«الباريسي» لإيزابيلا حماد: أن تكون في مكانين

الكاتبة ، الكاتب: شادي لويس

«أقصى ما هنالك أن يجسد أدب المنفى ذلك القلق وتلك الورطة التي نادرا ما يختبرهما معظم الناس على نحو مباشر، غير أن التفكير بأن المنفى هو الذي يملي هذا الأدب بوصفه أدبا إنسانويا محسنا، هو بمثابة ابتذال لما يحدثه المنفى من البتر وضروب التشويه، ولما ينزله من خسارات بأولئك الذين يعانون منه، ولما يرد به من خرس على أي محاولة لفهمه على أنه «خير لنا». أليس صحيحا أن النظرة إلى المنفى في الأدب، بل وفي الدين، تخفي ما هو رهيب وفظيع في طبيعته».

يكتب إدوارد سعيد في نصه البديع «تأملات عن المنفى» عن قصور الأدب أمام تجربة المنفى، وعن فشله في استيعاب واقع أن تكون «لا هنا، ولا هناك، وإنما في ما بين الاثنين». لكن سعيد، ابن الجيل الأول من المنفى الفلسطيني، يفتح بنظرته الثاقبة الطريق أمام أجيال تالية ولدت في الشتات، ولا تعرف سواه وطنا أو نصف وطن، لتعيد تخيل الماضي، ولتسعى لاكتشاف طبيعته الرهيبة.



تأتي رواية «الباريسي» لإيزابيلا حماد، المولودة في لندن، لأب فلسطيني وأم بريطانية أيرلندية، لتدون من الشتات المتأخر، وعبر حكايات جدها، فترة حاسمة ومضطربة في التاريخ الفلسطيني بين الحرب العالمية الأولى ومنتصف الثلاثينيات. تكتب حماد، ذات السبعة والعشرين عاما، روايتها الأولى، بالإنكليزية، لتنضم إلى قائمة من الأصوات الفلسطينية المعاصرة، من النساء حصرا، اللاتي يكتبن الأدب باللغة الإنكليزية، مثل هالة عليان، وراندا جرار، سلمى الدباغ، سوزان أبو الهوى.

يغادر مدحت كمال، بطل الرواية، نابلس، إلى مونبلييه في فرنسا لدراسة الطب مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. فابن العائلة الثرية يحاول أن يتفادى التجنيد الإجباري، في الجيش العثماني، لكن سرعان ما يقع الفتى الحالم، في قصة حب لن يكتب لها أن تكتمل مع جانييت، ابنة مضيفه الفرنسي، ويجد نفسه مضطرا للمغادرة إلى باريس، حيث يتحول إلى دراسة التاريخ. وهناك يشهد مدحت في القلب من أوروبا، عالما محطما ينهار بسرعة، وليكتشف أن كل شيء في غاية الهشاشة، حيث يتحول الحب إلى خسارة، والأصدقاء إلى أعداء. وحين يعود مدحت إلى فلسطين، يكون كل شيء قد تغير أيضا، فبلده أضحى تحت الانتداب البريطاني، ومدينته تموج بالحركات السياسية والصراعات، أما هو بملابسه الأوروبية، فأطلق عليه الجميع «الباريسي»، فهو لم يعد من هنا ولا هناك، غريب في المكانين. هكذا لا تكتفي حماد في روايتها بسرد تاريخ فلسطيني للخسارة فقط، بل بالنظر في المنافي المبكرة، وقراءة نبوءات الشتات قبل أن يحدث، أي تلك الحالة التي يصفها أدوارد سعيد بأنها لذلك «الفرد الذي عبر الانقسام الإمبريالي الغربي – الشرقي، ودخل حياة الغرب، واحتفظ ببعض الروابط العضوية مع البقعة التي تحدر منها أصلاً».

تصف كاتبة «النيويورك تايمز»، جمانة خطيب، رواية «الباريسي» في مقال لها مطلع الشهر الجاري، بأنها تنضم إلى سابقتها من أعمال الكاتبات الفلسطينيات، المكتوبة بالإنكليزية، والتي «تدور أحداثها بين الشرق والغرب، وتستكشف الطرق التي تنعكس بها تجارب التهجير والحنين والفقد عبر الأجيال»، مضيفة إنها «واحدة من أوائل تلك الأعمال التي تدور أحداثها قبل تأسيس إسرائيل، في 1948، وقبل حرب 1967.. وقبل الانتفاضة»، محاولة أن توظف الأدب «كطريقة بديلة لاستكشاف التاريخ».

نالت الرواية، مديحا استثنائيا، في الدوائر الأدبية على جانبي الأطلسي، فالروائية البريطانية الشهيرة، زادي سميث، التي درست إيزابيل حماد، في جامعة نيويورك، وصفت «الباريسي» بإنها: «تجربة قراءة سامية، حساسة ومحكمة، في غاية الذكاء، ومتماسكة بشكل فائق، وواقعيتها على طراز فلوبير وستندال». وأضافت مادحة كاتبتها، بالقول إنها «موهبة هائلة، وكتابها مذهل». فيما وصفها الروائي والقاص الأمريكي ناثان إنغلاندر، بإنها رواية «مكتوبة بجمال، ولها طاقات متجاوزة». وضمت «الغارديان» في مطلع العام، «الباريسي» في قائمتها لأفضل الروايات الأولى لأصحابها، لعام 2019، ووصفتها بإنها «إنجاز مذهل» لكاتبتها «التي درست في أكسفورد وبعد ذلك في هارفرد، ونالت العام الماضي جائزة بليمبتون للأدب، من «باريس ريفيو» عن قصتها السيد كنعان».

أما كلير لودون، ففي مقالها عن الرواية في «التايمز» البريطانية، قالت «من سوء الحظ أن تأتي رواية أولى واعدة وسط كل هذا الاحتفاء»، فبحسبها كان الثناء الهائل للرواية سببا في تحميلها أكثر مما تستطيع أن تقدمه، إلا أنها تعود وتصف «الباريسي» بإنها «رواية أولى طموحة تستحق الأعجاب، بواسطة كاتبة ذكية ومجتهدة».

زارت كاتبه «الباريسي» فلسطين، مسقط رأس بطلها مدحت لأول مرة، في عام 2012، وهناك قامت بعملها البحثي لرواياتها، حيث قضت شهورا في لقاء عشرات من الأقارب والفلسطينيين من الأجيال الأكبر سنا، والمؤرخين والمعماريين والجغرافيين في المنطقة العربية. وفي ما يبدو أن جهدها البحثي كان معنيا بإن يعوض اغتراب نشأتها بعيدا عن ساحة روايتها، وتجميع خيوط حكايات الأهل في الطفولة ودمجها مع أحداث التاريخ الأرشيفي، إلا أنه بلا شك لم تكن معنية بكتابة التاريخ، بل بسرده من زاوية شخصية وعائلية لرجل ممزق بين هويتين، وفي أزمنة صعبة، طارحة قراءة حميمية للتاريخ، لا تدعي تمثيل الفلسطينيين، ولا بلد بأكمله، بل قصة واحدة من بين ملايين القصص التي تستحق أن تكتب أيضا.

تقيم إيزابيل حماد، حاليا بين نيويورك ولندن، وتعمل على كتابة رواياتها الثانية، التي تدور عن فلسطين أيضا، لكن في وقت أكثر معاصرة، وتتمنى أن تزور فلسطين مرة أخرى، فهي كما صرحت لـ»نيويورك تايمز» تفضل أن يكون لها قدم في واحد من كلا العالمين، أن تكون موجودة في مكانين».