ما هو الحل؟

لا يبخل أوتو شيلي، وزير الداخلية الألماني، بنقد الطرفين الألماني والإسلامي، لكنه يطالب أيضا بحوار جدي مع الحضارة الإسلامية.

الحضارة الإسلامية هي أيضا في حاجة إلى قيم ديموقراطية عالمية

أوتو شيلي, الصورة: أب
شيلي, الصورة: أ ب

​​تساءل الكثيرون من الأمريكيين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر "لماذا يكرهوننا إلى هذا الحد؟". إن إجابتنا المتسمة بالإحباط لا ينبغي أن تكون على نمط ما قاله في السابق كاليغولا "فليكرهونا طالما كانوا يهابوننا".

علينا أن نسأل أنفسنا في مضمار البحث في تاريخ الشرق الأوسط عما إذا كان اهتمامنا قد انصب حتى الآن على قضية الاستقرار دون أن يولي مسألة التحول الديموقراطي إلا أهمية ثانوية. البعض هنا سيطرح بعض الاعتراضات ويوحي بأن الممارسات الديموقراطية في المجتمعات الإسلامية لم تكد تنهض إلا قليلا بالهياكل الديموقراطية الحقيقية وأنها أدت في حالات عديدة إلى تقوية الأحزاب الإسلامية ورؤيتها غير الديموقراطية للدولة والمجتمع. هذا من صلب التناقض القائم في الديموقراطية، إذ أنها في أسوأ الاحتمالات تلغي مفعولها بنفسها من خلال اقتراع أغلبية سكانية لا تؤمن بالديموقراطية.

كل هذه الاعتراضات تنفيها التطورات الراهنة، لا سيما ما يتعلق منها بالأوضاع في العراق. فهذا البلد يقف اليوم أمام مرحلة جديدة من تاريخه المعاصر. والسؤال يدور هنا حول إمكانية تكريس الفوز للسلام بعد تحقيق الانتصار العسكري. هل سيجلب النظام الجديد الديموقراطية وسيادة القانون وحقوق الانسان في منطقة، أو تحديدا في دائرة حضارية لم تكد تفرز حتى الآن توجهات ديموقراطية وثوابت متعلقة بسيادة القانون في الدولة؟

هذا النظام الجديد للعراق يشكل تحديا ليس صغيرا على الإطلاق. ألمانيا ستقدم في هذا المضمار الدعم بقدر إمكانياتها. وعلينا أن نكون مهيئين لحتمية تزامن التحول الديموقراطي مع اندلاع القلاقل والاضطرابات. إن تجاربنا في أفغانستان لم تكن حتى الآن ذات طابع إيجابي فقط. فتطبيق الديموقراطية وسيادة القانون وحقوق الانسان تسوده مصاعب جمة. وكون هذه التحولات تتطلب مزيدا من الوقت ليس إلا أحد جوانب المشكلة القائمة. وفي أسوأ الحالات تكون بدائل خياراتنا المنشودة نماذج حافلة بالخطر. وفي معرض تولينا لإعادة الإعمار فإننا نغوص أحيانا في مسار يبدو ظاهريا وكأنه حافل بالتناقضات. رجال شرطة ألمان يدربون مواطنين أفغانيين في هذا الحقل. هل بوسعي تبني ذلك في حالة ما إذا فرض على رجال الشرطة الأفغانيين ربما قريبا تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية؟ هل ينبغي علينا إرسال قضاة ومدعين عامين ألمانا إلى أفغانستان لإنشاء نظام قضائي مستقل فيها حتى في حالة اعتبار النظام القانوني الأفغاني لشهادة المرأة أمام المحكمة بأنها تعادل نصف شهادة الرجل؟ هذه قضايا عملية، لكن علينا أن نعطيها إجابات على الصعيد النظري أيضا.

مناقشات مثيرة للقلق

ألاحظ بأن هناك في إطار النقاش الراهن الدائر حول الديموقراطية وسيادة القانون وحقوق الانسان في البلدان الإسلامية تيارات فكرية سياسية مثيرة للقلق إلى حد كبير. فهناك نقاش حاد عما إذا كان هناك تناسب بين تيارات التحديث والديموقراطية وحقوق الانسان وبين حضارات معينة. قد تكون خلاصة هذا النقاش الذي تنطلق حججه من أرضية الهوية الحضارية، أن تركيبة المجتمعات الإسلامية لا تسمح على نحو دائم ثابت بظهور دساتير وأنظمة قانونية ديموقراطية. لكن الإعراض عن حتمية الالتزام بعالمية الديموقراطية وسيادة القانون وحقوق الانسان انطلاقا من فكر سياسي ما أمر حافل بالخطر. فهذا يعني إعفاء دائرة حضارية بكاملها من مسؤولية الكفاح من أجل القيم المتعلقة بالديموقراطية وسيادة القانون. وكل من استخدم هذه الحجة أضعف القوى الديموقراطية والعلمانية وقوّى رؤية الإسلاميين القائلة" نحن من حيث المبدأ نختلف عن الغرب ولا نريد أن ينظر لنا بالمعايير الغربية."

الزعم بوحدانية الدين والسياسة من قبيل الثوابت والبديهيات المطروحة في النقاش حول العالم الإسلامي. يضاف إلى ذلك القول إن السلطة بمفهوم الدولة العلمانية القائمة في العالم المسيحي ليست ممكنة في الإسلام. مثل هذه السلطة مرفوضة من قبل الإسلاميين. كبديل للنموذج الأوروبي المبني على أسس دولة القانون العلمانية ذات الدستور الديموقراطي يتم هنا طرح النموذج المثالي للنظام الإسلامي القائم في الدرجة الأولى على دعائم دينية.

لكن هذه الرؤية تتناقض تماما مع التعددية القائمة فعلا في العلاقة بين السياسة والدين سواء في أوروبا أو في العالم الإسلامي نفسه. على الرغم من ذلك فهناك نظرة سائدة بأنه من الضروري زيادة المعرفة حول الإسلام للتعرف بصورة أفضل على ما يسمى السياسة الإسلامية. وفي هذا الصدد يطيب كثيرا للمعنيين الاعتماد على آيات قرآنية مختارة لاكتساب المعرفة حول العالم الإسلامي على سبيل المثال بشأن الموقف من العنف وحول العلاقة بين الإسلام والحضارات الأخرى. لكن هذا التراشق المتبادل المبني على الاعتماد على آيات قرآنية معينة لا يعطي الناشطين في شؤون السياسة إلا قدرا ضئيلا من المعرفة. هل يترتب علينا أن نفهم القرآن للتعرف بصورة أفضل على العالم الإسلامي؟ هل يتعلم الغرباء المزيد عن حضارتنا من خلال دراسة الإنجيل؟ أعتقد لا. فمثل هذه الدراسات ينبغي أن تقتصر على علماء اللاهوت المختصين. أما المعرفة التي يكتسبها غير المختصين فإنها ترتكز على أسس خاطئة لكونها مبنية على محض الاستنتاج. ففي هذه الحالة تصبح الفروق المفترض وجودها بين الحضارات أساسا للمعرفة.

ما هو الحل؟

هل مفتاح الحل هو "الحوار مع الإسلام" الذي يدعو إليه العديدون؟ لكنني أتساءل دوما عن الطرف الآخر الذي أدخل معه في "حوار مع الإسلام". كما أن الخطر قائم بتوظيف هذا الحوار لأغراض سياسية. فعندما نجعل الحوار بين الحضارات بمثابة الملهم للسياسة فإننا نحول السياسة إلى مسألة حضارية. هذا يعني أننا لن نتناول القضايا السياسية في هذه الحالة بوسيلة سياسية بل تنقل إلى مجال الحضارة. لكن هذا يمنعنا من الوصول إلى التوضيح والحل المناسبين.

تحويل السياسة إلى مسألة حضارية يأخذ في الجانب الإسلامي سمة إصباغ السياسة بطابع الإسلام. عندئذ تنتقل خاصية "المحرمات" التي يتمتع بها الدين بحكمه يمتلك مرجعية تفوق مرجعية السياسة إلى الحضارة بما تملك من مقومات دينية. وهنا يخضع العمل السياسي لحماية الدين، مما يجعل الحضارات والأديان بهذا المفهوم ووفقا لمبدأ تعادل قيمها وحدات مقدسة لا تتقبل المساس بتاتا. لكن هذا يتنافى مع الفكر الديموقراطي وبالتالي لا يتفق مع قناعتنا. فتعريف السياسة والحضارة والدين كوحدات متطابقة يؤدي إلى إزالة ونفي التوجهات المتعددة القائمة لدى الأفراد والمجتمعات.
من خلال ذلك يصل الحوار ومعه العمل السياسي إلى طريق مسدود، ويتحول الأمر في أحسن الأحوال إلى التزامن في طرح المونولوجات لا أكثر. وهنا كان من المفيد النظر إلى القضايا الحضارية من منطلق الخبرة العملية أكثر من الرؤية النظرية المجردة. أقصد بذلك التطرق إلى الجوانب الحضارية طالما لعبت دورا في القضايا العملية. فمن خلال التركيز على هذه القضايا لا على القضايا المتعلقة بالحضارة يزول خطر الانطلاق من "الفروق الحضارية الأصلية" التي قد تكون مصطنعة ووهمية في حقيقة الأمر. وإلا أعطي المسلمون في أرض الواقع مقدارا من الهوية الإسلامية يفوق قناعتهم الفعلية. فالكثيرون من التابعين إلى مجموعة الحضارة الإسلامية لا يشعرون بأنهم مسلمون فقط بل كذلك بأنهم أتراك أو عرب أو إيرانيون أو أكراد.

الخروج عن عالمية حقوق الإنسان أمر خطير

المشاكل السياسية ينبغي أن تحل في الإطار السياسي نفسه. لهذا فإنني أطالب بحوار حول حقوق الإنسان وحول سيادة القانون، وحوار حول شرعية السلطة السياسية في العالم الإسلامي. لأن الطبيعة القمعية الاستبدادية للعديد من البلدان الإسلامية ليست من مخلفات تاريخ الإسلام وحضارته فقط بل هي مؤشر بقصور الشرعية السياسية. كل خروج عن عالمية الديموقراطية وحقوق الإنسان يشكل في نظري أمرا خطيرا. فلا يقول أي إنسان تم المساس بحقوقه كإنسان إن هذا الموضوع يخص الغرب وحده ولا يملك بالتالي مرجعية عالمية. أما الذين يزعمون ذلك فهم من خرق حقوق الإنسان.

مشكلة النقاش الدائر اليوم حول حقوق الإنسان أنه ينطلق من أرضيتين مختلفتين. يعتبر الكثيرون من المسلمين بأن حقوق الإنسان تعود إلى الإرادة الإلهية. هذا التفسير يختلف عن المفهوم الحديث النابع من الغرب والذي يعتبر حقوق الإنسان حقا طبيعيا يكتسب بالولادة ولا يمكن التفريط به. وهناك أسئلة تطرح نفسها بسبب وجود تلك الفروق. ومنها حالة حقوق الإنسان بالنسبة للأفراد المهملين لعلاقتهم بالله كالملحدين وأنصار الفكر الحر والفنانين ذوي النزعة الفردية المطلقة والعلماء البعيدين عن المنهج العقائدي وأصحاب النظرة المشككة في الأمور الدينية. هذه أمور ينبغي طرحها للجدل!

من بوسعه أن ينكر بأن فكرة حقوق الإنسان لدينا قد جاءت نتيجة تطور تاريخي ومرآة لنظرتنا العلمانية للعالم وللإنسان أيضا؟ لكن هذه الرؤية لا تنفي صبغة العالمية. إذ علينا أن نفصل شرعية فكرة حقوق الإنسان عن الظروف التي نشأت فيها. هذا يعني أن العالمية ليست المطابقة بين المعطيات المختلفة بل إنها تعني على عكس ذلك الحق في امتلاك الشخصية الذاتية المستقلة. علينا بالتالي أن نحترم حق الحضارات الأخرى في الربط بين فكرة حقوق الإنسان العالمية وبين خاصية حضارة القانون ، علما بأن أوروبا وشمال أمريكا قد استعملت هذا الحق أيضا. هذه الرؤية قد تقود الحوار بيننا إلى الأمام.

نقد ذاتي

إذا كنا نطالب الحضارات الأخرى بتكريس الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان فإن ذلك يتطلب عدم وجود ثغرات كبيرة لدينا بين تبني هذه المبادىء وبين الواقع التطبيقي. لهذا كان علينا أن نوجه أنظارنا في المقام الأول إلى موقعنا نفسه. لقد اختلفت مواقفنا حول الحرب في العراق، وستكون مرحلة ما بعد الحرب اختبارا لقدرتنا على احتواء هذه الخلافات. فنحن الآن بالذات في حاجة ماسة إلى وضوح الرؤية والالتزام المتبادل فيما يتعلق بالحقوق الأساسية التي ندافع عنها ونتمسك بها. ولا شك أن التحديات التي نواجهها في هذا الصدد في شطري المحيط الأطلسي مختلفة.
على ضوء بعض المناقشات الدائرة في أوروبا أود أن أحذر من الآراء القائلة بتهميش قيمنا، وبأننا قد بلغنا درجة من الشكوك تحد من قدرتنا على الدفاع عن القيم العالمية والكفاح من أجلها. هذا الأمر معروف في كل أنحاء العالم فيما يختص بالتعامل مع المتشددين. هذا ينطبق على المقولة الزاعمة بأن الرأي العام كلما ازداد ليبرالية كلما اشتد خطر امتصاصه من خصومه المناوئين للتوجه الليبرالي. وهنا يتم اللجوء غالبا إلى نهج الحجج التبريرية. وهناك في ألمانيا وغيرها من الدول تيارات تتضامن ظاهريا مع المسلمين انطلاقا من نظرية جوهرها أن أتباع هذه الديانة غير مؤهلين عمليا لاكتساب الديموقراطية.

لو نظرنا نظرة عابرة سريعة إلى الولايات المتحدة لرأينا بأن عالمية قيمنا تتسم هناك بحالة جيدة. لكن يهتم المرء هناك بمدى التوافق القائم بين النظرية والواقع العملي (مثلا غوانتانامو باي). فالسيطرة والهيمنة مبنيتان على استخدام القوة. فإذا كانت هذه القوة شرعية لما اقتضى الأمر استخدامها بصورة مستديمة. أما في الحالات الأخرى فإن استخدامها لا يتم بغرض التنفير الذي قد يلجأ إليه كمرة وحيدة لا أكثر، بل يصبح هذا الاستخدام دورة مستديمة من التهديد والإحساس بأن هذا الطرف موضع تهديد.

مقولة "فليكرهونا طالما كانوا يهابوننا" ليست الجواب المطلوب. لهذا فإن نجاح النظام الديموقراطي في العراق سيحتل أهمية فائقة، سواء لنا أو لهم.

صدر المقال بموافقة المكتب الإعلامي في وزارة الداخلية الألمانية يوليو/تموز 2003

أوتو شيلي يشغل منصب وزير الداخلية في حكومة شرودر.