن الأمر الذي يغفله البعض وفي مقدمهم حكومة الخرطوم أن السودان يستضيف على أرضه قوات أجنبية تابعة للأمم المتحدة، حيث أن هناك عشرة آلاف عنصر تابعين للأمم المتحدة، قادمين بمعظمهم من أكثر من 60 بلداً أفريقياً وآسيوياً، ينتشرون في وسط السودان وجنوبه كجزءٍ من اتفاقية السلام لعام 2005، والتي وضعت حداً للحرب الأهلية التي استمرت 21 سنة بين الحكومة وحركة جيش تحرير السودان في الجنوب.

إن التعاون مع المجتمع الدولي لإحقاق السلام في دارفور ليس أمراً شاذاً، أو مخالفاً للقانون الدولي، أو منتهكاً للسيادة السودانية، بل واجب المجتمع الدولي، ويكفي التنويه بما قال الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى أن "الأجواء الإيجابية بعد توقيع اتفاق السلام في أبوجا ستساهم في معالجة الأسباب الموضوعية وراء التخوفات والتحفظات على إنشاء بعثة أممية لتعمل مع الحكومة ومع أهالي دارفور على ضمان تنفيذ الاتفاق، وحماية السكان ومساعدة النازحين واللاجئين على العودة إلى ديارهم، وستعزز البعثة من احترام حقوق الإنسان، وتهيئة بيئة مواتية لتحقيق المصالحة الوطنية".

أخفق الوعي العربي إخفاقاً ذريعاً في إدارة أزمة دارفور، لكن الفشل الأخلاقي أصعب ألف مرة من الفشل السياسي. تجاوز هذا الإنكار الأخلاقي الحكومات العربية وأصاب المثقفين أيضاً، وعلى رغم تأخر الوقت لا بد من التكاتف السياسي والثقافي والحقوقي والإعلامي لحماية أهالي دارفور، ولعل أي تحرك من هذا النوع قد يقلل من الحسرة وألم الضمير الذي ينتظرنا جميعاً جرّاء الصمت والسلبية.

بقلم معتز الفجيري ورضوان زيادة
حقوق الطبع الفجيري/زيادة 2007
صدر المقال في صحيفة الحياة

معتز الفجيري مدير البرامج في مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان
رضوان زيادة مدير مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان

قنطرة

هل سيعاقب المجرمون؟
بدأت تحقيقات المحكمة الدولية في لاهاي الهولندية في عام 2005 في جرائم حرب مرتكبة في دارفور. ومن الممكن لأول مرة أن يمثل متهمون بهذه القضية أمام المحكمة قريبا.

حرب من دون حدود
تتصاعد أعمال العنف في إقليم دارفور غربي السودان وكذلك في المنطقة الشرقية من تشاد الواقعة خلف الحدود السودانية. وتزداد حدّة النزاعين على الرغم من اختلاف الأسباب الكامنة خلفهما.