مخاوف من القرن التاسع عشر

لم تنجح تركيا حتى اليوم في حل الكثير من القضايا الثقافية المتعلقة بحقوق الأقليات، فهي لا تعترف إلا ببعض الأقليات "غير المسلمة" أما الأقليات المسلمة من غير الأتراك فتنكر عليهم الكثير من حقوقهم الطبيعية. تقرير من سميران كايا.

​​لم تنجح تركيا حتى اليوم في حل الكثير من القضايا الثقافية المتعلقة بحقوق الأقليات، فهي لا تعترف إلا ببعض الأقليات "غير المسلمة" أما الأقليات المسلمة من غير الأتراك فتنكر عليهم معطم حقوقهم الطبيعية وتعتبرهم مجرد مواطنين أتراك. تقرير من سميران كايا.

عندما يتعلَّق الأمر بالأقلِّيات والمسائل الثقافية في تركيا نواجه نظريةً تعود الى العام 1923، أو لنقل إنَّنا نواجه معاهدة لوزان وفرنا سياسيا ثقافيا دائم الاحتراق اسمه "العارض المرضي لمعاهدة سيفر".

فتركيا لا تعترف رسميًا إلاَّ بالأقلِّيات التي ورد ذكرها في تلك الأيَّام في المعاهدة. وعلى الرغم من أنَّ الصيغة الأصلية للمعاهدة تتحدَّث عن "أقلِّيات" وحسب، فانه توجد في تركيا ثلاث مجموعات فقط تُعتبر من قبل الدولة التركية أقلِّيات "غير مسلمة": اليونانيون واليهود والأرمن.

خطر التهديد المزعوم

لا تعترف الدولة التركية بالأقلِّيات الأخرى "غير المسلمة" مثل البلغار-الأرثودكس والسريان-الأرثودكس أو الكلدان، الذين كانوا يعيشون في البلاد أيضًا إبَّان إبرام المعاهدة. كما لا تحظى أيضا الكنيسة الكاثوليكية والملل والجماعات الأخرى مثل شهود يهوه والطوائف الدينية الأخرى غير المسلمة باعتراف الدولة.

والسبب هو: أنَّ كلَّ ما لا يتبع الأغلبية المسلمة السنية يمكن أن يهدِّد وحدة الجمهورية التركية؛ سواء تعلَّق الأمر بدور الإسلام أو بالأكراد أو باللاظ أو بالعرب أو بالعلويين أو بأقلِّيات أخرى.

زد على ذلك أنَّ البعد اللغوي يلعب في ذلك دورًا أساسيًا. إذ أنَّ كلَّ من يتكلَّم لغة محلية أخرى إلى جانب اللغة التركية يمكن كذلك أن يسهم في انقسام البلاد. إنَّه الخوف الذي أدى على سبيل المثال الى أن يسمح فقط بعد مضي 81 عامًا من تأسيس الجمهورية بتدريس اللغة الكردية للمواطنين الأكراد الذين يتراوح عددهم بين ثلاثة عشر وخمسة عشر مليون مواطن.

الدفاع عن كل ما هو تركي

​​لا تعتبر اللغة هنا الميزة الأهم للأمة فقط. يُعتقد على حدّ تعبير الباحث في العلوم الإسلامية غونتر زويفرت في كتابه الذي صدر مؤخَّرًا حول تركيا أنَّ اللغة تعكس هوية الشعب. لهذا السبب تدافع الدولة التركية بشدَّة عن مثلها العليا الخاصة بالأتراك وكلِّ ما هو تركي، عندما يتعلَّق الأمر بالأقلِّيات أو بالشؤون الثقافية، حسب خلاصة زويفرت.

لذلك تعتبر الدولة التركية كلَّ مواطن من مواطنيها "تركيا" من دون أيّة اعتبارات عرقية أو ثقافية. تتّبع الدولة التركية سياسة دمج المواطنين هذه بغية التقليل من النزاعات العرقية. سلوك يصفه النقَّاد الأتراك بالهوس أو بصفة "العارض المرضي لمعاهدة سيفر".

عمليات تتريك

وبالتالي يتَّضح السبب الذي يجعل الدولة التركية تعتبر مجرَّد أن يصف شخص ما نفسه بكونه كرديا مثل ليلى زانة التي تعتبر نفسها كردية بمثابة انتهاك للمحرَّمات. ولكن كذلك الحال بالنسبة للمثقَّفين مثل الصحفية يلدا Yelda التي عرضت للمجتمع في كتابها في عام 1996 موضوع الأقلِّيات وأوردت الكثير من البراهين والحجج على أنَّ هؤلاء المواطنين يتعرَّضون للظلم والتمييز - سواء أكانوا من أبناء الأقلِّيات المعترف بها أم المحرَّمة، مما اضطرَّها إلى الهرب طيلة عام ومغادرة تركيا إلى ألمانيا. لقد حصل ذلك على الرغم من أنَّ أبناء الأقلِّيات كانوا يوصفون بصورة علنية في عهد رئيسة الوزراء السابقة تانسو تشيلر كـ"مواطنين من الدرجة الثانية".

لا ريب في أنَّ الحرب التي استمرَّت طيلة عشرين عاما مع الأكراد قدَّمت المزيد من الدوافع للقومانيين الأتراك، كما زادت عمليات التتريك الحكومية صلابةً فضلا عن أنَّها أدَّت إلى صدور المزيد من الأحكام المسبقة في حق المجموعات العرقية والثقافية.

مخاوف قومانية

أقرَّ باحثون في جامعة صابانجي الخاصة بأنَّ تاريخ تركيا كان ولا يزال يستخدم استخدامًا سيئًا من قبل القومانيين، وبأنَّ ذلك بدأ يتغيَّر ضمن الأوساط الأكاديمية. كذلك أقرَّ الباحثون بحقيقة ناقدة للذات مفادها أنَّ القومانيين الأتراك استطاعوا نقل مخاوفهم وأحكامهم المسبقة وعداواتهم التي تعود الى القرن الـ19 إلى يومنا هذا، وتبعًا لذلك لا يزال يُنظر في تركيا إلى الأقلِّيات أي الجماعات العرقية والثقافية بعين الخوف والريبة.

لكن أصبح الباحثون العاملون في الجامعات الحكومية أيضا يبذلون ما في وسعهم من أجل التعامل مع الأقلِّيات بشكل نقدي ومستنير. على سبيل المثال العالم السياسي باشكين أوران من جامعة أنقرة: "يُقال إنَّ الأكراد متساوون في الحقوق مع الأتراك وحتَّى أنَّهم يستطيعون أن يتوَّلوا منصب رئاسة الدولة. وهذا صحيح من النظرة الأولى. لكنَّه في واقع الأمر مجرَّد تهريج مضحك.

لا شكَّ في أنَّ الأكراد أو أبناء الأقلِّيات الأخرى يستطيعون حقًا في هذا البلد الوصول إلى أعلى المناصب الحكومية. لكنَّهم يدفعون لقاء ذلك ثمنًا باهظا: إذ لا يجوز لهم أن يفصحوا عن هويَّتهم الحقيقة".

العودة الى الصراط المستقيم

والآن يمكن أن يقول قائل ما إنَّ الهوية الدينية تسبِّب مشاكل أقل. غير أنَّ الدولة تراقب التديّن أيضًا بعين يقظة، كما أنَّ الإفراط في الدين والتديِّن يعرِّض التقدّم للخطر وعندما يكون هناك ابتعاد عن الدين تنادي الدولة بالالتزام بالهوية الإسلامية.

فهكذا تنظر الدولة على سبيل المثال إلى العلويين الذين تعتبرهم أقلية دينية والذين يشكِّلون بعددهم البالغ أربعة عشر مليون نسمة نسبة عشرين بالمائة من مجموع المواطنين الأتراك على أنَّهم مسلمون، يتوجب دعوتهم من جديد إلى الإسلام وذلك لأنَّهم قد ابتعدوا عن الصراط المستقيم.

وعلى أي حال فانه لم يسمح لهم أن يطلقوا على أنفسهم اسم "العلويين" إلاّ منذ عام 2002. حتَّى ذلك التاريخ كان يسري عليهم ما يسري أيضًا على كلّ الآخرين: توجّهات انفصالية باسم الدين. أمَّا أن تسمح الدولة الآن للعلويين بعد مضي عام على ذلك، أي في العام 2003، بتشكيل "مجلس رئاسة للإسلام العلوي" فهذا أمر مثير حقا؛ فعلى كلِّ حال يفترض أنَّ ربع العلويين من الأكراد.

تمييز ضد المسيحيين

​​ولكن أيضًا لم ينخفض مستوى الظلم والتمييز الذي تتعرَّض له الأقلِّيات المسيحية التي صارت تشكِّل في يومنا هذا بالمقارنة مع مجموع السكَّان ما نسبته 1.،. ، أي واحد من كلِّ مائة ألف نسمة؛ في حين كانت نسبة هذه الأقلِّيات في العام 1918 تصل إلى حوالي 25 بالمائة.

فهكذا لا تسمح لهم الدولة بالقيام بتدريب وتعليم رجال الدين في البلاد ولا أن يجلبوا مثل هؤلاء اللاهوتيين من دول الخارج. كذلك لا يُسمح لهم ببناء مبانٍ جديدة لطوائفهم وأخويَّاتهم ولا بتشييد كنائس جديدة. وهكذا يُعترف بالأرمن باعتبارهم أكبر تجمّع ديني كأقلية دينية ولكن ليس كأقلية عرقية. وحتَّى إذا كان يوجد لدى الطائفتين الأرمنية واليونانية أيضًا مدارسهما الخاصة، فإنَّه لا توجد لدى أيَّة طائفة دينية قوانين خاصة بها.

إنَّ الأمور واضحة لا ريب فيها بالنسبة للقس دوسيتيوس أناغنوستوبولوص من البطريركية المسكونية في إسطنبول: "عندما يريد المرء أن يتابع مسيره مع تركيا، فعندئذ يتحتَّم عليه ألا يخوض حوارًا تامًا، بل نصف حوار وهذا يعني «ما يشبه الحوار»". لكن متى سوف يُسمح لبطريرك القسطنطينية الأرثودكسي باستخدام لقب "البطريرك المسكوني" الخاص به باعتباره رئيس الأرثودكسيين في العالم، فهذا الأمر لا يزال في علم الغيب.

علاقة متناقضة

تمتاز الدولة والمجتمع التركيان على حدّ سواء بعلاقة متناقضة في التعامل مع الأقلِّيات. فعندما يتفوَّق أبناء الأقلِّيات يتبنّاهم الأتراك ويتفاخرون عن طيب خاطر بالنجاح الذي يحقِّقه أبناء الأقليات ويصنعون منهم أتراكًا "حقيقيين". وإلاّ فإنَّ الشكوك تثار حولهم.

لكن إذا ما تجاوزت تركيا مخاوفها الوهمية وتخلَّت عن قومانيَّتها التي تنتهج سياسة دمج الآخرين، فعندئذ سوف تستطيع من دون شكّ أن تفتخر من جديد بما ضاع من أحجار لوحتها الفسيفسائية الحضارية. وفي كلِّ الأحوال ينبغي لتركيا أن تعيد كتابة كتبها المدرسية وأن تثق أخيرًا بمواطنيها.

بقلم سميران كايا
ترجمة رائد الباش
حقوق الطبع قنطرة 2007

سميران كايا صحفية مقيمة في اسطنبول

قنطرة

تركيا والاتحاد الأوربي
ملف شامل يناقش العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوربي من جهة والعلاقة بين تركيا والعالم الإسلامي من جهة أخرى