غضب مكبوت في الشرق الأوسط

تواجه منطقة الشرق الأوسط تحديات وجودية لم يسبق لها مثيل من قبل. فقد عمق التواجد الأميركي في المنطقة، فضلا عن إنتشار الفقر وعدم الإستقرار السياسي السائد منذ عقود، الأزمة المؤسساتية في كافة بلدان المنطقة. مقالة كتبها فواز أ. جرجس

مظاهرة لأنصار الأخوان المسلمين في القاهرة، الصورة: أ ب
مظاهرة لأنصار الأخوان المسلمين في القاهرة

​​

الشرق الأوسطَ يَغْلي. وهو يغلي ليس فقط في فلسطين ولبنان والعراق. ما تعتبره النظرة الرسمية في واشنطن على أنه "لحظاتَ تصفية" ليس إلا أزماتَ مؤسساتيةَ عميقة تَهْزُّ مؤسساتَ المجتمعاتِ الشرق أوسطيةِ. هنا أُركّزُ على ثلاثة خطوطِ محوريةٍ من الصدوع:

الصدع الأول يتمثل في إتساع الفارق الإجتماعي الإقتصاديَ بين النخبة الصغيرة جدا وقطاعات كبيرة من المواطنين العرب. في أحزمةِ الفقر التي تُحيطُ بالمُدنَ العربيةَ، مِنْ مصر إلى السودان، هنالك ملايين المسلمين الشبابِ الذين يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة بدون أي تعويل مهما كان على النظام القائم.

وهنالك عدّة تطوراتُ جعلت هذه الفجوة الإجتماعية الإقتصاديِة الواسعِة بين الموسرين والمعدمين خطرة وهي:

الإستهلاك الإستحواذي وأجهزة الإعلام الجديدة التي تَصِلُ إلى كُلّ زاوية في العالم العربي والإسلامي، والوظائف الإجتماعية الهابطة للدولة العربية.

الفكر المليشوي يهاجر إلى أحزمةِ الفقر هذه. كان الفكر الإسلامي الجهادي عند إستهلالِه في منتصف السبعيناتِ نخبوياً بصورة أساسية. فقد قاد التيار الجهادي بعضُ ألمعِ الشباب العرب وأكثرهم تعلماُ منذ البداية وحتى منتصف التسعيناتِ.

والآن تمتد عقيدتُهم إلى أحزمةِ الفقر الحضريةِ في كافة أنحاء المنطقة. عمليات التفجير الإنتحارية الأخيرة في المغرب والجزائر مثال جيد على مثل هذا الأمر.

الفوضى القادمة

الحكمةَ المهيمنةَ في الولايات المتّحدةِ تشير الى أن نظامِ الدولة العربيةَ متينُ، لأنّه قاومَ صدماتَ مُخْتَلِفةَ. لكن الى متى يمكن أن تستمر هذه المتانة المفروضة؟ الثورات الاجتماعية غير محتملة في هذا المنعطف من التأريخ. لكن حادثة صغيرة جداً مثل حدوث اضطرابات حول لعبة كرة قدم، أو إحتجاج على إنتهاكات حقوق الإنسان من قبل أجهزة الأمن أو احتجاج على الجوع، يمكن أن تعجّل بفوضى شاملة.

أَتمنّى أَن أكون مخطئاً، ولَكنِّي لَنْ أُفاجَأ إذا ما إستيقظت يوما ورأيت الأحياءِ الغنيةِ في المُدنِ العربيةِ والإسلاميةِ تحترق بكاملها. إن هذا يعكس خزين الشكوى الذي يتراكم في المنطقة.

يتعلق الصدع الثاني بالفجوةَ الشرعيةِ المتزايدةِ بين النخبة الحاكمةِ العربيةِ والجماهير. لم يسبق أن كان فراغ السلطة الشرعيةِ واسعاً إلى هذا الحد. ومما يفاقم الأمر الأداءُ الإقتصاديِ المزري للدولة العربيةِ والتصور الواسع الإنتشارِ بين المواطنين أن الحكام العرب ليسوا إلا خدماً أذلاء للسياسة الخارجية الأمريكيةِ.

ثمة إجماع، خارج الدوائرِ الحاكمةِ، بأن الوضع الراهن لَمْ يَعُدْ فعّالاً أو حياً. وتَدْعو الأصواتُ المعتدلة إلى العصيانِ المدنيِ. الإسلاميون الراديكاليون والقوميون يَدْعونَ إلى الثورةِ المفتوحة.

البديل الفعال

لكن المفارقة هي أن المعارضةِ مُمَزَّقة. فلا عجب أن يشكل الإسلاميون نسبيا البديلَ الفعّالَ الوحيدَ للنظام الإستبداديِ "العلمانيِ". تمزقَ مجاميع المعارضة الإجتماعية والسياسية خلق إستقطاباً ثنائياً يشكل فيه الإسلاميون، خصوصاً الأخوان المسلمون، التحدي الرئيس للوضع الراهنِ. في كُلّ مجتمع عربي تقريباً، بدا الإسلاميون المعتدلون، على عكس الإسلاميين الراديكاليين، بأنهم القوة الإجتماعية والسياسية الرئيسة.

يُحمّل الليبراليون الأنظمة العربية المؤيّدة للغرب مسؤوليةَ خَلْق هذا الانقسام كنتيجة للنظم السياسية المُغلقةَ وعملياتَ القمع للعناصرِ العلمانيةِ التقدمّيةِ.

إخراس الأصوات التقدمية

ففي الوقت الذي نجحت فيه الحكوماتَ في إسْكات الأصواتِ التقدمّيةِ، فإنها أخفقت
في عَمَل ذلك مَع الإسلاميين. يَمتلكُ الإسلاميون مصادرُهم الخاصةُ التي تَشمل المساجدَ والمَدارِسَ والبنية التحتية الإجتماعيةَ. بطريقة ما، مَكّنَ الحُكَّامَ المسلمونَ الإسلاميين المعتدلين كي يُصبحوا البديلَ السياسيَ الفعّالَ الوحيدَ.

في إمبابا، أحد أفقر الأحياءِ المصرية قال لي مصري فقير: "إسمعْ، إَفترضْ أن إبنَي مرض في الثانية صباحاً، وكان في حالة خطرة. بمَنْ أَتّصلُ؟ من هناك؟" إنه يعتمد على الإخوان المسلمين ليرسلوا له طبيباً إلى بيته في منصف الليل. "لمن تُريدُني أَنْ أُصوّتَ له؟" يسَألني، "للحكومة أَم للأخوان المسلمين؟"

في السَنَوات الـ50 الأخيرة، إستنزفتْ النُّظُمُ الإستبدادية والشلل الأيديولوجيةَ قوّةَ المواطنين العربِ، ونفَرَتهم مِنْ العمليةِ السياسيةِ. إنهم مستاؤون مِنْ النخبةِ، المعارضة والنخبة الحاكمة، اللتين وَعدتا بالجنان ولم تجلبا سوى الغبار.

من المحزن، إن الإسلاميين لم يقدموا أية رؤية أو مبادرة لبِناء تحالف واسع مِن القوى الإجتماعيةِ لتغيير الفضاءَ السياسيَ. وما برحوا يُسلّحونَ أنفسهم بالشعارات ِالفارغة مثل "الإسلامِ هو الحَل".

الإنقسام الطائفي

أما الصّدْع الثالث فهو الأحدث ويتمثل بالإنقسام الشيعي السنيَ. حتى في المجتمعاتِ غيرِ الطائفيةِ تقليدياً مثل مصر واليمن والأردن، فإن لهذا الإنقسام وزنه. في المقابلاتِ، أخبرني بَعْض الإسلاميين الراديكاليين بأن الشيعة يمثلون تهديداً وجودياً للسنة هو أكثر خطرا عليهم من الأميركيين.

"أميركا لا يُمْكِنُها أبَداً إختِراق النسيجِ الإجتماعيِ للمجتمعاتِ السنيّةِ، في حين يمكن للشيعة أن يقوموا بذلك." وبالرغم من أن الإنقسام الشيعي السنيَ هو سياسيُ وأيديولوجي أكثر مِن كونه دينياِ، إلا أن ما طفح مِنْ حربِ العراق يهدّدُ الإنسجام الإجتماعي مِنْ لبنان إلى سوريا وحتى الخليجِ.

ولسوء الحظ، وسّعتْ الإستراتيجية الأمريكية في العراق من الفجوة بين إيران الشيعية والدول ذات الغالبية السنيَّة مثل مصر والعربية السعودية والكويت والأردن، باذرة بشكل غير مباشر لصراع طائفي عبر الدول. وتستغل الأنظمةُ العربيةُ المؤيّدة للغرب هذا الإنقسام لإسْتِئْصال المَد الإيرانيِ في الساحة العربيةِ.

إن الصيغة المهيمنة في هذه المنطقةِ القلقةِ تَرمي باللائمةَ في تَعميق هذه الصدوع على أميركا. وقد قيل لي مراراً وتكراراً، إن "التغريب" والعولمة والدعم الأمريكي لإسرائيل والأنظمة الإسلامية الإستبدادية، مضافاً إلى ذلك حربَ أميركا في العراق وأفغانستان، هي أسباب الأمراضِ التي تنخر في المجتمعاتَ الإسلاميةَ. قليلون هم الذين يعرفون جسامة الأزمةِ المؤسساتيةِ الداخليةِ التي تَهْزُّ المجتمعاتَ العربيةَ حتى النخاع. لذلك يبدو أن إلقاء اللائمةِ على أميركا الإمبراطورية هو الطريق السهلُ.

عجز بوش وموقف الإدارة القادمة

من العقم التَحَدُّث عن ما تستطيع إدارة بوشِ القيام به لمَنع تفاقم العداوات في المنطقة. يُمْكِنُنا فقط أَنْ نَنتظرُ الإدارةَ القادمةَ، الإدارة التي تَبْدأُ عملية َسل أو إخراج القوات الأميركيةِ مِنْ رمالِ العراق المتحرّكة وتحاول حلّ نزاعاتَ المنطقةَ الجيَّاشةَ، خصوصاً النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. على الإدارة القادمة، مع المجتمع الدولي، أن تتبنى مشروع مارشال كبير لمُسَاعَدَة العرب كي يُجدّدوا إقتصادياتَهم المُنْهَارةَ ومؤسساتَهم.

إن قوة عظمى مثل الولايات المتّحدةِ لها مصالح حيويةِ في المنطقةِ لا تَستطيعُ أن تبقي مكتوفة الأيدي. فالتحدي الرئيسِ الذي يُواجهُ مرشّحي الرئاسة الأميركيينَ في السياسة الخارجية يكمن في معالجة مشاكلِ المنطقةَ المعقدة – وإجتراح منهج إستراتيجي للعراق وللمنطقة ككل.

إن محادثاتي مع طيف واسع مِنْ زعماءِ المجتمع المدني والجمهورَ العربي أقنعتني أنه من دون ضغطِ مِنْ المجتمع الدولي، فإن الأنظمة العربية والإسلامية سَتُقاومُ الإصلاحَ. منذ إحتلالِ العراق والخراب الذي لحق به، لَا يولي المسلمون أي إعتبار جدّي لخطاباتِ إدارة بوشَ حول الديمقراطيةِ، ويرونها ذريعة لإخْضاع العالم الاسلامي.

تنفير الناس من الديمقراطية

يَقُول الليبراليون الآن لإدارة بوشِ، "رجاءً إتركْنا لوحدنا." لقد ألحقتَ الكثير من الضررِ بالقضية الديمقراطية".ِواستناداً على الإستطلاعاتِ العامّةِ، لا تحتل الديمقراطية رتبة عالية عند العرب. قضايا الخبز والسمن تأتي في مقدمة همومهم. تصبح الديمقراطية ترفا حين يكون البقاء الإقتصادي مُهَدّداً.

ولكن هذا لا يَعني أن العرب لايرحبون بالديمقراطية. إنما هو يعني أن خطابات الديمقراطيةِ تعني القليل ما لمْ تترجم إلى أعمال ملموسة، مثل المُسَاعَدَة على بِناء قاعدة إجتماعية مُنتِجة وإلتزام عالمي بحكم القانونِ وحقوقِ الإنسان وتخفيض التَوَتّراتَ بحَلّ النزاعاتَ الإقليمية المزمنة.

بقلم فواز جرجس
ترجمة كامل الزيادي
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة
صدر المقال في موقع ييل غلوبال

فواز أ. جرجس الذي يحتل كرسي كريستيان جونسون في الشؤون الشرق أوسطية والدولية في جامعةِ ساره لورنس، نيويورك، هو مُؤلف "رحلة الجهادي: داخل عالم الجهاد الإسلامي" الذي صدر أخيرا. يعمل جرجس حاليا باحثا في مؤسسة كارنيجي وأستاذا زائرا في الجامعة الأميركية في القاهرة.

قنطرة

تجذر مرعب للشمولية والشعبوية في الحياة السياسية العربية
ستغير حرب لبنان 2006 ولفترة طويلة، خريطة اهتمامات النخب والمواطنين في المجتمعات العربية. فبعد أن تميزت السنوات الثلاث الماضية بحراك سياسي غير مسبوق، وبنقاشات موسعة حول فرص وإمكانات التحول الديمقراطي عربياً، يعود اليوم الصراع مع إسرائيل إلى الواجهة ويدفع بمأساوية لحظته الراهنة الرأي العام العربي في اتجاهات بعيدة كل البعد عن حديث الديمقراطية. تحليل عمرو حمزاوي

الحل السياسي الشامل بدل المغامرات العسكرية
مرة أخرى تشتعل الحرب في منطقة تعاني من الكثير من الأزمات، حيث تشن الطائرات الإسرائيلية الغارة بعد الأخرى، فيما يقصف حزب الله المدن الإسرائيلية بالصواريخ. ما هو الحل؟ موريل أسبورغ تقدم تحليلا للأزمة وتطرح جدولا من الحلول الضرورية

www

Yale Global