التقاط نور حكماء المسلمين

نداء داخلي دفع المصور البريطاني بيتر ساندرز للسفر أكثر من 50 عاما عبر المشرق والمغرب بحثا عن أولياء صالحين في الإسلام لتكشف صوره عن عالم بالكأد معروف. ماريان بريمر تصفح كتابه المصوَّر لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Marian Brehmer

يوجد منذ منتصف القرن العشرين في الغرب وعيٌ بعالم المعلمين الروحيين في شبه القارة الهندية. وقد أثَّرت كتبٌ مثل كتاب سوامي يوغاناندا "سيرة اليوغي الذاتية" على جيل كامل في الغرب من الباحثين عن المعنى تأثيرًا كبيرًا لدرجة أنَّ المخترع الأمريكي ستيف جوبز، على سبيل المثال، أمر بتوزيع هذا الكتاب في جنازته.

بينما الأولياء والمستنيرون في الإسلام بالكأد معروفون لأي شخص في الغرب. يوجد من التصوف الإسلامي خلال العصور الوسطى تقليد حيوي لتدوين السير الذاتية الخاصة بالمرشدين العظماء في شكل روايات وأساطير حول سير الأولياء الصالحين، ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ شهرة الأولياء المسلمين المعاصرين نادرًا ما تمتد إلى خارج حدود أوطانهم.

وهكذا أيضًا المصوِّر البريطاني بيتر ساندرز الذي دفعه شعوره بنداء داخلي إلى البحث عن الأولياء الصاحين في العالم الإسلامي وتصويرهم فوتوغرافيا من أجل الأجيال القادمة. ولنحو خمسة عقود من الزمن، سافر بيتر ساندرز ما بين شمال إفريقيا وجنوب شرق آسيا من أجل قضاء بعض الوقت في حضور المرشدين الروحيين الإسلاميين والتقاطه صورا شخصية لهم عند سماحهم له بذلك.

 

في كتابه المصوَّر "لقاءات مع الجبال" وثَّق بيتر ساندرز مرشدين روحيين من جميع بلدان المغرب العربي، وكذلك من مصر وتركيا وسوريا وشبه الجزيرة العربية وشبه القارة الهندية وآسيا الوسطى والصين. Spirituelle Führer aus verschieden islamischen Ländern. (Foto: Peter Sanders)
وثَّق بيتر ساندرز في كتابه المصوَّر "لقاءات مع الجبال" مرشدين روحيين من جميع بلدان المغرب العربي، وكذلك من مصر وتركيا وسوريا وشبه الجزيرة العربية وشبه القارة الهندية وآسيا الوسطى والصين. يضم هذا الكتاب صورًا شخصية مؤثِّرة، لا يوجد فيها أي شيء فولكلوري، بل تعطي انطباعًا عن قدرات التحوُّل العميقة في الروحانيات الإسلامية، مثلما يكتب ماريان بريمر.

 

ومع ذلك فقد كانت بداية حياة بيتر ساندرز المهنية مختلفة تمامًا: في لندن في فترة الستينيات، صنع هذا الفنَّان الشاب لنفسه اسمًا كمصوٍّر يصوِّر عظماء ثقافة الشباب آنذاك. وكان بيتر ساندرز يصوِّر بعدسته أساطير مثل المغنِّي الأمريكي بوب ديلان والعازف الإنكليزي إريك كلابتون وفرقة الروك الإنكليزية ذا رولينغ ستونز وقد التقط إحدى الصور الأخيرة لعازف الروك الأمريكي جيمي هندريكس قبل وفاته بسبب تعاطيه جرعة زائدة من المخدِّرات والكحول.

خاب أمله من مادية المجتمع البريطاني

"هؤلاء الناس كانوا في تلك الأيَّام شعراء عصرنا. كانوا يُعَلـِّقون على ما كان يحدث في المجتمع"، مثلما قال بيتر ساندرز في حوار عبر برنامج زوم وهو جالس في غرفة عمله وخلفه رف عليه كتب مصوَّرة وأسطوانات موسيقية: "لقد كانوا مرجعيَّتي قبل أن أبدأ رحلتي الروحية. ولكن بعد أن أصبحتُ مسلمًا، أصبح الحكماء مرجعيَّتي". وبالعودة إلى الخلف فهو يرى، بحسب تعبيره، أنَّ نجوم موسيقى الروك يشبهون شعراء الجاهلية - أي فترة الجهل في شبه الجزيرة العربية قبل النبي محمد - وذلك لأنَّهم لم يكونوا قدوة حقيقية يمكن للمرء أن يقتدي بهم في حياته.

وبعد أن خاب أمله من المادية ومذهب المتعة في المجتمع الإنكليزي، سافر بيتر ساندرز مثل الكثيرين غيره من معاصريه المتعطِّشين للمعنى إلى الهند باحثًا عن  الروحانيات. وفي عام 1971 وبعد أن رأى رؤية في المنام، اختار الإسلام طريقًا روحيًا له. وبعد ثلاثة أسابيع سافر إلى المغرب وأجرى لقاءً أثَّر في حياته - أي لقاءه بمحمد بن الحبيب، وهو شيخ ومؤسِّس الطريقة الدرقاوية الشاذلية الصوفية.

وتم توثيق لقائه هذا بمحمد بن الحبيب في شهر رمضان عام 1971 في بداية كتابه المصوَّر المثير للإعجاب "لقاءات مع الجبال". وبجانب اللقطة المؤثِّرة، التي يظهر فيها شيخ الطريقة الصوفية مرتديًا قفطانًا أبيض وعمامة وبعينين مُكحَّلتين ومسبحة، يصف بيتر ساندرز كيف تلاشى خجله الأوَّلي في حضور هذا الولي الصالح:

"شعرتُ وكأنَّنا دخلنا حوضًا صامتًا من السلام. وتحت نظره، تبدَّدت فجأةً مخاوفي بسهولة وبشكل لا يمكن تفسيره. تحدَّثنا قليلًا. وكان سيِّدُنا الشيخ يُشِعُّ رحمةً ملأت المكان. وعندما كان يبادرني بالكلام، كان يفعل ذلك برفق كبير وقبول لكلِّ ما كنتُ عليه في السابق، ومن دون أي حُكم".

ليست كاريزما، بل طبيعة الروح

وفي ذلك الوقت شعر بيتر ساندرز بما يوصف في التصوُّف بـ"الإنسان الكامل" - وهو الإنسان، الذي بلغ أسمى الدرجات في نفسه، وحول ذلك يقول: "النظر إلى وجوه هؤلاء الأشخاص فيه شيء خاص ومميَّز. فوجوههم جميلة. وهذا لا يتعلق بالكاريزما، بل يتعلق بالطبيعة النابعة من أعماق الروح. وهي رقيقة للغاية بحيث يمكن إغفالها بسهولة".

لقد وثَّق بيتر ساندرز في كتابه المصوَّر هذا مرشدين روحيين من جميع بلدان المغرب العربي، وكذلك من مصر وتركيا وسوريا وشبه الجزيرة العربية وشبه القارة الهندية وآسيا الوسطى والصين. يضم الكتاب صورًا شخصية مؤثِّرة، لا يوجد فيها أي شيء فولكلوري، بل تعطي انطباعًا عن قدرات التحوُّل العميقة في الروحانيات الإسلامية.

"لم يكن التقاط صور لأشخاص أمرًا سهلًا بالنسبة لي بتاتًا، وذلك لأنَّني خجول بطبيعتي. ولذلك كان يجب عليَّ أن أتشجَّع أوَّلًا. ولكن الأمر كان أسهل مع هؤلاء الناس، لأنَّهم غير مغرورين. أمَّا الأشخاص المغرورون فيرتدون أقنعة"، مثلما يقول بيتر ساندرز: "الكثير من هؤلاء الأولياء لم يتم تصويرهم من قبل. وهذا يعود إلى تواضعهم، لأنَّهم لا يريدون إعطاء انطباع بأنَّهم يُعتبرون شيئًا ما".

 

 

لقد لاحظ بيتر ساندرز على مر السنين أنَّ العديد من الشيوخ والأولياء قد ماتوا بعد أسابيع فقط من التقاطه صورًا لهم، وكان من بينهم أيضًا الشيخ محمد بن الحبيب، الذي توفي في بداية عام 1972 وهو في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج للمرة الثالثة. وما كان يبدو لبيتر ساندرز في بداية الأمر كسلسلة غريبة من الصدف سرعان ما قاده إلى استنتاج أنَّ: استعداد هؤلاء الشيوخ والمرشدين القدامى للتصوير كان نابعًا من معرفتهم بأنَّهم سيغادرون الأرض قريبًا.

وفي الواقع، غالبًا ما تكون صور بيتر ساندر هي الصور الوحيدة على الإطلاق التي تم التقاطها لهؤلاء الأولياء. وبالتالي فإنَّ صوره هذه تحمل أهمية تاريخية لم يدركها بيتر ساندرز إلَّا بعد ذلك. وفي هذا الصدد يقول: "من المهم أن نرى وجوه هؤلاء الأشخاص. يبدو وكأنَّ هذه الصورة قد تم إبعادها ويجب علينا إعادة صورة الإسلام هذه". ويضيف: "كثيرًا ما لا يعرف المسلمون اليوم لماذا هم مسلمون في الواقع. والكثيرون منهم يشعرون بالابتعاد عن الدين مثلما تتم ممارسته اليوم. نحن نعيش في مثل هذه الأوقات المليئة بالاستقطاب والانقسامات. ومن المهم الآن بشكل خاص الجمع بين الناس".

 

ماريان بريمر

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de

 

كتاب بيتر ساندرز: "لقاءات مع الجبال. لقاءات مع أولياء وحكماء العالم الإسلامي"، صدر عن دار نشر إنسبايرال بوكس، سنة 2019.