تحية الى ايتيل عدنان: براءة الطفولة وحكمة الشعر

قلت في سري: لو نرمي في سماء لبنان مليون عصفور من أجل أن يمارس الصيادون اللبنانيون غريزة القتل، ويجنبوننا المجزرة».

هكذا رأت ايتيل عدنان بيروت بعيون العصافير، لكن الصيادين قتلوا العصافير بينما استمرت المجزرة.

«ست ماري روز» ليست فقط إحدى أوائل الروايات التي تعاملت مع الحرب الأهلية اللبنانية، لكنها أيضاً قصيدة ولوحة وشهادة.

ماري روز بولس، بطلة هذه الرواية، كانت إنساناً حقيقياً جسّد خطفه وموته الصراع بين الهمجية والبراءة وبين الكابوس والحلم. امرأة وحيدة واجهت وحشية الذكورية والتفوق الطائفي في بلد انتحر على أيدي من ادعوا بأنهم أبناؤه.

لماذا نقرأ هذه الرواية بعد خمسة وأربعين سنة مضت على نشرها؟

ايتيل عدنان حاضرة في غيابها، من خلال شعرها المدهش وأعمالها التشكيلية الرائعة، غير أن حضورها هنا مختلف؛ صوتها يمتزج بصوت بطلتها، كما أن مناخات السرد توحي بأننا أمام لوحة لونتها الكاتبة بالألم.

قصيدة- رواية كتبت بلغة ما بعد اللغة، جاعلة من القراء يتماهون مع الضحايا ومع الصم- البكم الذين لم يكونوا يملكون سوى خيار الرقص بعد إعدام معلمتهم.

حكاية ماري روز كامرأة خُطفت وقُتلت هي واحدة من سبة عشر ألف حكاية أبطالها رجال ونساء واجهوا المصير نفسه.

هذه الرواية تعبر عن مأساة الذاكرة. لقد قام القتلة بمحو أثر ضحاياهم من أجل إجبارنا على نسيان الجريمة. فُرض النسيان على جميع أوجه حياتنا. كل ما تم بناؤه بعد نهاية الحرب كان نصباً هائلاً للنسيان.

«أنا أنسى إذا أنا موجود»، هذه هي المعادلة التي فرضتها الطبقة المهيمنة.

لجأت الذاكرة إلى الأدب لأنه صار مكانها الوحيد، فالأدب رفض الأيديولوجية السائدة التي قرأت النسيان بصفته غفراناً. فالنسيان لا يستطيع أن يغفر، لأنه يدفن الذاكرة في كلمات لا تُقال، مخبئاً المرارات، ومؤجلاً الانتقام.

المدخل الوحيد للغفران هو التذكر، والطريق الوحيدة للنسيان هي الكتابة.

هذا هو سر الأدب الذي يفتح الجروح من أجل أن يضمدها بسحر الكلمات.

«ست ماري روز» هي حكاية عن جمال حياة امرأة واجهت الوحشية، وعن حلم امرأة بأنها قادرة على الدفاع عن العدالة والحب.

تبدأ الرواية بمشروع منير لصناعة فيلم سينمائي في قرية سورية بالاشتراك مع الراوية، وسيكون الفيلم متمحوراً حول جماليات الحياة هناك، غير أن انفجار الحرب سوف يغير كل شيء، وسوف يجد القارئ نفسه أمام نهايتين:

الأولى هي نهاية مشروع الفيلم بخطف مجموعة من العمال السوريين وقتلهم على أيدي رجال الميليشيا في بيروت الشرقية.

الثانية هي إعدام ماري روز على أيدي منير وأفراد مجموعته.

موتان قتلا الحلم، في الموت الأول قام الحالم، وهو بورجوازي لبناني، بقتل حلمه. بينما سيبقى الحلم الثاني حياً رغم اغتياله، وسيصبح جزءاً من ذاكرتنا النازفة.

في أسلوبها السردي المتقطع، تبقى ايتيل الرسامة التي عرفناها، عبر ألوان الحياة التي تتفجر في لوحاتها:

«يجب أن نستيقظ باكراً حتى نرى المشهد ينجلي بالنور الصاعد من وراء جبل صنين: آنذاك، فإن هذه الأحجام بألوانها الشاحبة الرقيقة التي لا يتدخل في إيقاعها أي شكل خارجي… تمنحني في كل مرة شعوراً بالرهبة قريباً من الصوفية».

التلوين بالكلمات سوف يفتح الباب أمام الشعر.

«المغامرة السياسية، التي يجهلون، تشبه المغامرة الشعرية. ما يشترك به تشي غيفارا وبدر شاكر السياب أنهما لا هذا ولا ذاك، ولا يمكن تقليدهما. فالمرحلة التالية مرحلة القصيدة أو مرحلة المسيرة في الأدغال هي التي تحددها».

سوف يقودنا السياب إلى غسان كنفاني، كما سيدلنا غيفارا إلى طريق الفدائيين.

هذه هي رحلة ماري روز.

ماري روز بريئة كمؤلفة الرواية، ففي كل لقاء لي باتيل وسيمون، كنت أصاب بالدهشة من قدرتهما على الاحتفاظ ببراءة الأطفال وحكمة الشعراء.

«ليس الموت بصيغة الجمع… ليس هناك ملايين الموتى، بل يحدث أن يموت أحدنا ملايين المرات». حكمة الشعراء تقود المؤلفة لكتابة مرثية مبكرة لبيروت، أما براءة الأطفال فتستنبط لغة ملائمة للصم – البكم، شهود هذه الرواية وضحاياها في آن معاً.

في محاكمتها (التي تشبه واقع النظام القضائي اللبناني في هذه الأيام القيامية) سوف تكتشف ماري روز أنها دخلت عالم ما بعد اللغة.

ما بعد اللغة ليس الموت، ما بعد اللغة هو البحث عن لغة تتجاوز اللغة، لأنها مكتوبة بحروف الألم. هذا ما أوحت لي به عينا نبيلة سلباق برير، التي اغتيلت في بيروت الغربية عام 1986 لأنها فلسطينية.

القاتل نفسه لبس قبعتين مختلفتين لأنه شعر بأن عيني امرأة تهددانه. امرأة جسدت حب الحياة وإرادة التماهي مع المهمشين.

ماري روز ونبيلة ومئات النساء والرجال قتلوا لأنهم حاولوا إيقاف طوفان الانحطاط الذي سيقوم بتدمير لبنان والمشرق العربي.

سوف يقود تشظي المجتمع اللبناني اتيل عدنان إلى اكتشاف بنية نصها المتشظي.

الأصوات تولد من الأصوات، ماري روز تعطي صوتها للمؤلفة، بينما تقوم المؤلفة باكتشاف لغة الصم- البكم من أجل أن تصل إلى لغة الصمت وإلى مبنى حكائي متعدد المداخل.

مأذا أقول لماري روز وتلامذتها الصم-البكم في هذه الأيام الصعبة؟

صارت «اليوتوبيا» إلى «ديستوبيا»، وبيروت تغرق في الفوضى والدمار.

«ماذا يمكن أن نفعل في هذا العيد-المضاد سوى أن نرقص؟

وقف الصم- البكم، بعدما عبر إلى أجسادهم إيقاع الأرض التي تضربها القنابل، وراحوا يرقصون.

عفواً ايتيل، لم نعد نمتلك رفاهية الرقص، فلقد قام الصيادون أنفسهم، الذين لا يزالون يحتلون المشهد ويريدون أخذ بيروت إلى موتها، قام هؤلاء بقتل رقصة اللبنانيات واللبنانيين في انتفاضة تشرين-أكتوبر 2019.

ألقيت هذه الكلمة في ندوة «تحية إلى ايتيل عدنان»، التي نظمتها الجامعة الأمريكية في بيروت، 23-24 شباط-فبراير 2023.