حين تخرج الثورات عن مسارها

جداريات عليها رسم لصورة الكردية الإيرانية جينا مهسا أميني في دبلن.
جداريات عليها رسم لصورة الكردية الإيرانية جينا مهسا أميني في دبلن.

باستخدام مواد أرشيفية من إيران ورومانيا لم تسبق مشاهدتها يروي المخرج فلاد بيتري في فيلمه قصة امرأتين: زهراء وماريا، خلال ثورتين: إحداهما في إيران والأخرى في رومانيا. رينيه فيلدأنغيل شاهد الفيلم لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: René Wildangel

بعد ثلاثة أسابيع من عرضه العالمي الأوَّل في منتدى برليناله خلال مهرجان برلين السينمائي، عُرض فيلم "بين الثورات" في مهرجان سالونيك الشهير للأفلام الوثائقية. يروي هذا الفيلم قصة صداقة بين ثورتين غالبًا ما لا يتم الربط بينهما: الثورة الإيرانية التي أدَّت إلى سقوط نظام الشاه والثورة الرومانية التي أسفرت عن نهاية ديكتاتورية نيكولاي تشاوشيسكو. ومن المنتظر عرضه في مهرجانات أخرى، لأنَّ موضوع الثورة في إيران ما يزال حاضرًا ومعاصرًا جدًا.

تبدأ العلاقة بين ماريا الرومانية وزهراء الإيرانية خلال فترة دراستهما في بوخارست في السبعينيات. لقد أتت زهراء إلى رومانيا في تلك الأيَّام من أجل دراسة الطب، مثل الكثير من الطلاب القادمين من إيران ومن العديد من بلدان الشرق الأوسط.

أصبحت ماريا صديقة زهراء المفضلة، ولكن بعد ذلك عادت زهراء إلى إيران قبل الثورة بفترة قصيرة. ويشهد تبادل الرسائل الحميمة بينهما لسنين عديدة على علاقتهما العميقة وصداقتهما وحبهما - وكذلك على التغييرات الدراماتيكية الوشيكة في بلديهما.

آمال في إيران بعد سقوط الشاه

كتبت زهراء من طهران: "يحدث هنا شيء كبير. لقد حان الوقت والناس لم يعودوا خائفين". فقد بدأت الثورة في إيران ضد الشاه. وكتبت حول وجود طاقة مذهلة تشعر بها في الشوارع - "قوة الطبيعة". تقوم زهراء مع والدها بتوزيع بيانات ضد الشاه ومن أجل الديمقراطية وضد الإمبريالية - وتعبِّر عن صيغة لغوية تربط بين الثوار في الشرق والغرب. ولكن هذه البيانات تدعو قبل كلِّ شيء من أجل الأمل في الحرية. وتقاريرها هذه تجعل صديقتها في رومانيا تشعر بالفخر وكذلك بالقلق.

 

 

وصول آية الله الخميني إلى طهران في إيران عام 1979 من منفاه في باريس في فرنسا. Ayatollah Khomeini kehrt 1979 zurück aus dem Pariser Exil; Foto: acairan
وصول آية الله الخميني إلى طهران عام 1979 من منفاه في باريس: في البداية كانت الآمال كبيرة في نهضة حقيقية. غير أنَّ الصور التي يعرضها المخرج فلاد بيتري في فيلمه الوثائقي "بين الثورات" تثبت كيف تزداد الشكوك في مسار ما بعد الثورة الخاص بمشروع الخميني لتأسيس جمهورية إسلامية تأخذ بشكل متزايد سمات محافظة وتقييدية. بعد فترة قريبة، تخرج النساء إلى الشوارع بشكل جماعي من أجل الدفاع عن حقوقهن ومعارضة فرض الحجاب الذي تم في وقت مبكر.

 

يُوَثِّق المخرج فلاد بيتري ما تعيشه زهراء بصور أرشيفية قوية لم تسبق مشاهدتها وقد أخذها المخرج من التلفزيون الإيراني. تردِّد الجماهير في شوارع طهران هتاف "الله أكبر"، بصرف النظر عن كونهم يساريين أو علمانيين أو متديِّنين أو محافظين. وذلك لأنَّ هدفهم هو فقط تجاوز عهد الشاه المُرْهِق. لعبت النساء دورًا مركزيًا في تلك الثورة ولا يمكن بطبيعة الحال مشاهدة هذه الصور من دون التفكير في الاحتجاجات المستمرة منذ قتل جينا مهسا أميني والثورة الجديدة في إيران.

يتفاجأ المشاهد في لحظة محسوبة عندما يعلم في نهاية الفيلم أنَّ زهراء وماريا لم ترسلا لبعضهما رسائل قَطّ، وأنَّ من كتبها هي المؤلفة الرومانية المعروفة لافينيا برانيست، التي صاغتها من أجل فيلم المخرج فلاد بيتري. ولغتها حيوية للغاية ودقيقة للغاية لدرجة أنَّ المشاهدين يجدون صحتها كأمر مفهوم.

يتلاعب المخرج فلاد بيتري بمهارة مع الحدود المتداخلة بين الواقع والخيال ويمحوها عن قصد. وحول ذلك قال المخرج في حوار مع موقع قنطرة: "القصص الخيالية من الممكن أن تكون في بعض الأحيان أكثر وثائقية من الأفلام الوثائقية؛ وبعض الأفلام الوثائقية خيالية. وفي النهاية فإنَّ كلَّ شيء في الفيلم شخصيّ".

بين الخيال والوثائقي

يوجد أيضًا في الواقع عنصر من السيرة الذاتية في الفيلم: فوالدة فلاد بيتري درست مثل ماريا في السبعينيات وقد اكتشف ابنها فلاد في صور قديمة زملاء أمه في الدراسة من الشرق الأوسط وهكذا جاءته فكرة الفيلم.

يقول فلاد بيتري: "لقد أثار هذا اللقاء اهتمامي كثيرًا. فهو أيضًا لقاء بين الشرق والغرب - مع أنَّ رومانيا كانت بلدًا فريدًا جدًا ومعزولًا جدًا وكانت في المقابل من وجهة نظر أوروبا هي نفسها جزءًا من الشرق". وهكذا فإنَّ فلاد بيتري يتلاعب بوجهات النظر من دون الانزلاق إلى الكليشيهات. وقد أجرى خاصةً في ضوء الوضع الحالي في إيران بحثًا دقيقًا لرسم صورة دقيقة عن الأوضاع هناك.

وقصة الحب بين زهراء وماريا هي قصة خيالية ولكنها مكوَّنة من مصادر كثيرة. فمعظم المواد أصلها من الأرشيف الوطني لجهاز سكيوريتات، أي شرطة نيكولاي تشاوشسكو السرية سيئة السمعة، والتي كانت تراقب وعن كثب طلاب الشرق الأوسط وعلاقاتهم بالرومانيين. لقد عمل فلاد بيتري مع مؤرِّخين وتعاون مع العديد من الإيرانيين في مناقشة ومعالجة الفيلم وشخصيات أبطاله. وقد أمَّن منتج مشارك في إيران الصور الرائعة للثورة والسنين التالية.

وتتَّضح في هذه الصور أيضًا الشكوك التي تنتشر قريبًا في مسار ما بعد الثورة الخاص بمشروع الخميني لتأسيس جمهورية إسلامية تأخذ بشكل متزايد سمات محافظة وتقييدية. تخرج النساء إلى الشوارع بشكل جماعي من أجل الدفاع عن حقوقهن ومعارضة فرض الحجاب والذي تم في وقت مبكر.

وفي يوم الاستفتاء على إقامة "الجمهورية الإسلامية" الجديدة في شهر آذار/مارس 1979، سأل مراسلو التلفزيون الناس في الشوارع عن آرائهم في ذلك. نشاهد زوجًا وزوجته مع أطفالها وهما يختلفان في الرأي: يقول الزوج بشكل عابر إنَّه يريد التصويت بنعم؛ بينما تقول الزوجة بقلق إنَّها لن تصوِّت بنعم - فقد كانت المخاوف كبيرة للغاية من فرض المزيد من القيود الشديدة على حقوق المرأة.

صدمة جيل كامل

أخبرت ماريا في هذا الوقت صديقتها بالمراسلة زهراء عن تزايد القمع في رومانيا. وأنَّها مراقبة باستمرار من قِبَل "رجال يرتدون معاطف سوداء"، رجال الشرطة السرية الذين كانوا يراقبون في الواقع كلَّ لقاء وكلَّ رسالة بين الطلاب. تسقط بشكل متزايد العلاقة بين زهرة وماريا وما كان يمكن أن يكون ضحية البعد والظروف؛ تكتب ماريا أنَّها رضخت لضغوطات الأسرة وتزوَّجت، وهذا يبدو وكأنَّه استسلام.

 

 

والنساء لا يزلن يردِّدن في الشوارع "الموت للمحافظين"، ولكن بعد وقت قريب يتم قمع احتجاجاتهن بوحشية. وتترك الآن الحرب ضد العراق (1980-1988) أثرها على عقد كامل من الزمن. وهذا يتجلى أيضًا في الرسائل الواردة من زهراء، والتي تعكس كيف خرجت الثورة عن مسارها - تلك الثورة التي علقت عليها الكثير من الأمل. والجمهورية الإسلامية تُخيفها وتُدمِّر حياتها.

ويختفي والدها الحبيب ولذلك تنصح السلطات أسرتها بالكف عن البحث عنه. وتكتب زهراء لصديقتها: "هؤلاء الأشخاص هنا يشبهون تمامًا رجالك أصحاب المعاطف السوداء". وتخبرها في وقت لاحق عن ابن أختها ذي الخمسة عشر عامًا، والذي تم إرساله إلى الحرب. وتكتب زهراء بمرارة: "ثم سنصبح عائلة شهيد". إنَّ ما يرسمه فلاد بيتري كمصير لزهراء وعائلتها في الجمهورية الإسلامية الناشئة يمثِّل الصدمة العميقة لجيل كامل. لا توجد عودة - في الوقت الحالي.

رومانيا أيضًا كان ما يزال أمامها طريق طويل

وفي حين يجثم على إيران عبء ثقيل كالرصاص، تبدأ الانتفاضة ضد نيكولاي تشاوشيسكو في رومانيا، وتشبه الصور الآن تلك القادمة من إيران في عام 1979: تعود ماريا بذاكرتها إلى رسائل زهراء من الثورة والطاقة في الشوارع - "قوة الطبيعة" - الآن يخرج الناس إلى شوارع بوخارست بأعداد كبيرة ويهتفون "يسقط تشاوشيسكو!"

ولكن ماريا تتذكَّر في ساعة الحرية أيضًا نتائج الثورة في إيران وتكتب إلى صديقتها زهراء: "نحن الآن أحرار - ولكنني أعلم أنَّ الثورات يمكن مصادرتها". وتشير الصور المأخوذة من الفترة الانتقالية والخصخصة القادمة والتسويق ومعارك التوزيع إلى أنَّ رومانيا أيضًا ما يزال أمامها طريق طويل.

 

 

وتتوقَّف زهراء عن الإجابة. وتحزن ماريا على فقدانها صديقتها. وتتساءل: "متى يتلاشى الناس على الورق؟". ولا نعرف إن كانت زهراء قد سقطت ضحية لبلطجية الجمهورية الإسلامية أم أنَّها تهتف اليوم -مثل الكثير من نساء جيلها- في شوارع طهران "المرأة، الحياة، الحرية".

والرسائل التي يروي من خلالها المخرج والمؤلفون المشاركون قصة الفيلم مكتوبة بأسلوب شعري وحسي وهي قوية التعبير ومعقدة مثل الصور الأرشيفية الرائعة. ويتم عند ذكر أسماء المشاركين في الفيلم عرض بطاقات الهوية الجامعية الخاصة بالنساء الإيرانيات في رومانيا اللواتي كن مصدر إلهام لقصة زهراء وماريا.

نجح المخرج فلاد بيتري في إنجاز فيلم مميَّز ورائع يحكي عن القرب والبعد في علاقة حبّ وعن التزامن غير المتزامن في إيران ورومانيا وكذلك عن قوة الحرية التي لا يمكن كبحها.

 

 

رينيه فيلدأنغيل

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de