رصاصات قاتلة أفسدت حفل كنيس جزيرة جربة التونسية

ضباط الأمن والشرطة التونسية في دورية بموقع الهجوم القاتل - جزيرة جربة - تونس.
ضباط الأمن والشرطة التونسية في دورية بموقع الهجوم القاتل - جزيرة جربة - تونس.

صُدِم حجاج يهود في جزيرة جربة بتونس بعد إطلاق نار عشوائي بمحيط كنيس الغريبة. منهم من أصروا على البقاء لأنهم "يشعرون بالأمان" وسط خشية من انهيار الموسم السياحي. متابعة طارق القيزاني.

الكاتبة ، الكاتب: Cathrin Schaer & Tarak Guizani

لم تغمض جفون ميخائيل حنا طوال الليل فقد ظل أزيز الرصاص بمحيط كنيس الغريبة يتردد في أذنه. ومع أنه ما يزال يكافح صباح اليوم التالي ليصحو من صدمته إلا أنه لا يخفي امتنانه إلى الله و"بركات" الكنيس لأنه لا يزال على قيد الحياة.

مثل الكثير من السكان اليهود بحي الرياض الملقب بـ"الحارة"، لا يغيب ميخائيل عن الاحتفالات الدينية الموسمية في كنيس الغريبة الأقدم في شمال أفريقيا، هناك يرسخ اليهود طقوسهم الدينية المتوارثة منذ قرون كأحد مكونات الهوية الثقافية المتنوعة في جزيرة جربة. لكن هذا العام لم تسر الأمور كما اعتاد ميخائيل الذي اضطر إلى مغادرة الكنيس في ذروة الاحتفالات بسبب أوجاع طارئة ألمت بزوجته.

غيابه تزامن مع هجوم مسلح قاده رجل أمن من مركز للحرس الوطني على أطراف الجزيرة، هناك قتل زميلاً له وكان هدفه التوجه إلى الكنيس على بعد كيلومترات لتنفيذ ما كان يجول بخاطره. ثم قتل اثنين من رجال الأمن واثنين من الزوار وأصاب آخرين قبل أن يجري تصفيته بالرصاص.

 

حجاج يهود يشعلون الشموع في كنيس الغريبة بجزيرة جربة التونسية. Jewish pilgrims light candles in El Ghriba synagogue on the Tunisian island of Djerba (image: picture alliance / DeFodi Images)
El Ghriba synagogue is an estimated 2,600 years old, making it the oldest synagogue in Africa and also one of the oldest in the world

 

بوجه مصفر يروي ميخائيل لـ دويتشه فيله عربية ما حدث معه من تفاصيل مرعبة "أحست زوجتي بدوار عدت بها إلى المنزل في الحارة، وتركت ابني الاثنين في الكنيس، عدت بعدها للاستمتاع بباقي السهرة مع أبنائي، ما إن وصلت إلى البوابة حتى بدأ وابل الرصاص ينهال في كل اتجاه. أصابت رصاصة زجاجة البيرة بيدي. أحسست بأنني سأفقد حياتي. لقد نجوت بأعجوبة".

يعتقد ميخائيل أن خرجة "المنارة"، أحد طقوس الاحتفال في الكنيس اليهودي، ألقت ببركاتها لتنقذه من خطر مشؤوم ولكن مع ذلك فهو لا يخفي قلقه البالغ من اهتزاز الوضع الأمني في الجزيرة.

ويضيف بنبرة متوترة "كان الوضع الأمني أفضل بكثير قبل 2011. هذه نقطة تحسب لحكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي قبل الثورة".

تصريحات ميخائيل أكثر تسامحا مع حقبة حكم بن علي والتي شهدت أسوأ ذكرى عبر التفجير الإرهابي بمدخل الكنيس عام 2002، والذي خلف 21 قتيلا من بينهم 14 ألمانيا.

منذ ذلك التاريخ أصبحت الاحتفالات الدينية في الكنيس التي تستقطب يهودا من أنحاء العالم، بمثابة اختبار موسمي للمؤسسة الأمنية في تونس، ولكن أيضا لمدى قدرة الدولة على تسويق صورتها كبلد يقوم على التعايش والتسامح بين الأديان في جزيرة تتميز بإرث قوي لليهود.

فقبل عقود كانت تعد الجالية اليهودية في تونس أكبر أقلية يهودية في المنطقة العربية بنحو مائة ألف حتى خمسينيات القرن الماضي ولها تأثير قوي في مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية وفي التجارة. ورغم مغادرة معظمهم إلى إسرائيل والدول الأوروبية لاحقا بسبب التوترات السياسية في المنطقة، فإن رابطا قويا ظل يشدهم إلى تونس فيحرص الآلاف منهم على زيارتها إما للسياحة أو للمشاركة في احتفالات كنيس الغريبة.

"أشعر بأمان في تونس"

يقول شارلي بيريز وهو يتحدث من شرفة غرفته بإحدى فنادق جربة "منذ الصباح يترجاني أبنائي لمغادرة تونس بسرعة والعودة إلى فرنسا. أنا أقسم أني لن أبرح تونس".

 

بعد هجوم كنيس الغريبة بجزيرة جربة .. شهود يهود تونسيون وأجانب يؤكدون لـDW عربية أن الهجمات لن ترهبهم!#تونس #كنيس_يهودي #جزيرة_جربة pic.twitter.com/T7zS0J7ZP3

— DW عربية (@dw_arabic) May 10, 2023

 

يعيش شارلي متنقلا بين فرنسا وإسرائيل ولا يفوت فرصة لزيارة تونس كلما أتيحت له مناسبة، بما في ذلك مواكبته الدائمة لاحتفالات الغريبة. ويتساءل العجوز السبعيني "سألتهم لماذا تريدون مني المغادرة هناك العديد من الهجمات في كل أنحاء العالم.. أشعر بأمان أكبر في تونس من تل أبيب ونتانيا".

على الرغم من مناهضة الرئيس قيس سعيد العلنية للتطبيع مع إسرائيل إلا أن زيارات الإسرائيليين من أصول تونسية إلى تونس لم يتم حظرها. وغالبا ما تسير الأمور عبر بلد ثالث قبل دخول تونس إذ لا تتوفر رحلات جوية مباشرة بين البلدين. وأسر رئيس الهيئة التنظيمية لكنيس الغريبة بيريز الطرابلسي في مقابلة سابقة مع دي دبليو عربية أن بالمئات من الزائرين يفدون بالفعل من إسرائيل.

بالنسبة إلى ماركو العضو المنظم لـ"خرجة المنارة" والمكلف بجمع التبرعات للكنيس فإنه عازم على تكملة طقوس الزيارة حتى نهاية الاحتفالات رغم مغادرة الكثيرين. وتحدث بأسف لدويتشه فيله عربية في أحد نزل الجزيرة: "تونس بلد مضياف وأهلها متأسفون أكثر منا. نحن محاطون بعدة شخصيات جاءت لدعمنا ولتقديم العزاء لنا...".

السياحة على المحك

لكن كلمات التضامن قد لا تكون كافية لحجب مخاطر أخرى تحيط بالجزيرة. فقد ترك قيس علوي عمله في نزل "تليماك" قبل الهجوم بثلاثة أيام ويستعد الآن للانتقال إلى عمل جديد في نزل "دار جربة" ولكن بعد الهجوم بدا أكثر قلقا وتوترا بشأن وضعه المهني.

قال قيس لدويتشه فيله عربية "التداعيات السياسية والدولية لا تعني السكان هنا في الجزيرة. الجميع يترقب ردة فعل الأسواق السياحية وما إذا كانت ستحصل موجة إلغاءات للحجوزات. هناك خطر محدق بالنزل وفرص للعمل".

 

فن حضري: لوحة جدارية ملونة - في جزيرة جربة في تونس. This colourful mural is part of the Djerbahood urban art project, Djerba, Tunisia (image: Chedly Ben Ibrahim/NurPhoto/picture alliance)
شريحة مجتمعية متناقصة: يعيش ما بين 1200 و 1500 يهودي في تونس حاليا معظمهم في جزيرة جربة السياحية. في الأربعينيات من القرن الماضي كانت الكنيسة في الجزيرة تتكون من حوالي 5000 نسمة. ورغم ذلك وبسبب التوترات في المنطقة المحيطة بإقامة دولة إسرائيل بدأ العديد من اليهود بمغادرة البلاد. وقد تكون الأزمة السياسية والاقتصادية المستمرة في تونس سببا أيضا للتفكير في الهجرة.

 

في رسالة طمأنة للعاملين بالقطاع السياحي الحيوي نفى وزير السياحة معز بالحسن الذي تنقل من العاصمة إلى الجزيرة التي تبعد حوالي 500 كيومتر قائلاً إنه لم يتم إلغاء حجوزات كما تسير حركة الطيران بشكل اعتيادي من وإلى الجزيرة.

يعلق القطاع السياحي آمالا كبيرة على الموسم الحالي لتدارك ركود استمر منذ جائحة كورونا وازداد تأثرا بالحرب الروسية في أوكرانيا. ويتطلع أرباب النزل والمؤسسات لاستعادة الأرقام القياسية لفترة ما قبل تفشي جائحة كورونا حينما استقطبت البلاد أكثر من 9,3 مليون سائح في رقم لم تعرفه تونس من قبل.

لكن هذه الآمال تظل مرتبطة بمدى قدرة السلطات على تبديد الشكوك حيال جاهزيتها الأمنية بعد اختراق خطير داخل المؤسسة الأمنية في الهجوم النوعي الأخير.

"ذئاب" داخل المؤسسة الأمنية؟

فلطالما اعتمدت السلطات على تعبير "الذئب المنفرد" في وصف المتشددين المارقين عن القانون والدولة لكن الذئاب هذه المرة تهدد كيان الدولة من الداخل. ويقول الخبير الأمني والعميد المتقاعد في الجيش المختار بن نصر لدي دبليو عربية إنه على الرغم من عدم اتضاح الأسباب والخلفية الأساسية من وراء الهجوم، إلا أن "ما حدث يؤكد حقيقة أن المتطرفين لا يزالون يعيشون بيننا ووسطنا وأن الإرهاب لم ينتهِ".

 

#Tunisia: 5 tourist buses carrying 240 visitors of #ElGhriba Synagogue arrived on Wednesday afternoon in #Gabes on a sightseeing tour & to visit Rabbi Yossef el Maarabi's grave in #ElHamma, said a local source, adding 400 to 500 visitors headed to the city in last 3 days. #TAP_En pic.twitter.com/YK8wj4F5VR

— TAP news agency (@TapNewsAgency) May 10, 2023

 

ويتابع بن نصر في تحليله "صحيح أن المخاطر اليوم ليست نفسها في 2015 عندما تعرضنا إلى هجمات في متحف باردو ونزل امبريال بسوسة وهذا يعود إلى العمليات الاستباقية المتتالية التي تم تنفيذها وتفكيك الخلايا الإرهابية، ولكن الخطر قد يأتي من الداخل وما حصل في الغريبة يجب أن يكون بمثابة درس يستفاد منه".

بالنسبة لبن نصر فإن الإنجاز الأهم من الناحية الأمنية أن قوات الأمن نجحت في تفادي كارثة أكثر دموية بسرعة تصديها للهجوم ومنعه من الوصول إلى داخل الكنيس، ومن الناحية الاقتصادية لم يحصل إلغاء للحجوزات على الفور.

لكن في كل الحالات سيكون من السابق لأوانه توقع مسار الموسم السياحي هذا العام. سيحتاج الجميع إلى مزيد من الوقت لاتضاح الرؤية.

 

 

طارق القيزاني - تونس 

حقوق النشر: دويتشه فيله 2023

 

ar.Qantara.de