رحيل الأديب العربي إلياس فركوح.. راوي خسارات العرب المعاصرين

رحيل الأديب إلياس فركوح خسارة كبيرة للحركة الثقافية وصناعة النشر وحقل الترجمة، التي قدم فيها العديد من العناوين المهمة للقارئ العربي.
رحيل الأديب إلياس فركوح خسارة كبيرة للحركة الثقافية وصناعة النشر وحقل الترجمة، التي قدم فيها العديد من العناوين المهمة للقارئ العربي.

توفي أمس الروائي إلياس فركوح، الذي يعد من أهم كتاب القصة والرواية في الأردن والعالم العربي، إثر نوبة قلبية. إلياس فركوح ألف ثلاثية روائية تعاين "الخسارات العربية" بعدسة سردية تحاول الكشف عن تفسير لانهيار الحلم القومي، الذي ظل الكاتب وفياً له إلى آخر العمر، رغم كل ما حدث، ومع تقلب الأزمنة والخيارات وانهيار الأيديولوجيات. الناقد الأدبي فخري صالح يستذكر الراحل إلياس فركوح.

الكاتبة ، الكاتب: فخري صالح

خسارة كبيرة يمثلها رحيل الصديق والكاتب الأردني الكبير إلياس فركوح (1948-2020) للمشهد الروائي والقصصي العربي، وللثقافة العربية عموماً، فإلياس واحدٌ من المجددين في دم القصة والرواية في العقود الأربعة الماضية، إذ استطاع أن يمنح الكتابة السردية تلك القدرة على وصف الأعماق، وتأمل الصراع الداخلي للشخصيات، بالانتقال من الوصف الخارجي للعالم إلى الغور عميقاً فيما يعتمل في وعي ولا وعي شخصياته.

وقد استخدم إلياس فركوح هذه القدرة، في الحفر على دواخل الشخصية القصصية، وتقليب مشاعرها نحو ما يدور خارجها من أحداث وصراعات، وما يعبر في ذهنها من ذكريات، لكي يلقي ضوءاً كاشفاً على التصدعات، التي أصابت الحلم بدولة عربية قومية ديموقراطية، عبر هزائم وخسارات متوالية تركت علامات غائرة في كتابة جيله من المبدعين والمثقفين العرب.  

ولعل رغبته في أن يفهم ما حدث، منذ ولادته في عام النكبة الفلسطينية (1948)، هي التي دفعته إلى تفحص الكوارث المتوالية، التي تبعت ضياع فلسطين، عبر مرآة السرد، القصصي، ثم الروائي، وكذلك المقالة الأدبية ذات البعد التأملي الفلسفي، إضافة إلى الترجمة، وصولاً إلى تأسيس دار نشر خاصة (دار منارات أولاً مع الشاعر الأردني طاهر رياض، ثم دار أزمنة)، لكي ينشر لكتاب ومترجمين عرب ما يؤسس لتنوير عربي قد يرأب هذه الصدوع والخسارات التي فتتت الحلم القومي الذي سكن إلياس إلى آخر أيامه.

وعلى الرغم من العدد القليل من المجموعات القصصية، والروايات، التي كتبها فركوح، إلا أنه استطاع أن يكون واحداً من أهم كتاب القصة والرواية في الأردن والعالم العربي منذ تسعينيات القرن الماضي، وواحداً من ممثلي كتابة الأعماق في السرد العربي الراهن، كما هو الحال لدى إدوار الخراط ومحمد البساطي ومحمد خضير وغالب هلسا ومحمد عز الدين التازي وحيدر حيدر، وآخرين ممن كان تحديث الكتابة القصصية والروائية العربية هاجسهم الذي لازمهم منذ البدايات، وجعلهم يحلمون بكتابة مختلفة، متأنية، سابرة، مركبة، لا تتوقف عند السطوح، بل تغور عميقاً، لتتعرف على سر الذات الإنسانية في علاقتها بما يدور حولها وما يمور في داخلها.

من أهم كتاب القصة والرواية في الأردن والعالم العربي منذ تسعينيات القرن الماضي

عكف إلياس فركوح، على مدار مجموعاته القصصية، على تطوير تجربته والغوص داخل شخصياته القصصية، محاولاً التعرف على الواقع الاجتماعي ــ السياسي الذي تتحرك ضمنه. وقد اتسم عمله منذ بداياته الأولى بجَدْل الأرضية السياسية ــ الاجتماعية في قصصه مع تأملات الراوي ومونولوجات الشخصيات التي تشكل جزءاً من المشهد الاجتماعي لكنها تحاول في الوقت نفسه تأويله عبر تقليبه على اشتعالات نارها الداخلية.

ونحن نعثر على هذه الطريقة في تقديم العالم في مجموعته الأولى "الصفعة" (1978) التي تضم بواكير قصصه، كما تؤشر على ولادة قاص يحتفل بتحليل العالم الداخلي للشخصيات دون أن ينسى رصد التفاصيل الدقيقة لما يدور في العالم المحيط بها.

 غلاف رواية "طيور عمان تحلق منخفضة" للروائي الروائي إلياس فركوح
في رواية إلياس فركوح "طيور عمان تحلق منخفضة" التي صدرت في عام1981، يسعى القاص فيها إلى تصوير أحلام شخصياته البسيطة وآمالها، معتمداً أسلوب التداعي، الذي يكثر من استخدامه في قصصه، راصداً نبض الشخصية الداخلي وتفاصيل حياتها الصغيرة.

أما في "طيور عمان تحلق منخفضة" (1981)، التي يمكن القول إنها مجموعة القاص التي تستحق أن نطلق عليها صفة الأولى على صعيد النضج الفني، فيسعى القاص فيها إلى تصوير أحلام شخصياته البسيطة وآمالها، معتمداً  أسلوب التداعي، الذي يكثر من استخدامه في قصصه، راصداً نبض الشخصية الداخلي وتفاصيل حياتها الصغيرة. ورغم أن هناك تواصلاً في شكل الكتابة القصصية لدى الكاتب، عبر الاهتمام بشخصيات تنتمي إلى الطبقات الاجتماعية الدنيا، والتركيز على الهامشيين والمهمشين من البشر، فإننا  نلحظ في الوقت نفسه تحولاً في كتابة إلياس فركوح، حيث يلجأ إلى تطعيم نصوصه بلغة الشعر وأفقه الدلالي. لكن الاهتمام بشعرنة اللغة القصصية لا يقلص استخدامه للتفاصيل وقيامه برسم انعكاس المشهد الخارجي على العالم الداخلي للشخصيات، وكذلك تفضيله الدائم لأسلوب التداعي والحوار الداخلي الذي ينقل إلى القارئ ما تفكر به الشخصيات.

إذا انتقلنا إلى مجموعة "من يحرث البحر" (1986)، فسنعثر على تطور لافت. ومع أن الكاتب يستخدم أسلوب الراوي العليم،  إلا أنه يُذوّب هذه السمة التقليدية بتمويه العلاقة بين  الفعل الماضي والفعل المضارع، مكسباً عمله القصصي روحاً حداثية تختزل السرد التقليدي وتحوله إلى مجرد وسيلة تعبيرية تنمحي وسط الترددات التي يخلقها السرد بين الماضي والحاضر، بين الوصف الخارجي لهيئة الشخصية وسرد مونولوجاتها، بين هيجان الطبيعة (البحر) وهيجان النفس، وهكذا إلى الحد الذي تنمحي فيه الحدود الفاصلة بين هذه الصيغ اللغوية والتعبيرية. ثمَّة محاولة دائبة في قصص فركوح لتذويب فعل الانفصال عن الأشياء وتحويله إلى نقيضه: أي إلى فعل اتصال والتحام بالموجودات والعالم عبر تذويب كل ما يمكن أن يكون فاصلاً سواء كان فاصلا ًزمانيا أو مكانياً، فاصلاً سلطوياً (يأتي من الخارج) أو فاصلاً داخلياً (تمليه المعتقدات والأفكار والتوافقات التي تؤمن بها الشخصية).

وإذا كان إلياس في المجموعات السابقة يجعل من الراوي شخصية شفافة تتمرأى من خلالها الذوات الأخرى في النص القصصي، فإنه في مجموعته "أسرار ساعة الرمل" (1991) يعتمد ظهور شخصية الكاتب في نصه، إذ يظهر مروياً عنه، وهو يعمل على خلق شخصياته وتوليف أحداث قصته المركبة. ويستخدم القاص استعارة الساعة الرملية ليعبر عن كيفية تشكل شخصيات القصة وأحداثها.

"قلب الساعة الرملية وأخذ يتأملها"

بدأت الذرات البلورية تنهال من العنق الدقيق. رآها تشع وتنطفئ، فيما طفقت القبة السفلية المقولبة تمتلئ بالرمل الوردي الغامق. استغرقه التأمل دقيقة، وبعدها لاحظ ضمورا في كمية القبة العلوية. نبتت في داخله سخرية لم تزح له سترها. تابع تحديقه في خيط الانهيال الصامت. كان تواصله يكوم هضبة ناعمة سرعان ما تنبسط تحت الثقل الهاطل، ثم تعود لتتهضب من جديد.

ذرات الرمل تشع وتنطفئ، بينما تتوهج السخرية في داخله مفصحة عن فكاهتها الآتية.. أغراه التتبع في أن يخلق القصص ويفض مكنوناتها. هكذا تتولد الحكايات وتظهر الوجوه".

يصبح الكاتب شخصية من شخصياته حيث يروي الراوي عنه وعن الآخرين، ويتابع تخلُّق فعل الكتابة، ثم انفصال الشخصيات عن الكاتب وامتلاكها حيوات خاصة بها. أما الرمل فهو المعادل الموضوعي للشخصيات لأنها مصنوعة من رمل الحكايات، ذرات دقيقة من الأخيلة تتراصف لتشكل حكاية من شخصيات وأحداث. وعلى هذه الاستعارة يقيم فركوح قصته. لكن الجوهري في القصة لا يتمثل في دخول الكاتب قصته، وتأمله فعل الكتابة وآثاره، بل إن الجوهري هو تشكُّل الحكاية من طبقات متعددة.

 

رويات إلياس فركوح. "رحيل الأديب إلياس فركوح خسارة كبيرة للحركة الثقافية وصناعة النشر وحقل الترجمة، التي قدم فيها العديد من العناوين المهمة للقارئ العربي".
طرح الناقد الأدبي زياد أبو لبن على إلياس فركوح سؤالًا عن موقعه الأثير في الكتابة، بدءًا من القصة القصيرة، ثم الرواية، وانشغاله أيضًا بالنصّ المفتوح وبالترجمة، فقال: "أنا في كل ما ذكرت. في القصة القصيرة والرواية. في النصّ المنفلت من حدود النوع أو الجنس، كما في الترجمة. غير أن الأرضية الأساسية التي أجدها مناسبة لي لممارسة أعلى نسبة من وجودي، متمثلًا في الكتابة، هي أرضية القصة والرواية. فمن خلال هذين النوعين الأدبيين أعمل على إنجاز كل من "هوية" القول و"فنيته"، ضمن مناخات السرد القصصي والروائي، محاولًا أن أكون أنا حقًا. ببصماتٍ تفارق بصمات الآخرين من القاصين والروائيين".

 

إنها حكايات مربوطة بخيوط من العلاقات الإنسانية، ولكن أحداثها تجري في طبقات تشبه طبقات وعي المؤلف الذي يكشف عن الحكايات طبقة في أثر طبقة. وتتوظف استعارة الساعة الرملية في اتجاهين، كما هو شكل الساعة الرملية نفسها؛ نصف يتلقى الذرات الساقطة والنصف الثاني يدفع هذه الذرات إلى النصف الأول. وعندما نقلبها مرة أخرى يصبح المتلقي مانحاً والمانح متلقياً. إن الاتجاه الأول الذي تتوظف فيه استعارة الساعة الرملية هو الكشف عن تشكل فعل الكتابة، وتخلق الشخصيات في وعي المؤلف (ولاوعيه كذلك). أما الاتجاه الثاني فيتمثل في تشكل الأحداث في طبقات ثم اجتماع هذه الشخصيات مع الكاتب وانقضاض البوليس على الكاتب وشخصياته وسوقه إياهم جميعاً إلى السجن.

يمكن لهذا النوع من القص، المبني بناءً محكماً، أن يمثل خير تمثيل الشغل القصصي في مجموعة "أسرار ساعة الرمل". إنها تقوم على بناء مركب متداخل تتقاطع فيه الحكايات والمصائر، كما يتشكل المعنى الضمني للنص من هذا التقاطع المحكم للمصائر والحكايات. ثمة محرمات اجتماعية وسياسية، وإدانة اجتماعية ــ سلطوية لفعل الخلق والكشف. والكتابة، من ثمَّ، تقع فريسة هذا القمع الاجتماعي ــ السياسي. إن أرضية عملها تقع ضمن دائرة هذه المحرمات.

في سياقٍ موازٍ، يعتمد أسلوب التجديد والاشتغال على الشكل، واستخدام تداخل الأنواع، كمزج الشعري بالسردي، والحفر على الباطن والأعماق، والبحث عن معنى للهزائم والخسارات واندثار الأحلام، يقيم إلياس فركوح عمارته الروائية. ويمكن القول، للأسباب السابقة، إن "قامات الزبد" (1987)، و"أعمدة الغبار" (1996)، و"أرض اليمبوس" (2007)، هي ثلاثية روائية تعاين تلك الخسارات بعدسة سردية تحاول الكشف عن تفسير لانهيار الحلم القومي الذي ظل الكاتب وفياً له، إلى آخر العمر، رغم كل ما حدث، ومع تقلب الأزمنة والخيارات وانهيار الأيديولوجيات.

فالروايات الثلاث تتحرك في إطارها الزماني بين نكبة 1948 وهزيمة 1967 والحرب الأهلية اللبنانية. كما أنها تتحرك في إطارها المكاني بين عمان والقدس وبيروت، وهي المدن التي عاش فيها إلياس وانتمى إليها، وشكلت إطار تجربته الشخصية والإبداعية. وإذا كانت القصص تركز على مدينة عمان بوصفها الأرضية التي تنطلق منها تجربته القصصية، وتطلع منها الشخصيات والأحداث، وتشكل الجغرافيا التخيلية لعالمه القصصي، فإن بيروت، والقدس، وبصورة من الصور بغداد (في زمن الحلم القومي)، معطوفةً على عمان، مسقط الرأس، هي الأمكنة التي ينوس بينها العالم السردي لروايات فركوح.

يمكن النظر إلى الرواية الأولى (قامات الزبد) بوصفها البؤرة السردية التي تطلع منها الروايات الأخرى، أو تعود إلى استكمال المشهد انطلاقاً منها، أو تعيد تركيز عدستها السردية على ما أهملته الرواية الأولى. ويسعى فركوح هنا إلى تقديم تنويع مألوف في الرواية العربية الجديدة، ويستمد هذا التنويعُ دلالته من التعبير عن العالم من خلال وصف الشخصيات لمشاعرها وانعكاس الأحداث الخارجية على رؤيتها للعالم. إن الشخصيات تبدو مشغولة بتحليل انكسار إشعاعات التجربة الجماعية في منشور الذات. ومن خلال لعبة تحليل المشاعر، وتقصي حقيقة موقفها من الأحداث والهزائم الكبرى،  تصف "قامات الزبد" انهيار العالم من حولها، وتحولَه إلى مرآة غير شفافة، شبه معتمة، تعكس صوراً مشوشة، وخيالات وأفكاراً تفتقد اليقين، وأحلاماً مجهضة.

ويستخدم الكاتب، لتحقيق هذا النوع من رؤية العالم، خياراً أسلوبياً يعتمد الحكاية على ألسنة الشخصيات، منتقلاً من شخصية إلى أخرى، بصورة غير منتظمة تمليها حركة أعماق الشخصيات، موظفاً وصف الأشياء، الطبيعة والأثاث واللوحات، للتأكيد على منظور ذاتي للعالم، منظور لا حوار فيه مع الآخرين، ولا حدود مشتركة، بل صَدَفة تنغلق على نفسها، وعلى إشعاعات التجربة الممهورة بالخسارات التي شكلت واقع العرب المعاصرين منذ نكبة الفلسطينيين والعرب عام 1948.      

 

فخري صالح

حقوق النشر: قنطرة 2020