الإيمان الحر بعيداً عن أدلجة النص ومأسسة الدين

يسعى الكتاب إلى تحرير الخطاب الإسلاميّ من نسيج مفاهيم العالم القديم وإرجاع الدين إلى العقيدة بعد أن هيمنت عليه عبر التاريخ الشريعة.
يسعى الكتاب إلى تحرير الخطاب الإسلاميّ من نسيج مفاهيم العالم القديم وإرجاع الدين إلى العقيدة بعد أن هيمنت عليه عبر التاريخ الشريعة.

لا ينفي المفكر المغربي سعيد ناشيد حقيقة النص الديني أو يشكك بمصدره الإلهي. لكنه يحاول تحرير الخطاب الإسلامي من محاولات فرض سلطة على الضمير والعقل الإنساني. كريم شفيق قرأ الكتاب لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: كريم شفيق

"الإيمان تعبير عفوي قد يستدعي الخروج عن النص". تظل هذه العبارة، التي اختارها المفكر المغربي سعيد ناشيد في مقدمة كتابه: "الحداثة والقرآن"، الصادر عن دار التنوير ببيروت، مفتاحاً لكل الالتباسات والأسئلة والشبهات التي ستحوم حوله. 

وربما استعان المفكر المغربي بهذه العبارة المكثفة، التي تكشف عن حمولة معنوية بما فيها من بلاغة واضحة، لمواجهة النظر بريبة وتردد لموضوع كتابه، الذي يسعى من خلاله إلى إعادة موضعة الدين في ظل الانزياحات المعرفية الجديدة. فضلاً عن مسائلة النص، وتفكيك ما يبدو على أنه ثوابت للبحث عن مساحة إيمان حر وحيوي بدون قيود، ثم تبديد أي سلطة تقبض على حركة النص وتأويلاته.

محاكم التفتيش، التي تستنطق ضمير المفكر أو تفتش في عقله وتتعسف ضد أقواله وآراءه واجتهاداته، تؤبد واقع أو بالأحرى تجارب كثيرين على مدار التاريخ. فالتجربة الإيمانية معطى شخصي ذات خصوصية ملهمة، يخضع لها الفرد بكامل حريته وإرادته دون وصاية وتهديد توجهها وتفسد دلالتها الروحية العميقة. إذ إنه "في غياب الحرية العاطفية يصبح الحب اغتصاباً، وفي غياب الحرية الدينية يصبح الدين إرهاباً". هكذا يقول، مرة أخرى، ناشيد.

وكما يعبر عن الحالة ذاتها محي الدين ابن عربي الذي قال: "كان الله ولا شيء معه، كان كنزاً مخفياً، فأحب أن يُعرف فخلق العالم ليعرفه".

فالمعنى الصوفي الذي يتماس معه صاحب: "دليل التدين العاقل"، أن الأصل الوجودي لكل المخلوقات والأشياء في العالم أثر من آثار الله، وتعبير عنه، يدركها قلب العارف، ولا يمكن تقييده في نص يعد بمثابة مرجعية مطلقة وأزلية، تتجاوز التاريخ أو تتعالي على واقعه. فلا يمكن تعطيل الوجدان الإنساني من الاندماج أو التجربة والانخراط مع العالم اللانهائي والانفتاح على كافة الخبرات المعرفية في مقابل الخضوع لمحدودية النص.

وهذه المحاولات تبدو وكأنها ضغط لجوهر الروح الإلهية التي تتجلي في التاريخ. ويرى ناشيد أن التبدل والتغير والتطور يعد قدراً إلهياً بحسب النص القرآني الذي يصف الله بأنه: "كل يوم هو في شأن".

 

"في غياب الحرية الدينية يصبح الدين إرهاباً"

 

صورة رمزية لنسخة من القرآن الكريم; © Ali Najafi/AFP/Getty Images
يتناول كتاب "الحداثة والقرآن" موضوع القرآن بصفته ترجمة بشرية للصور الوحيانيّة، التي لها مصدر إلهي وربّاني بالفعل، غير أنها ترجمة أنجزها الرّسول نفسه في خطاب وجّهه إلى الناس في تلك العصور القديمة الماضية وفق ثقافتهم وظروفهم ومدركاتهم. لهذا السبب، لا يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن نقيِّم القرآن بمقاييس الحداثة السياسية والثورة العلمية وحقوق الإنسان، ولا يجوز لنا أن نتعامل معه كنصّ في العلم أو السياسة أو الأخلاق.

 

يتصدى المؤلف لمحاولات فرض سلطة على الضمير والعقل الإنساني. الأمر الذي يوثقه منذ لحظة اغتيال العقل في الإسلام لتنميط السلوك الديني وعدم إشاعة فكر مغاير لما يعتمده كهنة وسدنة الدين في القرن الرابع الهجري وهزيمة المعتزلة. وهو ما يحيل في التاريخ أيضاً إلى واقعة استغلال حديث الفرقة الناجية المنسوب للنبي محمد، والذي بدأ تفسيره أو بالأحرى توظيفه سياسياً منذ الدولة الأموية وتحديدا عقب توريث الخلافة من معاوية إلى ابنه يزيد، في ظل اتحاد السلطتين الدينية والسياسية، ما ترتب على إثره تعطيل الاجتهاد وغلق أبوابه. وأمست معارضة الحكومة عدواناً على الدين. ووصم المعارضة، أي معارضة، بالكفر والمروق.

ومن ثم، توالت انتصارات أصحاب نظرية الحق الإلهي والحديث باسم المقدس. فتحولت النصوص الإيمانية التعبدية في لغتها الحسية التصويرية والمجازية إلى قوانين ونصوص دستورية ونظريات علمية وقيمية وأخلاقية يتم توظيفها الأيدولوجي والبراغماتي لبناء مشروعية سياسية.

 وأمسى لكل كتلة اجتماعية وسياسيه مذهباً له مؤسساته ومجالسه العلمية وهيئة الافتاء التي تضمن الشرعية وتكفير المنافسين أو الخصوم. فصعدت للساحة أسماء حازت مركزية مثل أبي حامد الغزالي وابن تيمية، في حين تراجع إلى أقصى الهامش ابن رشد والفارابي وابن سينا. ويكاد لا يختلف الأمر في التاريخ المعاصر عن سوابقه، فكانت أفكار حسن البنا تهيمن وتحوز مساحات مؤثرة على حساب طه حسين وحتى نصر حامد أبو زيد.

لا ينفي المؤلف والمفكر المغربي حقيقة النص الديني أو يرفضه. كما أنه يؤمن بمصدره الإلهي. لكنه يقع على إشكالية تتصل بعملية الاستدعاء الدائم والمتوهم في المخيال الديني زمن السلف الصالح باعتباره النموذج والمثال النهائي الذي ينبغي العودة إليه وجذب واقعنا نحوه في انتظار تحقيق الزمن المهدوي.

وكما يتضح عدم القبول بفرضية تاريخ مفارق للبشر ونفي أي قداسة عنه، يفرق الكتاب بين ثلاث قضايا. وهم الوحي والقرآن والمصحف، باعتبارهم ظواهر تشكلت داخل التاريخ متتبعا حدوثها واكتمالها والتحولات الطارئة عليها.

فالوحي هو "الصور الوحيانية التي استشعرها الرسول عبر قوته التخييلية". وهو هنا يعتمد آراء فلاسفة الإسلام كابن عربي والفارابي. الامر الذي لا يختلف كثيرا عن ما قاله الفيلسوف الهندي باروخ سبينوزا في القرن السابع عشر بأنه "لم يتلق أي شخص وحيا من الله دون الالتجاء إلى الخيال، أي كلام أو صور، وينتج عن ذلك أن النبوة لا تتطلب ذهنا كاملا بل خيالا خصبا".

فالقرآن هو ثمرة جهد الرسول في تأويل الإشارات الإلهية لعبارات بشرية، بحسب لغته وثقافته وبيئته. وهو ما استغرق ما يقرب زهاء ربع قرن. ويصل إلى أن المصحف العثماني الذي وصل لأيدينا بترتيبة وتبويبه، هو نتاج جهد المسلمين الذين قاموا بتجميع هذا التراث الديني وتدوينه لما يقترب من نصف قرن. وعليه فإن "كلام القرآن هو كلام النبي المؤيد من الله".

 

"أدلجة النص ومأسسة الدين تضعان جملة ضوابط لمنع إرادة المؤمنين وإخضاعهم في دوائر نفوذ السلطة المستحدثة"

 

 

 

 

ويتضح من سياق التحليل التاريخي رفضه المفهوم التقليدي للوحي، والذي قدمته الأنظمة اللاهوتية، بأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به لفظا ومعني على الرسول. وهذا التصور بأزلية النص ووجود تصور خطي له وكل حرف فيه بحجم جبل قاف، كما شاع في التصور الديني القديم، وهو جبل أسطوري يحيط بالأرض من كافة نواحيها، نتج عنه تحول النص إلى أيقونة مقدسة للتبرك والزينة، واستغلاق النص على أي محاولة للفهم وتحليل بنية النص اللغوية ودلالتها.

تحيل هذه النظرة التقليدية إلى ضرورة استكشاف الخلفية الثقافية السائدة قبل الإسلام. وهي تؤشر إلى ثمة ارتباط عضوي للنص الديني مع الشروط التاريخية لحظة نزول الرسالة بدون تجاوز الباراديم الثقافي، وكذا النظام اللغوي السائد والجهاز المفاهيمي الذي يحكم الجماعة وقتها. وهناك دلالات جمّة تؤكد هذه الحقائق الموضوعية. ومنها الآيات التي تتحدث عن الربا والربح والميزان والمكيال والمثقال. وكلها تشير إلى نمط إنتاج تجاري. فضلاً عن تشريع حد لقاطع الطريق باعتبار ذلك ضمن هواجس التاجر الذي ينتمي لتلك البيئة.

 

"القرآن هو ثمرة جهد الرسول في تأويل الإشارات الإلهية لعبارات بشرية، بحسب لغته وثقافته وبيئته"

 

واختيار آلية الوحي بحد ذاتها لنقل وتبليغ الرسالة بواسطة الاتصال بكائن أعلى ومرتبة وجودية أخرى، كان مقبولاً وضمن السياق التداولي للثقافة العربية، آنذاك، والذي كان يؤمن باتصال بعض البشر من شعراء وكهانة لعوالم أخرى، مثل عالم الجن، وهي نفسها الاتهامات التي وجهت للرسول على أنه ساحر أو شاعر، كما ورد بالقرآن.

إذا، ثمة محاولات سلطوية تصادر حق الإنسان في تعبيره الحر عن إيمانه، في حيزه كفرد مبدع، وتقطع عليه دأبه في الوصول لمعنى لوجوده. الأمر الذي يترتب عليه إخفاقات متتالية وتاريخية في الوصول لصياغة حقيقية للإصلاح الديني، الذي يبدأ بإعادة التفكير في كافة المسلمات الموروثة التي انتقلت إلينا. مع الأخذ في الاعتبار أن الدين قد تجلي قبل ظهور المؤسسات والقوانين والدستور والمناهج العلمية.

لكن أدلجة النص ومأسسة الدين تضعان جملة ضوابط وربما معضلات لمنع إرادة المؤمنين وإخضاعهم في دوائر نفوذ السلطة المستحدثة. هذا الصراع تتبدى معالمه أو بالأحرى تصدعاته من خلال محاولات تطبيق الدين قسراً في عوالم لم تعد تحكمها قيم "الولاء والبراء" كما لا يعترف بـ"السبايا" و"ما ملكت أيمانهم" و"الجواري". وفي المحصلة "يتحول الخطاب القرآني من رسالة تعبدية تنطلق من جوارح المؤمن إلي وصايا أبدية تعطل الإبداع وتشل الإرادة ويحولون القرآن إلي عائق من عوائق التحديث".

 

كريم شفيق

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de

 

 

------------------------------------------------------

 

المزيد من المقالات حول معضلة الإصلاح في الإسلام

نقد الذات التراثية استفادة إسلامية من الكنيسة اللوثرية

هل كان المفكر نصر حامد أبو زيد مصلحاً لوثراً إسلامياً؟

الإصلاح الديني في المسيحية والإسلام

معضلة الإصلاح في الإسلام 

الإسلام لا يحتاج مصلحاً دينياً مثل مارتن لوثر!