جبران خليل جبران: صديق الإنسان و"فيلسوف الكلمة والريشة"

"تقف أعمال جبران في الحدود بين الشرق والغرب، بين الرمزية والمثالية، أسلوب الفنان جذاب، يرسم كما يكتب، ويكتب بالبصر كما لو كان يرسم، كيف يسعه أن ينكر الرسم الذي يسكنه منذ الطفولة؟"
"تقف أعمال جبران في الحدود بين الشرق والغرب، بين الرمزية والمثالية، أسلوب الفنان جذاب، يرسم كما يكتب، ويكتب بالبصر كما لو كان يرسم، كيف يسعه أن ينكر الرسم الذي يسكنه منذ الطفولة؟"

من هو جبران خليل جبران؟ تواجه محاولات الخوض في فن جبران عقبة كبرى تكمن في كونه واحدًا من تلك الشخصيات التي راكم التاريخ حولها كميات مذهلة من الهراء، كثير منه عائد إلى كتابات جبران نفسه، وطريقته في تقديم ذاته كوحي منزل بريء من الظروف المادية والتاريخية التي أنتجته.

الكاتبة ، الكاتب: يزن اللُجَمي

يجهل الكثيرون ممن ألهبت كتابات جبران خليل جبران قلوبهم مراهقين أن للكاتب مسيرة فنية توازي مسيرته الأدبية، من حيث الكمّ على الأقل. فقرية بشرّي، مسقط رأسه شمال لبنان، تحتوي وحدها على أكثر من 400 لوحة تكاد لا تتحرك، للأسف، خارج متحفها إلا في مناسبات قليلة، كان آخرها العام الفائت في باريس حين استُعرضت 25 لوحة لجبران في سهرة مغلقة لم تخرج منها إلّا صور شخصيات مهمة بالفرو والبدلات.

إضافة إلى عزلة تلك اللوحات وندرة الدراسات الجادة حولها، تواجه محاولات الخوض في فن جبران عقبة أخرى تكمن في كونه واحدًا من تلك الشخصيات التي راكم التاريخ حولها كميات مذهلة من الهراء، كثير منه عائد إلى كتابات جبران نفسه، وطريقته في تقديم ذاته كوحي منزل بريء من الظروف المادية والتاريخية التي أنتجته.

لكن من الضروري إعادة لوحات جبران إلى الأرض وقراءتها بشيء من النقدية. فاللوحة كغرض فني متنقل يحاكي الواقع ويجري تأمله لجماله، هي صنف غربي اكتمل نموه في القرن السادس عشر ولم يصل المشرق العربي حتى أواخر القرن التاسع عشر.

ظهرت أولى اللوحات في المنطقة عبر انتقال تدريجي لبعض الحرفيين من الرسم الكنسي (كما في حال داود قرم) أو الرسم الهندسي (مثل توفيق طارق)، وذلك لتلبية مطالب ظلت مرتبطة بالحاجات البرجوازية المحلية من بورتريهات رسمية أو مشاهد تاريخية خرقاء.

في ذلك السياق، وربما فقط في ذلك السياق، شكلت لوحات جبران طفرةً مثيرةً للاهتمام، خصوصًا وأنها تسمح بتتبع السوري الشاب أثناء اصطدامه بصنف فني كان يعيش هبّته الأخيرة في الغرب، ومحاولاته المتعثرة في تملك واستيعاب تلك التقنية وتاريخيتها بطريقته الخاصة.

 

"كل ما هو في محرفي من رسوم وصور أوصي به بعد مماتي لمسز ماري هاسكل مينس.. لكني أرغب إليها إن أرادت أن ترسل بعض هذه الأعمال إلى بلدتي" 

 



 

تجزم بعض المراجع أن أفراد من عائلة جبران اشتغلوا بالفن الديني قبله، وأن الصبي بدأ بالرسم منذ طفولته في بشرّي، القرية السورية العثمانية آنذاك، مظهرًا حساسية خاصة لطبيعة لبنان أو لأطلال بعلبك التي وثقها بمجموعة اسكتشات رصاصية.

لكن اللقاء الحاسم الذي سيحوّل جبران من مهاجر مُعدَم إلى الكاتب والفنان الذي نعرفه اليوم حصل عام 1896، بعد هجرته إلى الولايات المتحدة مع أمه وأخوته، وذلك عندما التقى فريد هولاند داي، المصور الأميركي الذي اشتهر بميوله الاستشراقية وبذوق خاص في تصوير الشباب اليافعين الأجانب. ولع داي بالسوري الصغير تشهد عليه بضعة صور آخاذة التقطها لجبران ابن الثلاثة عشر عامًا، تارة بلباس بدوي، وتارة بلباس مشرقي مترافقًا بجلد نمر وصولجان.

فهم جبران اللعبة المطلوبة منه ولعبها ببراعة، فقد قام داي بانتشال جبران من عشوائيات بوسطن نحو مجتمع أبيض معاد للحداثة ومتأثر بالـ«رمزية»، وهو تيار خاص بنهاية القرن التاسع عشر يقوم على المجازات والتلميحات، والأهم، على العودة إلى حضارات شرقية وبعيدة رأى أنها تمتلك الروحانية المفقودة في الغرب. تدريجيًا، تركت كتابات جبران رومانسيتها المتمردة لتتبنى نبرة رمزية تميل إلى كل ما هو غرائبي ونبوي في الشرق.

يعود الفضل إلى داي في تعريف جبران على أعمال كبار الفنانين الرمزيين الأوروبيين، حيث تذكّر أولى لوحاته المحفوظة بالشخصيات الضبابية والمستكينة للوحات الفرنسي ريدون، بينما تستحضر لوحته ميدوزا قرينتها للفنان البلجيكي كنوبف، بألوانها الباهتة والملامح المربعة والأنف المستطيل ذاته.

عام 1904 نظم داي أول معرض للوحات جبران في منزله، حيث تعرّف على راعيته التالية ماري هاسكيل، سيدة أميركية عاشت مع جبران علاقة وثيقة ومعقدة تضمنت وقوعها في حب لن يبادلها إياه. (في بورتريه ذاتي، يصور جبران ذاته في المقدمة مديرًا ظهره لامرأة ضبابية، غالبًا هاسيكل، والتي تقدم له، دون أن تلمسه، كرة زجاجية يأخذ منها إلهامه).

لكن هاسكيل لم تكن فقط مصدر إلهام ومعرفة، بل ومولت عام 1908 رحلة جبران إلى باريس ليعايش أحد أكثر المشاهد الثقافية صخبًا آنذاك، وليجري اختيار لوحته الخريف لتعرض في الصالون السنوي للجمعية الوطنية للفنون الجميلة.

في هذه اللوحة، يمتثل جبران إلى عرفين خاصين بالفن الرمزي، أولهما «التشخيص»، أي تمثيل أفكار مجردة كالفصول أو الفضائل بشكل بشري، غالبًا أنثوي.

أمّا العرف الثاني فيتعلق بالنظرة السائدة إلى المرأة آنذاك. فبالرغم من وعيه الثوري بحال المرأة العربية، أو ربما نتيجة ذلك الوعي، يأخذ جبران عن بعض الرمزيين نظرتهم المتطرفة بالاتجاه الآخر، نظرة جوهرية ترى النساء مخلوقات ضبابية وأزلية غير مفهومة يجب تقديسها. في اللوحة، تظهر المرأة الخريفية دون ملامح واضحة، تتماهي الألوان النارية لشعرها مع الخلفية: «إن المرأة التي تمنحها الآلهة جمال النفس مشفوعًا بجمال الجسد هي حقيقة ظاهرة غامضة نفهمها بالمحبة ونلمسها بالطهر، وعندما نحاول وصفها بالكلام تختفي عن بصائرنا وراء ضباب الحيرة والالتباس»، كما يقول في نص الشعلة البيضاء.

تأثر جبران أيضًا بفرع آخر من الرمزية أكثر أكاديمية، كما في لوحة والدة الفنان التي تعود إلى فترته الباريسية أو ما بعدها بقليل. بمقارنتها مع لوحة الأم للفنان السوري توفيق طارق من الحقبة ذاتها، تكشف لوحة جبران مدى تميزها. فبينما ظل الفن في المشرق العربي رهين أسلوب واقعي ضحل فكريًا إلى حد ما، تميز جبران بخيال مكنه من تركيب بورتريهات معقدة على الطريقة الرمزية. فالبورتريه كصنف فني يتطلب تجاوزًا للتقليد الحرفي لهيئة الشخص نحو شخصيته وعالمه الداخلي، نحو صورة نفسية معينة يقرر الفنان إعطاءها باستخدام حيل فنية.

عاشت كاملة رحمة مثلًا، أم الفنان، حياة صعبة تضمنت أكثر من زيجة وأبًا سكيرًا لأطفالها جرى اعتقاله، تلا ذلك هجرتها بصحبة ثلاث أولاد أعالتهم عبر بيعها للأقمشة في الشوارع حتى وفاتها بالسرطان. من غير المستغرب إذًا أن يصورها جبران كقديسة، حيث تظهر الأم المتوفاة آنذاك فتاة شابة ترتدي وشاحًا من زمن آخر، كما جرت العادة بتصوير مريم العذراء، كما تعقد كفيها وتغلق عينيها في حركة مريمية بامتياز. أمّا المنحوتة التي تستند إليها، فهي منحوتة آشورية حقيقية اكتشفت في نينوى، تظهر لبؤة مصابة تطلق صرختها الأخيرة، في تلميح آخر إلى معاناة أم جبران والمرأة الشرقية عمومًا، وإلى تعلق جبران بالفن الآشوري الذي رأى فيه ارتباطًا هوياتيًا. باستخدام تلك الأعراف الفنية، يضع الفنان أمه موضع مريم العذراء التي تعذبت من أجل ابنها (والنتيجة هي وضع ذاته، كالعادة، مكان المسيح الذي سينقذ البشرية من خطاياها).

تذكر اللوحة هذه بأعمال الرسامين الأكاديميين المعاصرين، مثل بوجرو بنسائه ذوات البشرات الرخامية اللواتي يتموضعن أمام أحجار قديمة، وخصوصًا، دي شافان، أحد أكثر الفنانين الفرنسيين كلاسيكية ومحافظة. في إحدى رسائله، يصف جبران دي شافان بأنه «أكبر مصوري القرن التاسع عشر على الإطلاق لأنه أبسطهم قلبًا، وأبسطهم فكرًا، وأبسطهم تعبيرًا، ولأنه أطهرهم نية»، بينما يرتبط اسم الفنان اليوم بالمباني الحكومية للجمهورية الثالثة، التي زينها بلوحات جدارية تدعو للعودة إلى زمن سرمدي من النقاء والروحانية وما إلى ذلك. ولا بد وأن جبران قد رأى جداريات دي شافان التي تزين جدران المكتبة العمومية لبوسطن، فالطبيعة الصخرية والأزرق البحري والشخصيات الضبابية المتناثرة لتلك الجدارايات نقلت بشكل شبه حرفي في بعض لوحات جبران.

تتزايد النزعة الكلاسيكية تلك في العقد الأخير لحياة جبران، فمع تفجر الفن الحديث في العشرينيات (والذي رفضه جبران ونظر إليه بفوقية منذ سنواته في باريس)، كان فنه يرجع أكثر في الزمن نحو أصولية توازي النبرة الواعظة لكتاب النبي وفكرة إنسانية منحطة «لم تعد قادرة على إدراك معاني النواميس العلوية الأولية الخالدة»، كما جاء في كتابه الأجنحة المتكسرة. عبّر جبران عن فكرة الخلود والكليّة تلك بمجموعة رسومات بالرصاص والألوان المائية تؤمها أجساد ضبابية في وضعيات مسرحية مستوحاة من أجساد مايكل آنجلو ورافائيل، وملامح مستوحاة من شخصيات دافينشي الغامضة. 

بينما تظهر كتابات جبران تغنيًا واضحًا بطبيعة جبال لبنان، تظهر خلفيات لوحاته الأخيرة تلك نسخًا معدّلة من الجبال المتطاولة والقاتمة التي تميز خلفيات لوحات دافينشي. قد يشكل ذلك إثباتًا إضافيًا على إحدى أولى القواعد في تاريخ الفن، وهي أن الصور غالبًا ما تقلد غيرها من الصور، ونادرًا ما تقلد الواقع أو مخيلة الرسام ولو ادعت ذلك. لكنه قد يكون كذلك تعبيرًا عن تماهي جبال لبنان الغائمة مع خلفيات دافينشي، وكأنهما يتلاقيان في ذاكرة وهمية بعيدة المنال. فبحسب بعض المراجع، أهدت أم جبران ابنها ذا الست سنوات كتابًا فيه صور لدافينشي ترك في الولد أثرًا صاعقًا. وعام 1925، كتب إلى مي زيادة: «يا ماري ما رأيت أثرًا من آثار ليونردو دافينشي إلا وشعرت بقوة سحره تتمشى في باطني، بل وشعرت بجزء من روحه يتسرب إلى روحي».

 

"لم يكن جبران الأول ولا الأخير الذي يقع في فخ الخلط بين الكوني والغربي، مستشعرًا في لوحات دافينشي وسيمفونيات بيتهوفن نوعًا من الطاقة البدئية العابرة للثقافات"

 

لا مهرب كذلك عند الحديث عن لوحات جبران الأخيرة من ذكر الشاعر والرسام الإنكليزي ويليام بليك، والذي كان بدوره في القرن الثامن عشر مثالًا على رفض الحداثة والعودة إلى عصر النهضة. ترك بليك الأثر الأكبر ربما على جبران كتابةً وفنًا (في فكرة الأجساد المتكدسة لدى بليك مثلًا، والتي ينقلها جبران حرفيًا) وحتى في رؤية جبران لذاته. فعندما رسم وجه المصطفى عام 1923 مثلًا، تلك الرسمة التي تزين اليوم الكثير من أغلفة كتاب النبي، قال لهاسكيل أن ذلك الوجه زاره أثناء رؤى ليلية متكررة استطاع خلالها جبران التقاط ملامحه، تمامًا كما فعل بليك في رسوماته الرؤوس الرؤيوية، التي نفذها عام 1818 قائلًا إنها منقولة عن رؤى ليلية لأشخاص أموات. في الحقيقة، تشكل ملامح المصطفى مزيجًا بين ملامح جبران الشخصية وملامح المسيح كما تخيله الغرب آنذاك، وقد يكون في ذلك المختصر لكل ما هو مدهش وإشكالي معًا في لوحات جبران.

لا يوجد حل سهل للتناقض بين سمعة جبران كفنان متمرد وبين لوحاته الأخيرة التي تظهر التزامًا بالأعراف الغربية بأكثر أشكالها كلاسيكيةً. لكن أحد المفاتيح لفهم ذلك التناقض قد يكون مفهوم جبران عن الكونية. فعندما كتب إلى هاسكيل قائلًا: «في الكتاب الذي أكتبه [النبي] أريد أن أستخدم صورًا ورموزًا كونية»، لم يكن جبران الأول ولا الأخير الذي يقع في فخ الخلط بين الكوني والغربي، مستشعرًا في لوحات دافينشي وسيمفونيات بيتهوفن نوعًا من الطاقة البدئية العابرة للثقافات، وغير مبالٍ بأن اللغة الكونية القادرة مخاطبة كل البشر، إن وجدت، هي حكمًا لغة الأقوى. قد يكون ذلك وراء استحالة التطرق إلى لوحات جبران دون التطرق إلى عشرات الفنانين الغربيين الذين يفوق حضورهم فيها حضوره هو، الشيء غير المزعج بحد ذاته لو لم يترافق بوعظه المستمر عن الفردية والتفرد.

لكن بين جبران الوريث المتأخر وغير الشرعي لفن أوروبي محتضر وجبران العبقري شفيع الأرواح المتمردة، لا بد من حل وسط، حل قد يكمن في قريته، بشرّي. فوحده من صعد وادي قاديشا نحو بشرّي في يوم ربيعي لرؤية تلك اللوحات تقبع وحدها فوق، في سقف العالم، يعرف مقدار السحر الذي تحمله تلك التجربة. لعلها فكرة النهايات المتشابكة، نهاية الفن الغربي، نهاية سوريا العثمانية، نهاية جبران في المهجر، أو لعلها فكرة الصبي المبهور الذي يسارع لإدراك خمسة قرون من الرسم الغربي في لحظات، أو لعلها فكرة أن يجد الفن الكلاسيكي الغربي ملجأه الأخير لا في فلورنسا ولا باريس، بل في ضيعة جبلية على الطرف الآخر من المتوسط، في الريشة الساذجة بعض الشيء لشاب عربي مهاجر التقط شعلة ذلك الفن قبل أن تدق الحرب التالية الوتد الأخير في نعشه.

 

يزن اللُجَمي

من مواليد دمشق، يدرس الآثار وتاريخ الفن في جامعة باريس - السوربون إلى جانب قيادة الأوركسترا، ويكتب في زاوية «صول» الشهرية التي تتناول قضايا موسيقية كلاسيكية وحديثة.

حقوق النشر: موقع حبر 2020