أبطال حياة مصر اليومية

القاهرة والأهرامات في الخلفية - مصر.
القاهرة والأهرامات في الخلفية - مصر.

كتاب رائع بالألمانية والعربية يعرض بصوره ونصوصه العاصمة المليونية القاهرة بطريقة خاصة في أكثر من 50 صورة تقدم بها الفنانة لمحة مؤثرة عن حياة الناس بهذه المدينة الكبرى. فولكر كامينسكي قرأ الكتاب لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Volker Kaminski

عبد المنعم الأحمد وعادل عبد الفتاح أحمد إبراهيم "شركاء في مشروع خدمات. شخصان يعملان بكرامة، وغالبًا ما يستخدما الطلاء الأسود في عملهما. فهما يعملان في تلميع الأحذية".

هكذا تبدأ ماريانه ماندا شرح صورة التقطتها لشخصين من أفقر أهالي القاهرة المعروضين في كتابها. وتُمكِّن الكاتبة في ذلك نظرتها الإنسانية إلى الأشخاص المُصَّورين واهتمامها بمهنهم وأعمالهم من معرفة مصائرهم. ونعرف في الكتاب أنَّ عبد المنعم وابن عمه عادل تركا قريتهما في صعيد مصر أثناء طفولتهما وأنَّ والد عبد المنعم اضطر إلى العمل كعامل تنظيفات في شوارع القاهرة من أجل إطعام أسرته المكوَّنة من ثمانية أفراد.

الغلاف العربي الألماني لكتاب "أنفاس القاهرة" للفنانة لألمانية ماريانه ماندا. Cover von Marianne Mandas "Der Atem Kairos", erschienen 2021 bei Edition Tandem; Quelle: Verlagbei
وجوه مدينة فريدة من نوعها: صوَّرت ماريانة ماندا في كتابها المنشور بالألمانية والعربية خمسين رجلًا وامرأة من أهالي القاهرة بطريقة جميلة. وركَّزت اهتمامها على الناس البسطاء: المكوجي، الذي يضع كلَّ يوم لوح الكوي خارج محله في الشارع، ورجلين يعملان في مسح الأحذية ويجلسان على الأرصفة يومًا تلو الآخر منتظرين الزبائن. جميعهم يعانون من الفقر ومن قسوة الظروف المعيشية. لقد قامت ماريانه ماندا بوصفهم وتصورهم على نحو يحفظ كرامتهم.

ونكتشف أنَّ ابني العم عبد المنعم وعادل يمارسان الآن عملهما المرهق هذا منذ خمسة عشر عامًا. ومن خلال مسحهما أحذية رجال الأعمال وتلميعها دمَّرا صحتهما "من الجلوس على الرصيف البارد وفي الزوايا الكثيرة الرياح"، لدرجة أنَّهما باتا يعانيان من التهاب المفاصل وهما في سنّ الخامسة والخمسين. ولكنهما يحافظان على "سعادتهما" ولا "يدعا ذلك يفسد عليهما حياتهما".

يزاول معظم "أبطال وبطلات" ماريانه ماندا، الذين كرَّست لهم كتابها هذا، مهنًا تقليدية غالبًا ما يُوَرِّثها الأجداد للأبناء وثم إلى الأحفاد: بقَّالون وخبَّازون وخيَّاطون وبائعو زهور ونادلون في مقاهٍ وبائعون يبيعون قلادات ونجَّارون يصنعون إطارات للصور - جميعهم يزاولون مهنهم ومن الممكن أن نلتقي بهم أثناء التجوُّل في شوارع التسوُّق بالقاهرة.

وتُعرِّفنا المؤلفة على المزيد عنهم: حيث نتعرَّف على طارق سعيد، الذي يمارس حرفة صانع الأباجورات (أغطية المصابيح) المهدَّدة بالانقراض ويخبرنا عن تراجع الطلب على منتجاته وزيادة الفقر في مصر وأنَّ المستفيدين الرئيسيين من "الربيع العربي" هم الشرطة والجيش وليس المواطنين.

المهن التقليدية مهدَّدة بالانقراض؟

يعيش حاليًا المجتمع المصري ذو الطابع التقليدي القوي تغييرًا جذريًا، بحيث أنَّ العديد من المهن التقليدية باتت مهدَّدة اليوم بالانقراض. إذ يتعيَّن على مَنْ يعمل في كوي الملابس أن يقف في الشارع وأن يضع لوح الكوي خارج محله. رضا حميد سعيد صقر "مكوجي" لا يزال يقف هكذا على الرصيف كلَّ يوم ويُحرِّك المكواة الساخنة فوق القمصان والسراويل. وهو لحسن الحظّ لا يكون وحيدًا أثناء عمله، لأنَّ جيرانه وأصدقاءه يجلسون معه ويبقون معه - "يحبُّون مرافقته أيضًا حتى الليل".

وتتبع كلَّ عرض موجز صورٌ التقطت المؤلفةُ العديد منها ويُشاهد فيها الأشخاص المُصَوَّرون أثناء عملهم. ولكن مع ذلك تبقى الصور سرِّية ولا تُحوِّل الأشخاص المُصَوَّرين وورش عملهم ومحلاتهم إلى معروضات.

وماريانه ماندا تؤكِّد على أنَّ "رحلتها الاستكشافية" عبر القاهرة تمثِّل "مشروعًا بحثيًا في عالم مجهول". ولكنها على الرغم من ذلك تقول إنَّ الكثير من المصريين لا يوجد في "كفاحهم اليومي" بحدّ ذاته "أي شيء فولكلوري"، ولكنه يعني ببساطة إصرارهم على "البقاء". وصحيح أنَّ ماريانه ماندا نفسها ألمانية، ولكن أصبح الشرق والقاهرة بالذات وطنها الثاني منذ فترة طويلة. وحول ذلك تقول: "أنا أرى بقلبي وأنظر من الخارج إلى الثقافة الغريبة عني".

اختارت ماريانه ماندا وعن قصد مكان إقامتها كنقطة بداية في مشروعها هذا. فهي تعيش في وسط البلد بالقاهرة، في شارع البورصة الجديدة، وهو شارع تجاري مزدحم تعرفُ مريانه ماندا معظم أصحاب المحلات الموجودة فيه. كما أنَّها تمر يوميًا من أمام محلاتهم وهكذا فقد كانوا على استعداد للظهور في كتابها.

حاورت والتقطت صورًا لبعض سكَّان العمارة التي تسكن فيها أيضًا، وهي بناية سكنية كبيرة عمرها مائة عام وفيها زخارف رائعة على طراز الفنِّ الحديث. ومن بين جيرانها، الذين حاورتهم وصوَّرتهم راقصةُ الباليه المشهورة الدكتورة مايا سليم سعيد شداد، وهي "أسطورة الباليه في القاهرة".

عرض لمدينة منقطعة النظير

وترافق ماريانه ماندا بحسِّها المرهف للنوادر غير المعتادة "أبطالها" خلال حياتهم اليومية، ومن بينهم على سبيل المثال سائق سيارة أجرة "متقاعد" يعرف خير معرفة "تفكير سرب" مستخدمي الطريق في "فوضى القاهرة"، ويقوم منذ سنوات عديدة بإحضار ضيوفه الدوليين من المطار وإيصالهم بأمان عبر جميع أنحاء المدينة إلى وجهاتهم. وهو الآن يحلم حلمه الأخير بأداء فريضة الحج إلى مكة. "سوف ينضم هناك إلى سرب الحجَّاج، الذين يطوفون متعبدين حول الكعبة".

ومن بين الجوانب الجذَّابة في هذا الكتاب أنَّ ماريانه ماندا كثيرًا ما تدمج صورها ضمن ملاحظات اجتماعية وتاريخية صغيرة. فهي تصف على سبيل المثال تحت عنوان "الخبز" (العيش) كيف يتم إنتاج الخبز تقليديًا منذ آلاف السنين، وتشير إلى أنَّ الخبز "يرمز منذ القدم إلى الغذاء والطعام. وبإمكان المرء أن يشبع منه".

ومن المثير للاهتمام أيضًا تصويرها مجريات العمل في صيدلية غالبًا ما يمكن فيها العثور على طبيب ممارس يفحص الزبائن داخل الصيدلية. وأثناء زيارتها حديقة حيوانات غير عادية تقع بالقرب من القاهرة، لا تبدأ ماريانه ماندا مثلًا بمدير الحديقة، بل تعود أوَّلًا إلى أسطورة الخلق وتحكي عن آدم وحواء في جنة مليئة بالحيوانات.

 

 

ويبدو أنَّ ماريانه ماندا قد تعلَّمت فنّ الخروج عن الموضوع والاستطراد في الحديث من الحكواتيين، رواة الحكايات والقصص الشرقيين. ولكنها لا تفقد نفسها في أدغال المدينة، بل تتوجَّه في كلِّ مرة بذكاء نحو الشخص، الذي اختارته. وبما أنَّ الأشخاص الذين اختارتهم يوجد من بينهم أيضًا صحفية ألمانية وشخص يوناني أمريكي يعمل مُلحنًا وقائد فرقة موسيقية، وكذلك سفير ألماني وفيلسوف نمساوي ومعجب بالصوفية، فإنَّ هذا يزيد من الجاذبية العالمية لعرضها الرائع لمدينة القاهرة المنقطعة النظير.

نادرًا ما يُقرِّبنا كتاب من مدينة ضخمة مثل القاهرة بمثل هذه الطريقة الأنيقة والمفيدة مثلما يفعل هذا الكتاب، الذي نشعر في كلِّ صفحة من صفحاته بمدى محبة مريانه ماندا لهذه المدينة وأهاليها. وهكذا فقد تمكَّنت من تقديم كتاب رائع باللغتين الألمانية والعربية، وبصور ونصوص تدعونا إلى الانطلاق في رحلة خيالية عبر مدينة مفعمة بالحياة وزاهية الألوان، وتزخز بمصائر الناس وأبطال الحياة اليومية.

 

 

فولكر كامينسكي

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de