لماذا يستحق هابرماس نصبا تذكاريا؟

هابرماس ليس فقط “أحد أهمّ فلاسفة وعلماء الاجتماع في العالم في الوقت الحاضر” بل إنّ أفكاره غالبا ما تشكّل توجيها عمليا وربّما إجاباتٍ لقضايا المجتمع الألماني.

مقدمة المترجم (يورغن هابرماس)

مع تواجدي في ألمانيا بصفة لاجئ، يكاد لا شيء يُشعرني بالأمان فيها أكثر من وجود الفيلسوف يورغن هابرماس Jürgen Habermas، بينما لسان حالي مع أيّ تخبّط للحكومة الألمانية في سياساتها عن اللجوء:

هل استرشدت ميركل بآراء يورغن هابرماس؟

فهابرماس ليس فقط “أحد أهمّ فلاسفة وعلماء الاجتماع في العالم في الوقت الحاضر” حسب تلميذه أكسل هونيث Axel Honneth، بل إنّ أفكاره غالبا ما تشكّل توجيها عمليا وربّما إجاباتٍ لقضايا المجتمع الألماني.

 الدستور والقوانين الوضعية في الدولة الليبرالية بحاجة إلى شرعنة، فالجوهر الأخلاقي للدولة يجده هابرماس حيث لا يُطبّق فيه القانون الذي يتوجّب عليه الارتكاز على قناعاتٍ أخلاقية قبل القناعات السياسية.

أن يتحفّز مواطن ليركب المخاطر من أجل اللاجئين أو الأجانب في ألمانيا، فالقانون فيها لا يفرض ذلك بالقوّة وإن كان يحثّ عليه، لتأتي دعوة هابرماس لتحسين النسل الليبرالي ومستقبل الطبيعة البشرية بإحالة إلى مقولة الكاتب السويسري ماكس فريش Max Frisch:

"ماذا يفعل الإنسان بالزمن الذي قُدّر له أن يعيشه؟ هذا هو السؤال الذي أكاد لا أعيه، إنّه سؤالٌ يثيرني فقط" ([1]).

يُعرّج على تأمّلات ثيودور أدورنو Theodor W. Adorno عن الحياة الخاطئة والعلم الحزين، قبل أن يمدح كيركغارد Søren Kierkegaard مع السؤال الأخلاقي للحياة، ثمّ يعارضه برؤية جمالية عن المفهوم الما ورائي “القدرة على أن يكون ذاته”([2])، وهي الجملة التي سنكتشف أنّها قد تختصر حياة هابرماس نفسه.

يؤمن بالحوار وبعالمنا المعاش والاندماج الاجتماعي أكثر من أية نظرية اجتماعية أو سرديّة كبرى من سرديات الفلسفة، فهو نفسه أكبر سرديّة من سرديات الفلسفة.

يبدو هابرماس وكأنّه يمثّلُ تلك اللدغة الجدلية der dialektische Stachel التي غابت عن الأخلاق اليونانيّة مقارنة بالأخلاق اليهوديّة والمسيحيّة والإسلامية والزرادشتية، المسمّاة في اليهودية بالمسيانية Messianismus وتستند على فكرة الإيمان بالمسيح المخلّص.

اللدغة الخلاصية لدى فالتر بنيامين Walter Benjamin وصفها هابرماس بأنّها أهم حتّى من الرؤية المسيحيّة عن المسيح المخلّص، لكن هابرماس أشار إلى فكرة صوفيّة يهوديّة قريبة من التصوّف الإسلامي وهي فكرة تشابك أو “حلول الذات في الله Selbstverschränkung Gottes” التي تناقضُ فكرة ضبط النفس Selbstbeschränkungen في التحليل النفسي كسمة شخصيّة تبزغُ عن العقل أو التحليل المعرفي أو كنتيجة للعقل المستنير لدى كانط، أو لدى هوميروس وأسطورة صفّارات الإنذار التي كانت تُجبر أوديسيوس Odysseus على الهرب من سماع أغنية فيها حتفه.

كثيرا ما اعتذر هابرماس عن حضور بعض الجلسات الحوارية سواء كضيف أو كمساهم فيها، إذ به خوفٌ من أن يبدو كمن يؤرّخ لذاته بالتعليق على كلّ جلسة حوارية، فالتأريخ للذات Selbsthistorisierung يراه الأسوأ ويفضّل أن يتعلّم شيئا وهو يناقش مشاكل المجتمع، أي ليُعلّمه الآخرون شيئا مفيدا.

مجتمعنا المعاصر الذي يُشوّه كينونتنا بتحوّله “من مجتمعٍ مشهدي إلى مجتمعٍ تعليمي” بتوصيف الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل سير Michel Serres، يُشكّل فيه حضور فيلسوف بقيمة يورغن هابرماس، يؤمن بالمساواة ويثق بالعقل كوفاءٍ أبديّ لمبادئ التنوير الأوروبي، ضمانة كبرى لمنعه من الانحراف نحو الأسوأ، في وقتٍ امتلأ فيه هابرماس نفسه بالخوف من فقدان “الجوهر الحقيقي للتقاليد والإلهامات الغربية Substanz der genuin westlichen Traditionen und Inspirationen“.

يُبشّرنا بأنّ الرأسمالية المنفلتة يمكن أن تكون تحت السيطرة، ليُحيلنا للعقلانية ويومئ لنا بضرورة إلغاء مركزية المشروع الثقافي الغربي، لكنّه لا ينسى أن يشير إلى الخلل القاتل في الماركسية المتمثّل بانغماسها في النزعة اليقينية، وصوابية تحليلات ماركس عن الرأسمالية وخطأ تنبّؤاته، وصولا للضعف الديمقراطيّ في الماركسية، فالسيطرة على عمليات الحياة لا تضمن تحكّما تلقائيّا بعملية الإنتاج Produktionsprozesses على الإطلاق، وهو ما عبّر عنه تيري إيغلتون Terry Eagleton بأنّ العقيدة المتشدّدة والدولة التعسّفية ليست بديلا عن “الخضار في الدكّان”([3])، ولطالما عبّر عنه برتولد بريخت Bertolt Brecht في قصائده حين كان يشعر بأنّ ألمانيا قد تحوّلت لأمّ شاحبة تئنُّ من الجوع، بينما يغدو الحصول على الغداء جسارة.

يورغن هابرماس والماركسية

ترسّخ نقد كارل ماركس Karl Marx للاقتصاد السياسي ليس فقط كمعيارٍ نقديّ لنظام الاقتصاد البرجوازي System der bürgerlichen Ökonom، بل كوعاء للحقائق كلّها، قادر على تفسير التناقضات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة بعد تحييده لمثالية الديالكتيك الهيغلي Idealisms der Hegelschen Dialektik، لتسيطر الماركسية على مجمل الواقع الاجتماعي كنظرية قادرة على تحليل منطق ومقدّمات الرأسمالية Prämisse des Kapitalismus وبديهيّات تطوّرها التاريخي.

لكن الاشتراكية بجعلها السيطرة على الفكر ضرورة أزلية وقعت في فعلٍ رجعي بتأكيد من أدورنو، فأن تُصبح الضرورة قاعدة تكون الاشتراكية وفلسفتها قد ظلّت على تواصلها مع إرث الفلسفة البرجوازية. ([4])

وصف هوركهايمر التوتاليتارية بأنّ الكذب فيها صارخ والنظرية النقدية تتكفّل دوما بأداء وظيفتها بمحاكمة كل مرحلة تاريخية وفقا لمضمونها وأصالتها، لينتهي بالقول: “كلّ فلسفة تفكّر في إيجاد السلم بذاتها، في حقيقةٍ ما، لا علاقة لها بالنظرية النقدية” ([5]) في إشارةٍ للماركسية.

مشروع يورغن هابرماس عن إعادة صياغة النظرية الاجتماعية النقدية Reformulierung der kritischen Gesellschaftstheorie فرض عليه مواجهة التقاليد الماركسية، ولا سيما مفهومي العمل والإنتاج، ليستبدل مفهوم علاقات الإنتاج Produktionsverhältnis الماركسي بمفهوم الأطر المؤسّساتية institutionellen Rahmens، لتوسم ممارساته كشاب بالممارسة الثورية خاصة بعد حديثه عن الإلغاء النقدي للأيديولوجيّات kritischen Aufhebung von Ideologien.

اعترف هابرماس بأنّ الأيديولوجيّات لا تزال تملك فعّالية كبيرة، لكنّ لعب دور الناقد الأيديولوجي Ideologiekritikers باستمرار لا يُشعره بالراحة، وقد سُئل عن طريق ثالثة غير الماركسية والرأسمالية، فأشار إلى أنّ ماركس لمّح في مخطوطاته الاقتصادية الفلسفيّة إلى التنشئة الاجتماعية Vergesellschaftung ([6]) كفكرة بديلة عن فكرة التأميم Verstaatlichung أو الليبرالية الجديدة Neoliberalismus، في إشارةٍ لفكرة مارغريت تاتشر Margaret Thatchers عن الليبرالية الجديدة وقولها المعروف “لا يوجد بديل There is no alternative”.

لا يلمح يورغن هابرماس في هذا العالم المعولم أيّة حركة سياسية أو اجتماعية تتبنّى هذه الفكرة البديلة، فهو عالمٌ معقّد لدرجة أنّ أيّة ثورة قد تفشل قبل أن تبدأ، لكنّ ذلك لا يمنعه من الحديث عن أزمة شرعية في الرأسمالية Legitimationskrisen im Kapitalismus.

دعا هابرماس إلى كبح جماح الرأسمالية الماليّة Finanzkapitalismus، ليسخر منه الفيلسوف الألماني جورج لوومان Georg Lohmann معتبرا أنّ هابرماس متفائلٌ بنزعته الإصلاحية في الممارسة العملية والاجتماعية حيث يلعب دور المثقّف العام، على عكس حاله في الجانب النظري فهو متشائم جدا فيما يتعلّق بالأهداف التي يمكن تحقيقها.

 ادّعى لوومان أنّ هابرماس تسمّم في شبابه بفلسفة شيلينغ Friedrich Schelling ثمّ خاب أمله مع أطروحته ” المطلق والتاريخ؛ حول التناقض في فكر شيلينغ Das Absolute und die Geschichte. Von der Zwiespältigkeit in Schellings Denken “، وهو لم يتخلّص بعد من تأثيرات منبعين أساسيّين لفكره: كانط Immanuel Kant وفالتر بنيامين، وأنّ لفلسفته جذورا مسيحيّة.

أقرّ هابرماس بالجذور المسيحيّة، مؤكّدا أنّ التفاؤل لا يُشكّل لديه دافعا فقط بل والتزاما بالتفكير ضدّ اليأس، ومعلنا رفضه للبراغماتية المفرطة في مقولة هوركهايمر: “أمل العقل يكمنُ في التحرّر من مخاوفه التي تخصّه هو نفسه أمام اليأس“.

هوركهايمر كان قد كتب كتابا في تأبين هذا العقل وأفوله في العام 1947، وهو ما رآه هابرماس خيانة للتنوير، أما بنيامين فقد وصف الأمل: “وُجد الأملُ من أجل أولئك الذين لا أمل لهم”، وكتب: “يتوازى اليقين بالنعمة التي يفوز بها العاشقان، في الرواية القصيرة، مع الأمل الذي نُغذّيه في الخلاص لجميع الموتى.. ذلك الأمل في الخلاص هو لمن لم يعد بإمكانهم الأمل، أي الموتى…إنّنا نأملُ أن يُبعث العشّاق الموتى، إذا ما بُعثوا، لا في عالمٍ أجمل بل في عالم مبارك”. ([7])

تساءل هابرماس فيما إذا كان ماركس قد دعم نظرية للتواصل في المادّية التاريخية، ليستنتج أنّ ماركس فشل في نظريته الاجتماعية لافتقاده لتلك النظرية التواصلية، ولأنّه كان عالقا في شمولية هيغل Totalitätsdenken Hegels فقد أساء تفسير التطوّر الاجتماعي، عدا عن افتقاره للذخيرة المفاهيميّة  Begriffsrepertoire التي تُمكّنه من تبرير عمليات التحديث، خاصة وأنّه كان ملزما بتبرير علاقة سيطرة غير مشروعة بالأساس عبر الربط بين الدولة والاقتصاد، فالديمقراطية ليست مجرّد أيديولوجيا كما فهمها ماركس بشكلٍ خاطئ، والدولة الديمقراطية لا تسمح لنفسها بأن تصبح أداة هيمنة.

شفّة الأرنب وجذور فلسفة يورغن هابرماس

وُلد يورغن هابرماس في عام 1929 في مدينة دوسلدورف Düsseldorf بتشوّهٍ خلقي يُعرف بـ “شفّة الأرنب Hasenscharte” ([8]) التي تترك تشوّها في الوجه والفم، ويبدأ في الرحم منذ المراحل الأولى من الحمل.

عدم وجود أنسجةٍ كافية في منطقتي الفم والشفّة يمنع اندماجها بشكل كافٍ، فيتولّد شقّ فاصل بين طرفي الشفّة العليا، ما يمنع نزول السوائل والأطعمة إلى المعدة، وقد تتجمّع السوائل في الأذن الوسطى لتؤدّي إلى فقدان السمع، ويخرج الصوت مع النطق من الأنف مشوّها، وهابرماس وجد مشاكل كبيرة في النطق وكان كلامه غير مفهوم.

عانى هابرماس من تمييز أقرانه وسخريتهم بسبب ذلك التشوّه في حنكه الذي أُجريت عليه عملياتٌ امتدت على مدار فترة زمنيةٍ طويلة، ليخوض مسيرة كفاحٍ طبّي جراحي لإزالة آثاره. هذا دفعه للتأكيد على أن الكرامة الإنسانية يجب ألا تُمسّ بين أشخاصٍ يتبادلون الاعتراف ببعضهم البعض بشكلٍ متساوٍ.

اعتبر أنّ الحيوانات أيضا يحق لها الاستفادة من الواجبات الأخلاقية للبشر لأنّها مثلهم كائنات حسّاسة للألم، وإن كان البشر أكثر عرضة للجراح والأشجان الناجمة عن العلاقات الاجتماعية.

تحدّث هابرماس في أكثر من مناسبة عن الجذور الشخصية لفلسفته التي سمحت له بإعادة تعريف الفلسفة وربطها بالمجتمع وخدمته، وبتحوّلات الفضاء العام الذي حرص على التقاط أسئلته باستمرار ثم محاولة الإجابة عليها فلسفيّا.

في عام 2004 ومع منحه “جائزة كيوتو KYOTO-PREIS“([9]) اليابانية للإنجازات العالمية التي تتناول الإنسانية، أشار هابرماس إلىثلاث تجارب شخصية في المراحل الأولى من حياته كانت حاسمة كحوافز أساسيّة دفعته للبحث في الخطاب والفعل التواصلي ونظريته الأخلاقية.

أشار أولا إلى أنّ العمليات الجراحية التي أجراها على حنكه يجب أن تُعزّز من إدراك البشر لترابطهم وتضامنهم، فالإنسان الذي يولد “غير نهائي” بالمعنى البيولوجي يحتاج لاعتراف محيطه الاجتماعي ومساعدته، قبل أن يُشير باندهاش إلى مفهوم نسبة المواليد في نظرية حنّه أرندت Hannah Arendt عن الفعل ([10]).

يُلحّ يورغن هابرماس على ما أشارت إليه أرندت من أنّ كلّ ولادة تمثّل أملا بأن أحدا آخر مختلف سيأتي ليكسر سلسلة العود الأبدي، كإسقاط للوعد التوراتي “لقد وُلد لنا طفل” على كلّ ولادة. قالت أرندت:

 "مع ولادة طفل، أيّا يكن، فإنّ ما يبتدئ ليس فقط تاريخ حياة أخرى، بل تاريخ حياةٍ جديدة"([11]).

 فالحياة الجديدة تُشير إلى التفرّد والاختلاف، ومن شأن هذا الكائن الذي حضر لتوّه أن يخلق بنفسه بداية جديدة قد تغيّر شكل العالم كلّيا.

شبّه هابرماس الولادة الجديدة والحرية التي يشعر بها من يمارسون الفعل بالخطّ الفاصل بين أرضٍ بور وأرضٍ تُزرع لتوّها، ففي كلّ ولادة تميّزٌ وتمايز ينشأ بين القدر المرتبط بدخول الشخص للحياة الاجتماعية وقدر جسمه، كمن يتحدّث عن قدر جسمه ذاته وعن سيرته الذاتيّة الفريدة حقّا. بقي هابرماس متماهيا مع ذاته وهو ما يعتبره شرطا لنشعر بأنفسنا فاعلين لأفعالنا ومنبعا لمتطلّباتنا.

ينظر هابرماس إلى الحدس Intuition كمصدرٍ لوعينا بوصفنا فاعلين، فهو ما يحثّنا على تبنّي سيرة نقدية تعبّر عنا، إذ لا ينبغي أن نصبح نتاج ظروفنا الاجتماعية وحدها وإلّا سنتوه عن كينونتنا، أمّا وجودنا وقدرنا الطبيعي فيكمن في سيرورة الحياة الاجتماعية، وما يمنحنا قدرة خرق هذا القدر الطبيعي يتمثّل في وعي الحرّية.

تشعر بهابرماس قريبا من الفلسفة المثالية لتعويله الكبير على الحدس، فالإيطالي بنيديتو كروتشه Benedetto Croce اعتبر أنّ كلّ إنسان يولد ومعه حساسية فنية بدرجة ما وهي ما يسمّيه الحدس التعبيري أو الإدراك الحسّي Aesthesis ويُسمّيه هنري برغسون Henri Bergson “الدافع الحيوي” أو “النازع الحيوي Élan vital ” كقوّة خلقٍ تتحوّل معها المعرفة إلى صانع للواقع باستكشاف باطن الموضوع ويفترق عن الغريزة بالتفكير والتأمّل. وفقا لبرغسون “ليس هناك عقلٌ لا نكشف فيه عن بعض آثار الغريزة، ولا غريزة غير محاطة فوق ذلك بأهداب العقل”. ([12])

هذا الحدس كوجيتو للوعي الاستشرافي يمتاز بالديمومة التي تسمح لهابرماس بتطوير أفكاره المعبّرة عن وعيه، ليخلق انسجاما بين الفلسفة والحياة كأنّما يتخلّى عن توسيط المفهوم الفلسفي ولو إلى حين، أو كأنّ عقله مُشبع بالغريزة لشدّة واقعيّته وملاحظته لهذا الواقع وتقلّباته، فولاؤه لهذا الواقع هو ما منعه من التوافق مع تفكيكيّة جاك دريدا التي قد تسرقه من هذا الواقع.

وصف يورغن هابرماس دوافعه الفكرية ودور الحدس الجوهريّ لديه:

"لديّ دافعٌ فكريّ محفّز وحدسٌ أساسي، وهذا يعود إلى تقاليد دينية كتلك التي لدى البروتستانت أو المتصوّفة اليهود.. الدافع الفكريّ المحفّز هو التصالح مع الحداثة المتفكّكةُ في مكوّناتها، فالتصوّر القائل بأنّه بدون التغاضي عن التباينات التي أتاحتها الحداثة وجعلتها ممكنة، يلحظ المرء أشكالا من التعايش تدخل فيها الاستقلالية والتبعية في الواقع في علاقة مهادنة واطمئنان: بحيث يكون بإمكان المرء أن يمشي واثق الخُطا في مجتمع مشترك، دون أن يراوده شكّ في أنّ جوهر الانحطاط في المجتمع والتعايش الاجتماعي إنّما هو نابعٌ منه"([13]).

هذا يُشير لحجم خلافه مع كثيرين ممن يبدو متآلفا معهم ظاهريا، لكنه يوضّح الدافع لمسلكه النقدي. أمّا مكوّنات الحداثة المتفكّكة فتُحيلنا إلى ماكس فيبر Max Weber الذي أشار إلى خاصيّة الحداثة الثقافية الكامنة في أنّ العقل الأساسي الذي تمّ التعبير عنه سابقا بصور دينية وميتافيزيقية للعالم قد انقسم لثلاثة أقسام لا يمكن جمعها إلّا شكليا. ([14])

يُلحُّ عليه الحدس ليتفاعل مع الأشياء بتلقائيّته، فالتفكير العلمي يمتاز بالبطء أحيانا للوصول إلى مخرجاتٍ مترابطة بمنطق مقبول. اعتبر آينشتاين الحدس نتاج تجربة ثقافية باكرة، وتجربة هابرماس ومعاناة طفولته كانت تجربة ولّادة باستمرار، لكنّ فلسفة نيتشه Nietzsche كلّها قائمة على الحدس وهابرماس يكاد يمحيه من الفلسفة الألمانية.

حتى وهو يتحدّث عن قناعاته العلمية، لا بدّ لهابرماس أن يُعرّج على الحدس:

"هنالك أيضا جوهرٌ عقائديٌّ في قناعاتي. أُفضّل أن أُسلّم قيادي للعلم، بدلا عن السماح لهذا الجوهر بأن يضعف، لأنّه هو ذاته ذلك الحدس الذي لم أكتسبه من العلم، ولا يوجد إنسان يكتسبه عبر العلم، بل ينمو وسط البشر، الذين يتوجّب عليه أن يتجادل معهم ويكتشف نفسه فيهم".

أمّا تجربتاه المريرتان في النطق اللفظي المشوّه، والتمييز الذي عُومل به من أقرانه بسبب التشوّه في حنكه، فقد أثارتا لديه حساسيّة وقناعاتٍ خاصة. وصف هابرماس النطق عبر الأنف die Nasalisierung بأنّه كان سببا أساسيا في تقديره للكلمة المكتوبة أكثر من الكلمة المنطوقة طوال حياته.

ورد في رؤيا يوحنّا: ” والكلمةُ صارَ جسداً وحَلَّ بيننا”. يوحنا تعامل مع الكلمة كمذكّر، بينما أفلاطون اعتبر الكلمة النابضة بالحياة مصدرا للبصيرة. سقراط اعترض على الكتابة حسبما نقل عنه أفلاطون في محاورة ” فيدروس” اعتقادا منه أنّ الكتابة قد تقضي على الذاكرة وأنّ قراءة الطلاب لما كُتب قد توهمهم أنهم تحصّلوا على المعرفة وهي ليست سوى معلومات.

مع تقدّمه في العمر أصبح يورغن هابرماس يفضّل الكلمة المكتوبة على المنطوقة أكثر فأكثر. ينقل الفيلسوف الألماني رالف دارندورف Ralf Dahrendorf الذي كان مساعدا لهوركهايمر وقدّم أطروحاتٍ هامة عن الصراع الطبقي في المجتمع الصناعي، عن أدورنو قوله عن هابرماس:

"إنّ لديه شفّة الأرنب ولا يستطيع القيام بالتدريس، ولذلك سيكون لائقا للبحث فقط".

نظر هابرماس لتشوّهه الخلقي بكل بساطة كصدفة غير سعيدة، ليؤكّد مع صدور “نظرية الفعل التواصلي” في عام 1981 على أنّ النظريات الاجتماعية لها جذور في الحياة بعمومها، مشيرا لأهمّية الحدس العميق كصوتٍ داخليّ يعجز العلم نفسه عن تطويره، أي أنّه فصل بين العلم والحدس مثلما فصل بين العلم والتنوير، ولذلك ليس من المنطق الادّعاء أنّ كل فلسفته نابعة من طفولته.

تجربته الشخصية الثالثة كانت عن الإعاقة اللغوية التي أدّت إلى إقصائه ما دفعه للاهتمام بظروف نجاح أو فشل التواصل اللغوي، واستكشاف أساليب عمل المبادئ الأخلاقية والمعايير الاجتماعية للتعايش.

آمن هابرماس بأنّ فهم الإنسان لنفسه كذات أو كوجود يتغيّر على الدوام، فالقواعد والأخلاقيات التي يقتدي بها تتغيّر مع التطوّر المستمر لحياته، ليخوض في ماهية الإنسان وطبيعته وما يستطيع قوله وفعله في إطار انخراطه في مجتمعه وقضاياه الملحّة في مجمل تحوّلاتها وتغيّراتها، مؤكّدا أنّ الشغف يُعيننا على استحضار الحجج الأقوى والبراهين الأفضل في جدالاتنا وحواراتنا.

لا يُعوّلُ على يقظة متأخّرة للضمير المستتر المُضمر للبشر وبصيرتهم العمياء كي لا يُتّهم بالسذاجة، والخطاب وإن كانت هنالك شروطٌ لنجاحه لكنّه خطابٌ وحوارٌ خالٍ من تسلّط القواعد herrschaftsfreier Diskurs.

يقول كاتب سيرته ستيفان موللر دووم Stefan Müller-Doohm ([15]) إنّ سيرته تتماهى باستمرار مع أعماله وكتبه، فيخبره هابرماس “العمل جارٍ في تصاعد work in progress“([16])، ليتأكّد ستيفان أنّه ما زال متشبّثا متمسّكا بحافّة الجسر Geländer.

يعترف يورغن هابرماس بعناده، قائلا:

"كل شخص يُغيّر من نفسه في دورة حياته التي يعيشها، لكنّني أنتمي إلى أحد أكثر الأنواع عنادا والتي تُوصف بأنّها ذات هويّة برجوازيّة راسخة. لذا لا أعتقد أنّني قد غيّرتُ من توجّهاتي الرئيسيّة إلا فيما هو ضروري، للحفاظ عليها في ظلّ ظروف تاريخيّة متغيّرة".

هابرماس والنزعات التبريرية في التاريخ الألماني المعاصر

في شهر حزيران من عام 1986 بدأ في ألمانيا الغربية التي لم تكُ آنذاك قد توحّدت مع ألمانيا الديمقراطية، ما يُعرف بـنزاع المؤرّخين Historikerstreit الذي استمرّ على مدار العامين 1986 و1987 ملخّصا سياق الحياة الثقافية والسياسية في ألمانيا رغم أنّ خلاف المؤرّخين الألمان على المنهجية التاريخية يعود في جذوره للعام 1973.

 جوهر النزاع كان السؤال “ما الدور الذي تلعبه خصوصيّة الهولوكوست لتحديد صورة تاريخيّة نهائية لهويّة جمهورية ألمانيا الاتّحادية؟”. كانت ألمانيا حينها في حالة بحثٍ عن وعي وطني جديد.

مذ ذاك أفصح هابرماس عن مفهوم “الوطنية الدستورية Verfassungspatriotismus”، بعد توافقه مع اليسار الليبرالي على تفرّد المحرقة اليهودية كنقطة إرساء للهويّة الجماعية لألمانيا، لتمييزها عن الغرب التقليدي المعروف.

 المؤرّخ الألماني المحافظ إرنست نولته Ernst Nolte اعتبر المحرقة رد فعل على الخطر البلشفي الذي لا تقلّ جرائمه عن أفعال النازية، وبالتالي يجب تطهير الألمان من ذنب المحرقة اليهودية.

نولته نشر مقالا في صحيفة “فرانكفورت ألغماين FAZ” عام 1986، بعنوان “الماضي الذي لا يريد أن يُطوى Vergangenheit, die nicht vergehen will” ([17]). أمّا هابرماس فقد نشر مقالا في 11 تمّوز يوليو 1986 معلّقا على تصريحاتٍ سابقة لنولته، وعبر جريدة “الزمن Die Zeit” الألمانية بعنوان “نوع من تصفية الأضرار Eine Art Schadensabwicklung. النزعات التبريرية في التاريخ الألماني المعاصر Die apologetischen Tendenzen in der deutschen Zeitgeschichtsschreibung” ([18]).

لم تقتصر انتقادات يورغن هابرماس الشديدة على نولته، بل طالت مؤرّخين أبرزهم المؤرّخ والصحفي مايكل ستورمير Michael Stürmer، والمؤرّخ العسكري والدبلوماسي أندرياس هيلغروبر Andreas Hillgruber، والتربوي والمؤرّخ كلاوس هيلدبراند Klaus Hildebrand، مدّعيا أنهم يحملون نزعة تبريرية لأعمال النازية من خلال مقارنتها باستبداد ستالين وإرهاب البلاشفة في الإتّحاد السوفياتي السابق.

أكّد هابرماس في مقاله على جملة “الكلمات الرئيسيّة المعبّرة عن روح الزمن Stichworten zur Geistigen Situation der Zeit”، في إشارة لاعتبار هيلموت كول Helmut Kohl إعلان حكومته عام 1982 تجاوزا لـ “الأزمة الروحية geistigen Krise ” بألمانيا آنذاك، وردّا على مفهومٍ عُرف بسببه أولئك المؤرّخون بالمحافظين وهو مفهوم “اليمن الجديد Neue Rechte” المعبّر عن الطيف السياسي المحافظ.

الصحيفة التي نشرت مقال هابرماس وسمته بـ “إعلان الحرب Kampfansage” وهو ما يشير إلى أهمّية هذا النزاع ودوره في تحديد هويّة ألمانيا السياسية.

في عام 1984 زار هيلموت كول إسرائيل، ليُعلن منها تعبيره الشهير “نعمة الولادة المتأخّرة Gnade der späten Geburt” الذي اقتبسه من الصحفي الألماني غونتر غاوس Günter Gaus المتوفّي عام 2004.

الولادة المتأخّر تعني أنّ أولئك الألمان الذين وُلدوا بعد العام 1930 لا يحملون أيّ إثمٍ في جرائم النازيين لأنّهم لم يكونوا أحرارا في خياراتهم السياسية. وهنا يبدو ملفتا أنّ قدامى المؤرّخين الألمان أيّدوا نولته بينما المؤرّخون الأقل عمرا أيّدوا هابرماس.

عبارة هيلموت كول غدت لاحقا شعارا سياسيّا لما عُرف آنذاك بألمانيا بـ “التحوّل الروحي والأخلاقي Geistig-moralische Wende” وهو ما دفع المحافظين لتعزيز القيم المحافظة أكثر، ليكون ذلك سببا في تزايد مخاوف اليسار الليبرالي الجديد ومخاوف هابرماس، خاصة وأن كول أعلن بناء “متحف ألماني تاريخي Deutsches Historisches Museum” في القسم الغربي من برلين، وكانت اللجنة التأسيسية للمتحف برئاسة أحد روّاد سياسة الذاكرة الجمعية Geschichtspolitik المؤرخ  مايكل ستورمير الذي كان مستشارا لكول ولعب دورا كبيرا في تعزيز الهويّة الوطنية ولذلك وصفه هابرماس بأنّه “المُخطّط الأيديولوجي Ideologieplaner” للمحافظين.

عبّر المؤرّخ الألماني هانز مومسن Hans Mommsen المعروف بدراساته عن التاريخ الاجتماعي الألماني والدور الوظيفي للرايخ الثالث وهتلر وصاحب مصطلح “التطرّف التراكمي kumulativen Radikalisierung ” لوصف سياسة الإبادة النازية، عبّر عن مخاوفه من بناء المتحف: “محاولة لإنشاء هوية وطنية تاريخية مصطنعة من الأعلى“. المؤرّخون الثلاثة هانز مومسن وشقيقه التوأم فولفغانغ مومسن Wolfgang J. Mommsen ورفيق هابرماس المقرّب هانس أولريش فيلر Hans-Ulrich Wehler وقفوا بقوّة في صف هابرماس.

استندت أطروحات نولته على ما سمّاها “الرابطة السببيّة kausalen Nexus” بهدف إضفاء النسبية على المحرقة اليهودية ونزع التفرّد والخصوصية عنها، عبر الربط بين الستالينية والنازية مستعينا برواية “أرخبيل غولاغ” للروسيّ الحائز على نوبل الآداب 1970 ألكسندر سولجينيتسن Alexander Issajewitsch Solschenizyn عن معسكرات الاعتقال السوفياتية، ليطرح سؤألا على الألمان:

 "ألم يكُ أرخبيل غولاغ أكثر أصالة من أوشفيتز؟ هل تُثير أوشفيتز بأصوله ماضيا لا يُريد أن ينتهي؟".

أندرياس هيلغروبر نشر مقالا بعنوان “نهاية مزدوجة. تفكّك الرايخ الألماني ونهاية اليهودية الأوروبية Zweierlei Untergang Die Zerschlagung des Deutschen Reiches und das Ende des europäischen Judentums“، ليتّهمه يورغن هابرماس بأنّه يتعاطف مع الألمان في الجبهة الشرقية بدلا عن التعاطف مع الضحايا في معسكرات الإبادة Vernichtungslagern، وليتهمه كذلك بتنقيح أو “تعديل revisionistische” التاريخ، أي تحريفه.

اتّهم المؤرّخون المحافظون في نقابة المؤرّخين الألمان هابرماس بالتدخّل في الشؤون البحثية للنقابة وأنّ ذلك يُسيء لسمعته العلمية، لكن هابرماس نال دعم كثير من مؤرّخي النقابة ومنهم يورغن كوكا Jürgen Kocka وهاينريش أوغست وينكلر Heinrich August Winkler وآخرين.

وصف هابرماس مساعي المؤرّخين المحافظين بالمحاولات المخزية لطرد العار عن الألمان، وبتحريف هذا الماضي لخلق وعي قومي جديد عبر التخلّص من الماضي المشين.

الترجمة الكاملة للمقال

لماذا يستحقُّ الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس نصبا تذكاريّا؟

لقد منح وجها للمثقّف الألماني العام، وطبع ألمانيا الاتّحادية بحالة ذهنية لا مثيل لها. آن الأوان لنتذكّر حياة وعمل يورغن هابرماس Jürgen Habermas.

كتبه هانز أولريش غومبريخت Hans Ulrich Gumbrecht في 19   تشرين الأول عام 2020.

ليس في ألمانيا من اسمٍ أكاديميّ وقد نال هذا المقدار الهائل من الشهرة الكونية داخل أو خارج البرج العاجي للنصف الثاني من القرن الماضي كما هي حال يورغن هابرماس. سواء في طوكيو أو بيونس آيريس أو القدس، فهو في كلّ مكان، وبشكل بديهيّ، جزء من المعرفة المطلوبة حين قراءة الصفحات المميّزة عن الفن والأدب كما في المناقشات المرافقة للامتحانات. أمّا من يُصرّ على استكشاف ملفّه الشخصي أكثر، فعليه توقّع إجاباتٍ متعثّرة: نادرا ما يتجاوز هؤلاء الصورة النمطية لفيلسوف الجمهورية الفدرالية الحديثة ([19]) أو الماركسيّ الجديد الرائد دوليّا. أي أبعد من تلك الصيغ التي يطغى فيها الاحترام والتبجيل على حساب الشغف الفكري.

كيف يُمكن إذا تفسير أهمّية المثقّف الألماني الأشهر مع بلوغه الثانية والتسعين من العمر؟ هل يمكن أن تتلاشى هالته قريبا- كما لدى أسلافه من المشاهير الأوروبيين كـ نيكلاس لومان Niklas Luhmann ([20]) أو جاك دريدا Jacques Derrida ليغدو مرجعا أكاديميّا وحسب؟

الحـــياة Das Leben

لفهم أهمّيته، هنالك حاجة ملحّة لإلقاء نظرة على السيرة الذاتية ليورغن هابرماس الذي يُمثّل نموذجا يُحتذى به ليختصر تاريخ ألمانيا الحديث. وُلد هابرماس في عام 1929 (في ذات العام الذي وُلد فيه مارتن لوثر كينغ Martin Luther King وقبل عامٍ من ولادة هلموت كول Helmut Kohl) كابنٍ لأبٍ اشتراكيّ قوميّ (نازي) وبروتستانتيّ متزمّت ناجح، وعلاوة على ذلك عضوا في شبيبة هتلر- ولذلك يعتبر نفسه نتاجا لإعادة التأهيل الأمريكي Produkt der amerikanischen Reeducation بعد عام 1945.

درس في غوتينغن Göttingen وزيوريخ Zürich (كما هي الحال مع العديد من الشباب الألمان آنذاك)، وحصل على الدكتوراه في بون Bonn ثمّ حصل على شهادة التأهل للأستاذية رغم انجذابه للماركسية الجديدة لما عُرفت بمدرسة فرانكفورت – بسبب خصومةٍ مع رئيس المدرسة ماكس هوركهايمر Max Horkheimer– – في جامعة ماربورغ Marburg. إبّان سبعينيّات الجمهورية الألمانية الاتّحادية السابقة كان يرأس معهدا رائدا للأبحاث على ضفاف بحيرة شتارنبيرغير Starnberger See قبل أن يقفل عائدا إلى فرانكفورت في عام 1983، ليُزاحم ابن مدينة بيليفيلد   Bielefeld ومُنظّر نظرية الأنظمة نيكلاس لومان في منافسة أدّت لتنشيط المشهد الثقافي لبلاده بشكل غير اعتياديّ- ثمّ أصبح أخيرا في برلين العاصمة الاتّحادية المُعاد لمُّ شملها، حاملا لأعلى الجوائز الدوليّة ليرتقي ليُصبح رمزا لألمانيا ديمقراطيّة.

لكنّ السيرة الذاتية تُعيدنا فقط إلى حقيقة المجد الذي ناله هابرماس، وليس إلى العوامل التي رسّخت ذلك المجد. ما ساعد على ذلك باكورة إصداراته آنذاك وهو في الرابعة والعشرين عام 1953، بجريدة “فرانكفورت الغماين FAZ “. كانت تتعلّق ودون سابق إنذارٍ أو إخطار بمحاضرةٍ منشورة لـ مارتن هايدغر Martin Heidegger تعود لعام 1935، بـعنوان “عظمة الاشتراكية القومية (النازية) وحقيقتها الداخلية”.

لم يستجرّ ذلك الركون المريب للصمت “حيال الجريمة الفعلية المتمثّلة في القتل الممنهج لملايين البشر ” (ونادرا ما استُخدمت هذه الكلمات بشكل مباشر بغربي ألمانيا آنذاك) فقط غضب هابرماس الشابّ، بل أقرّ في ذات الوقت بإعجابه بفلسفة هايدغر وذلك التشويق الذي تثيره: “يبدو أنّ الوقت قد حان، للتفكير مع هايدغر ضدّ هايدغر“.

الفلسـفة

سرعان ما وصل ومسّ شغف البروفسور الشابّ يورغن هابرماس بالمشكلات العالقة المطروحة جيلا “ثوريّا” لاحقا من المؤازرين الأتباع. في نسختي العتيقة من “المعرفة والمصلحة Erkenntnis und Interesse” التي تعود لعام 1968 يورد من فوره الجملة الأولى من عددٍ لا يُحصى من الجمل المحمومة المؤكّدة على الجملة الجوهريّة المعبّرة عن روح تلك اللحظة: “تحليل الصلة بين المعرفة والمصلحة ينبغي عليه أن يُعزّز الادّعاء القائل بأنّ النقد الجذري radikale للمعرفة ممكنٌ فقط كنظرية اجتماعيّة”.

ما بدا للوهلة الأولى متكلّفا جدا وبتأثيرٍ من لغته الاصطلاحية المهنية jargonhaft ([21]) لم يكن في الواقع إلا إشارة لتنوّعٍ مرجعيّات النظر للمعرفة والآفاق المنبثقة منها في كلّ مكان ([22]). لكن مع هابرماس أصبحت هذه الكلمات كـ (راديكالي radikalen) أو (نقدي kritischen) – وكلاهما يحيلان على الدوام لمعنى سياسي- مشروعا نبيلا وفريدا، بدون قيود في علم الاجتماع آنذاك. يُضاف إلى ذلك نثرٌ سلسٌ هادئٌ في إيقاعه وتدفّقه، غير متشنّج يتطلّع إلى الأمام على الدوام، سرعان ما حاز على جائزة سيغموند فرويد Sigmund Freud.

في غضون ذلك اتّبع هابرماس تقليدا ألمانيّا جليلا وجديرا بالاحترام بإصراره المسبق على عدم استسهال الفصل بين عملٍ فكريٍّ ملتزمٍ سياسيا وعلم تجريبيّ موسومٍ بالـ (علموي szientistisch) ([23]). بدلا عن ذلك أراد أن يُنمّي ويرعى تصوّرا مختلفا لـ (العلم Wissenschaft) يُفترضُ به أن يتوسّط كتأمّلٍ ذاتي Selbstreflexion في بيئة “إعادة البناء Nach-Konstruktionen” للنصوص الكلاسيكيّة. ستتجلّى العواقب الفكرية لمثل هذا التعارض بين الالتزام والعلم المجرّد بوضوح في الـ 1100 صفحة من نظرية الفعل التواصلي Theorie des kommunikativen Handelns” من فترة “شتارنبرغ Starnberg”، والذي يعتبره هابرماس عمله الأساسي حتى اليوم.

للحفاظ على مسافة من “التجريبيّة المجرّدة blosser Empirie” من جهة، ومن جهة أخرى لتحاشي الاتّهام بأنّه ينجذب لتصوّراتٍ معياريّة عن “العقلانية التواصلية kommunikativer Rationalität” وفق “مساراتٍ أصوليّة ملتوية fundamentalistischen Abwegen“، خاض في متاهة ماراثون بمسافة مائتي سنة لمراجعة التاريخ الفكري الثقافي الألماني والأمريكي وأحيانا الفرنسي أيضا. يتبعه قارئه بضمير حيّ وقّاد مع قصاصات ورقيّة لتدوين ملاحظاتٍ أكثر ذكاء ولكن نادرا ما ينتج جدالٌ عنها. وفي نهاية كلّ – بعد أن تكون كلّ السبل قد استنفذت – التفسيرات والتأويلات لمرحلة (ما بعد البناء) يعود الوعد بالعقلانية التواصلية ليمدّه بأملٍ حذر في تكوين “اتّساقٍ ميمون بين شظايا نظرية مختلفة”.

وبالمثل فقد كان للطوطولوجيا tautologisch ([24]) تأثيرٌ مشابه عام 1985 في “الخطاب الفلسفي للحداثة Der philosophische Diskurs der Moderne” حيث كان الدفاع عن التنوير والحداثة وفقا لهابرماس كـ “مشروعين لا يزالانٍ قيد الاستكمال noch zu vollendenden Projekten”([25]) ردّا على اعتراضاتٍ مختلفة طالت كذلك “إعادة البناء nach-konstruierten“([26]). كذلك كتاب “أيضا قصّة للفلسفة Auch eine Geschichte der Philosophie” الذي نُشر في أوّل العام الماضي ([27]) يتخطّى حتى كتاب “نظرية الفعل التواصلي” في ضخامته بألف صفحة مذهلة، حيث من المفترض ([28]) أنّه يبرهن على الاستمرارية بين فلسفة منظّمة موجّهة لكلية الوجود البشري وبين اللاهوت الديني في فترة ما قبل التاريخ ([29]).

الموقف الشخصي

من الواضح جدا أنّ يورغن هابرماس كان سيختفي منذ زمنٍ طويل في ركنٍ مهمل من العالم الأكاديمي كمتقاعد بمنصبٍ فخري، لو أنّ تفاصيل حياته كانت قد انعكست في هذه النصوص. ليس فقط لأن مستويات الإبداع الدنيا تتراجع لتتلاشى في الماضي، بل أيضا وعلى الأرجح لأنّ نقطة التلاشي ([30]) لليسار الليبرالي تهيمن على المجتمع الألماني أكثر من نظيرتها الاشتراكية كرأي للأغلبية.

حقيقة أنّ هابرماس بقي حاضرا على المستوى الدولي وقبل ذلك على المستوى الوطني يجب أن تُعزى إلى المزاج السائد الذي دوّت فيه بواكير كتاباته بنجاح، ولا بدّ أنّ كلّ مستمعٍ من مستمعيه قد عانى أحيانا من صعوبةٍ في فهم بعض الكلمات المشوّهة بسبب تشوّه خلقي لديه ([31]). من جهة أخرى فإنّ هذا التخصّص الشخصي persönliche Spezialität (كما يقول هابرماس متهكّما من ذاته) قد عزّز لديه حضورا لا تضاهيه في أهمّيته كلّ تلك النظريات والمشاريع أو المواقف، الأمر الذي أكسبه قيما معيارية ([32]) تضاهي تلك القيم الاعتيادية، ما جعل منه المثقّف الأكثر حيويّة في الشأن الوطني العام.

لطالما تدخّل مرّة تلو أخرى- وبتأثير جليّ واضح- موضوعاتيا ليُثير سجالات مختلفة تماما. في عام 1986 ومع الوعيد بالتنصّل من إحياء الذاكرة الاشتراكية القومية (يقصد النازيّة) Nationalsozialismus، وفقا للعديد من المقارنات النمطية بين المؤرّخين المحافظين، أثار هابرماس بروح الحماس والنشاط في نصوصه الشبابية تلك مواجهة حادّة مكثّفة. شدّد على تفرّد الماضي الألماني وعلى المسؤولية عنه، ومواجهته كعلامة مشينة غير مريحة للحاضر السياسي. بدلا عن قمع معارضيه، ألزمهم بالتمايز فيما بينهم أكثر فأكثر.

قبل ذلك بعام واحد وفي كتابه “الخطاب الفلسفي للحداثة Der philosophische Diskurs der Moderne” كان قد امتنع عن الاعتراف بـ(تفكيكيّة جاك دريدا Jacques Derridas Dekonstruktion) بسبب ما ورد فيها من (طمس الاختلاف في النوع بين الفلسفة والأدب Einebnung des Gattungsunterschieds zwischen Philosophie und Literatur) ([33]) وكان السبب في ذلك على وجه التحديد -وبالتأكيد كان محقّا في ذلك – هو خشيته من أن ذلك قد يفرض عليه التحلّل من أيّ التزامٍ يُحيل إلى الواقع. غير أنّه ودون أن يتراجع عن معارضته نهائيّا، سعى لاحقا للتقرّب من دريدا في النقاشات الأوروبية الجارية باستمرار ([34]). أخيرا وفي عام 2004 خاض هابرماس، ذلك المفكّر (الغير ورِع دينيّا religiös unmusikalische) وفقا لشهادته نفسها، في نقاشٍ مع من غدا لاحقا البابا بنديكتوس السادس عشر Benedikt XVI، عن انفتاح التفكير العلماني على العبادات والصلوات الاجتماعية (الليتورجيا Liturgie) ([35]) واللّاهوت. هنا شرع في النظر إلى فترة ما قبل التاريخ كأحد أشكال الوعي الذاتي الفلسفي، الذي يقاوم الميل الأكاديمي للتخصّص.

ما تبقّى

هكذا تتّضح لنا الطروحات المركزية الثلاث في فكر يورغن هابرماس، والتي لم تُطبع في كتب بشكلها الاعتيادي المتعارف عليه، لكنّها امتلكت قوّة مثيرة – وهي تحديدا التأسيس الغير الأصولي للعقلانية التواصلية، مواجهة مشروع الحداثة مع التفكيكيّة (Dekonstruktion) ومجازفة المجتمع ما بعد العلماني (postsäkularen) في التقريب بين الفلسفة واللاهوت – التي أبانت عن طاقة دفعٍ قويّة، الأمر الذي غيّر نمط الحياة السياسية في ألمانيا وللأبد. لم يكن سهلا على هابرماس استعادة دور المثقّف العام، بعدما كان هذا الدور غائبا مفقودا في الماضي الألماني. لقد منح لهذا الدور كذلك شكلا جديدا محفّزا على خوض المواجهات.

بدلا عن التركيز على تحفيز المزاج الاجتماعي فلسفيّا وأدبيّا ([36]) ككبار كُتّاب الوجوديّة Existenzialismus في عام 1950، ساهم -وربما بخلاف توجّهاته السياسيّة الخاصّة – في تنامي آفاق التعقيدات الفكرية الناشئة. لقد غدا الفكر مصدرا لبدائل الفعل.

هذه الحياة العملية غير الأكاديميّة يمكن اعتبارها تطوّرا عمليّا للأطروحتين الرئيسيّتين في عمل هابرماس “التحوّل الهيكلي للمجال العام Strukturwandel der Öffentlichkeit” الذي نُشر في عام 1962 كأطروحة تأهيل للأستاذية. أوّلا كتأكيد على الحدس Intuition بأنّ المجال العام ومنذ القرن الثامن عشر لم يتطوّر مباشرة بالنوايا الخاصّة لأبطاله واستراتيجيّاتهم، بل بالانعطاف على سمات الوعي الذاتي الخاص – كالمزاج الشخصي لكاتبٍ ما. ثانيا، ومع التأكيد المتنامي على التنوّع والتعقيد الفكري، كإجابة عن سؤالٍ كان قد بقي منذ عام 1962 مفتوحا دون إجابة، كيف يمكن إذا للمجال العام أن ينجو بنفسه في عالم تكنولوجيا الإعلام وتتولّاه العولمة.

إنّ إعادة إحياء ألمانيا ديمقراطيا، باعتبارها تلك الأمّة السياسية التي كانت قد فشلت في هواجسها عن التوافق والتجانس، لتعود وتتعايش مع إيماءات النقاش الفكري، يجعل من إقامة نصبٍ تذكاريّ ليورغن هابرماس في برلين أمرا مهمّا عن استحقاق، ذلك أنّ فكره من الممكن أن يذوب متواريا في التيّار الرئيسي السائد حاليا في الجمهورية الاتّحادية، وإلّا فإنّه سيؤول للنسيان.

* هانز أولريش غومبريخت Hans Ulrich Gumbrecht هو كاتب وأستاذ فخري للدراسات الأدبية في جامعة ستانفورد Stanford. نُشرت له مؤخّرا ترجمة من الاسبانية إلى الألمانية، وهي رواية “Handorakel” للكاتب الاسباني بالتاسار جراثيان Baltasar Gracián، إصدار (دار نشر Reclam، 2020).

إضافة من المترجم عن هذه الرواية: سبق وأن قام بترجمتها عام 1832 إلى الألمانية الفيلسوف الألماني آرثور شوبنهاور Arthur Schopenhauer، واستغرقت ترجمتها معه أربع سنوات.

أمّا كاتب المقال هانز أولريش غومبريخت فقد أصدر قبل فترة قصيرة كتابا يتجاوز ألف وخمسمائة صفحة عن الأدب الاسباني وتاريخه.

الهوامش والإحالات:

([1]). يورغن هابرماس، مستقبل الطبيعة الإنسانية. نحو نسالة ليبرالية، ترجمة إلى العربية جورج كتّوره ومراجعة أنطوان الهاشم، المكتبة الشرقية، الطبعة الأولى، بيروت 2006. ص 7.

([2]). نفس المرجع السابق ص 12.

([3]). تعبير إيغلتون مقتبس من كتابه “لماذا كان ماركس على حق” من إصدار دار الكتاب العربي ببيروت، ترجمة أ.د. غانم هنا، الصادر عام 2013، ص “23”.

([4]). ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، جدل التنوير، ترجمة جورج كتّورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى 2006، ص “63”.

([5]). ماكس هوركهايمر، النظرية النقدية والنظرية التقليدية، ترجمة مصطفى الناوي، مراجعة مصطفى خياطي، عيون المقالات، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، المغرب 1990، ص (85).

(([6] . يمكن ترجمة Vergesellschaftung أيضا بالتأميم، لكن هنا تحديدا تشير إلى التنشئة الاجتماعية أو الإخضاع للنظام الاشتراكي كذلك، وقصد بها ماركس التنشئة الاجتماعية للإنتاج، أي تحويل فعل إنتاج وتوزيع السلع والخدمات من علاقة فردية إلى علاقة اجتماعية وجهود جماعية خاصة مع اضطّراد تطوّر الرأسمالية.

([7]). غريم غيلوتش، فالتر بنيامين: تراكيب نقدية، ترجمة مريم عيسى، مراجعة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (سلسلة ترجمان)، الطبعة الأولى، بيروت، 2019، ص “90”.

([8]). يقابلها بالفرنسية bec-de-lièvre أو fente palatine، وبالإنكليزية Cleft lip أو cleft palate، وبالعربية يُوصف المصاب بها بأنّه أشرم الشفة. يمكن مشاهدة صورة واضحة عنها عبر هذا الرابط.

([9]). يمكن التعرّف على أهمية الجائزة عبر هذا الرابط.

([10]). تتعلّق نظرية حنّه أرندت عن الفعل بمفهوم الممارسة في السياسة ومسائل المعنى والهويّة، وميّزت فيه بين الفعل كممارسة وكصنعة أو صناعة، لتربط ذلك بمفهوم الديمقراطية التشاركية والحرية والتعدّدية، فالفعل محدّد للاختلاف بين البشر ومميّز له عن الحيوان، ويمثّل الفعل عندها تحقيقا لحياة عملية عبر الكدح والعمل وهو من أهم أنشطة البشر. الكدح هو ما يُبقي الإنسان على قيد الحياة، والعمل يتمثل في بناء عالم صالح للبشر، أما الفعل فيتمثّل في كشف هوية الفاعل لإثبات واقع العالم وتحقيق قدرتنا على الحرية وتمثّلنا لها. تقول حنّه أرنت: ” إن البداية الجديدة المتأصلة في الولادة يمكن استشعارها في العالم، ذلك لأن المولود الجديد قد امتلك قدرة على بدء شيء من جديد، وهو الفعل”.

([11]). هابرماس، مستقبل الطبيعة الإنسانية، ص “73”.

([12]).  هنري برغسون، التطوّر المبدع، السلسلة العربية لمجموعة الروائع الإنسانية -اليونسكو، ترجمة من الفرنسية إلى العربية جميل صليبا، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، المكتبة الشرقية، بيروت، 1981، ص 126.

([13]). هذا الاقتباس ذُكر في مناسبة احتفال يورغن هابرماس بعيد ميلاده الثمانين، ويمكن قراءة النص الألماني الأصل الذي قمتُ بترجمته عبر هذا الرابط.

([14]). يمكن مراجعة كتاب هابرماس “الحداثة وخطابها السياسي” من ترجمة جورج تامر ومراجعة جورج كتورة وإصدار دار النهار ببيروت، الطبعة الأولى 2002، الصفحة 22.

([15]). ستيفان موللر دووم Stefan Müller-Doohm بروفسور وأستاذ فخري لعلم الاجتماع في جامعة أولدنبورغ Oldenburg، وأصدر كتابه “يورغن هابرماس. سيرة ذاتية Jürgen Habermas. Eine Biographie” في عام 2014 وهو من إصدار دار النشر Suhrkamp.

([16]). لفهم ما تعنيه كلمة progress بدقّة فهي تُشير وعلى وجه التحديد حين تقوم بتسطيب وتنصيب برنامج ما على الحاسوب أو تطبيقٍ ما على الموبايل إلى الجملة التي يذكرها البرنامج أو التطبيق إلى أن تنصيب وتسطيب البرنامج جار إلى أن ينتهي المخطط البياني التصاعدي لعملية التنصيب وتختفي بعد ذلك الجملة.

([17]). يمكن قراءة مقال نولته عبر هذا الرابط.

([18]). يمكن قراءة مقال هابرماس عبر هذا الرابط.

([19]). كان وزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر هو أول من أطلق على هابرماس وصف “فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة”.

([20]).  نيكلاس لومان Niklas Luhmann أحد أشهر المثقّفين الألمان ومات في العام 1998 عن عمر 71 سنة بعد معاناة مع مرض اضطراب المناعة الذاتية واعتبر الألمان موته حدثا لا يُصدّق. اشتهر لومان بنظريته عن النظم الاجتماعية وكتابه “النظم الاجتماعية: مدخل لنظرية عامة Soziale Systeme: Grundriß einer allgemeinen Theorie”.

([21]). يستعمل كاتب المقال كلمة jargonhaft للإشارة إلى استخدام هابرماس للغة اشتقاقية اصطلاحية وأكاديمية نابعة من تخصّصه المهني، وكلمة Jargon تعني كذلك حسب ما ورد في المشروع الخاص بالمنظمة العربية للترجمة أنها لغة مضطّربة وغريبة ولكننّي أميل لكونها تعبّر عن اللغة الاصطلاحية الخاصة بكل مجال، وهي كذلك تدلّ على الرطانة في اللغة.

([22]). ربط يورغن هابرماس بين العقلانية وطريقة استخدام المعرفة، فذهب إلى اعتبار الطريقة التي تُستخدمُ بها المعرفة هي ما تُحدّد “معنى العقلانية den Sinn der Rationalität“، فالعقلانية لدى هابرماس هي ” كيفيّة استخدام الموضوعات الرشيدة والكلام للمعرفةwie sprach- und handlungsfähige Subjekte Wissen verwenden”.

([23]). العلموية Szientismus يمكن القول إنّ جذورها تعود إلى عصر النهضة الأوروبية والقرن السابع عشر وما عُرف بعصر الثورة العلمية وبشكل خاص اللغة العلمية الصارمة لكل من ديكارت وفرنسيس بيكون ثم وأخيرا كانط وما عُرف عن فلسفته الوضعية المبنية بناء على الفلسفة التجريبية لديفيد هيوم التي وضعت ثقتها بالحواسّ فقط كمعرفة صحيحة يعجز الغيب عن التعالي عليها. لكن هابرماس يجد العلموية حاملة لمعنى إيمان العلم بذاته وفهم العلم باعتباره تطابقا بين العلم والمعرفة.

أما الفرق بين العلم والعلموية فهو أنّ العلم نشاط استكشافي للعالم الطبيعي باستخدام أساليب دقيقة ومحدّدة تناسب تعقيد الكون ومكوّناته، وكل تخصّص علمي يستخدم ما يناسبه من وسائل وتقنيات مساعدة على استكشاف المجال الذي يدرسه. أما العلموية فتنطلق من محدودية قدرات البشر في الوصول لحقيقة مطلقة للكون ومغزاه وهي لذلك تلجأ لأسلوب التخمين في دراسة هذه الحقيقة وتركّز في جزئها الأوسع على سلوك البشر ومعتقداتهم.

تعرّضت العلموية لانتقادات شديدة محقّة في أغلبها، لكن أبرز من ساعد على إشاعة المصطلح في إطار نقده لها كان الاقتصادي النمساوي البريطاني الحائز على نوبل الاقتصاد عام 1974 فريدريش هايك فوصف العلموية بأنّها ” التقليد العبودي لمنهج ولغة العلوم التجريبية” باعتبارها نظرة شمولية غير مقبولة للعلم التجريبي. والعلموية تشير إلى التطرّف في المنهجية العلمية والإفراط في تطبيق العلم التجريبي وبالتالي هنالك استخدام غير صحيح للعلم مع الإصرار على جعل العلم التجريبي مصدرا موثوقا وحيدا للمعرفة. ولذلك فإنّ استخدام المصطلح من قبل منتقديه يشير أحيانا إلى نظرة ازدرائية له.

([24]). Tautologie الطوطولوجيا كلمة إغريقية الأصل وتعني “تكرار القول نفسه”. يعود المصطلح للقرن الثامن عشر بالاستعارة من الأصل الإغريقي ταυτολογία‎ وقد استخدمه لأول مرة لودفيغ فيتغنشتاين منذ العام 1921 عبر الإشارة إلى الروابط المنطقية التي تربط بين القضايا وهذه الروابط تشكّل أساس بناء القضايا لذلك يتم وصفها بالقضايا الذرية. شخصيا أفضّل ترجمتها بالبلاغة الأسلوبية المزدوجة لأنّها لا تشير لما يُعرف من سلبية في كلمة الحشو العربية خاصة وأنّها تبدو أقرب إلى تكرار يُراد به التعبير عن شيء مُراد لمرتين أو أكثر بهدف تعزيزه ويحافظ على صوابية الشكل رغم كلّ المتغيّرات وبالتالي فهو ضروري، وهنالك ما يُطلق عليه الحشو القبيح وهو Pleonasmus ويُفيد في معنى التطويل الذي لا فائدة منه ولا ضرورة له. كمثال عن الطوطولوجيا يمكن مثلا استخدام كلمتي دائما وابدا اللتين تحملان ذات المعنى أو استخدام كلمتي القلق والخوف، فالخوف منطقيا ينجم عن القلق. وكذلك الحال بالنسبة لكلمتي الحضور والوجود. مثال عن الحشو القبيح “العمل عمل، والخمر خمر”.

والتكرار يمسّ الاختصارات التي يُساء فهمها أو من كلمات أجنبية بالأساس.

كتطبيق عملي للحشو يمكن أخذ نظرية الانتقاء الطبيعي مثلا:

أولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة كانوا الأكثر قابلية للتكيّف. ثم حين السؤال عمّن هم الأكثر قابلية للتكيّف تتم الإجابة بأنّهم الذين ما زالوا على قيد الحياة.

([25]). ويصحّ القول: “مشروعٌ لم يُنجز” والكاتب يقصد عنوان محاضرة هابرماس “الحداثة: مشروع لم يُنجز” التي قدّمها في العام 1980 بمناسبة استلامه لجائزة أدورنو.

([26]). في الألمانية تدلّ الكلمتان Nachkonstruktion وRekonstruktionعلى معنى إعادة البناء لغويّا وتقابلهما في الإنكليزية Reverse Engineering أي الهندسة العكسية الدالة أيضا على إعادة البناء، وإعادة البناء عادة ما تكون عملية افتراضية كأن تتمّ إعادة تمثيل جريمة مرتكبة مثلا أو إعادة بناء صورة افتراضية لأي حيوان منقرض كالديناصورات مثلا وهي تستند على قاعدة بيانات بهدف اكتشاف بناء نظام ما عبر تحليل بنيته. أما مع هابرماس فهذا المصطلح استخدمه بشكل متأخر وهو على ارتباط بمصطلح Selbstreflexion الوارد أيضا في هذا المقال والذي يفيد بمعنى التأمّل الذاتي أو التفكير الذاتي، وكلاهما متعلّقان هنا بعملية الإدراك وما يتعلّق بها بعوامل لضمان فهم المضمون والمحتوى وتوضيحه، أي أن الأمر في النهاية متعلّق بالمعرفة. وقد ذهب هيغل كما يشير هابرماس لاستبدال نظرية المعرفة بالتأمّل الذاتي الفينومينولوجي للروح، وتحدّث هابرماس عن الشروط التي تُتيح معرفة ممكنة لذاتٍ عارفة باعتبارنا لا نستطيع التيقّن من الحقيقة وصحّتها بالمعارف المكتسبة لهذه الذات، وبشكل آخر فهابرماس يقصد استقصاء قدرة هذه المعرفة نقديا وفق شروط معيّنة ليصل للقول بحتمية الشكّ

ومن ثمّ فإن هذا يُحيل بكل تأكيد إلى النظرية البنائية للفرنسي جان بياجيه المعروف مدى تأثر هابرماس بها والأخذ بها في الكتابة عبر الانتقال من نظرية إلى نظرية لإثبات صحة موضوع ما، وبياجيه ناقش في كتابه ” تطور التفكير” كيفية الموازنة في البنى المعرفية للوصول إلى فهم دقيق لهذا العالم، أي الأمر يتعلق بإعادة بناء عقلي ومعرفي.

([27]). نُشر كتاب هابرماس “أيضا قصة للفلسفة Auch eine Geschichte der Philosophie ” في أوائل عام 2019. في هذا الكتاب أظهر هابرماس ورغم بلوغه الحادية والتسعين روحا نقديّة كبيرة، وهو يتتبّعُ ظهور الشخصيّات الفكرية من أصحاب الفكر ما بعد الميتافيزيقي في العالم الغربي، عبر استخدام نوع خاص من علم الأنساب او الجينالوجيا Genealogie، لملاحقة نوع الخطاب المستخدم لدى هؤلاء المفكّرين عن المعرفة والإيمان، الأمر الذي أدّى فيما بعد للفصل بين الفلسفة والدين الذي قد تتمُّ علمنته كما يطلب هابرماس. ويُرجع هابرماس ذلك في كتابه إلى التقاليد الفكرية المنبثقة أثناء الإمبراطورية الرومانية، وفي أثناء ذلك يتابع هابرماس معظم التطوّرات التي حصلت في العلوم والقانون والسياسة.

(([28]. وكأنّ كاتب المقال يودّ أن يُخبرنا بإنّه لم يقرأ بعد كتاب يورغن هابرماس الأخير.

([29]). يُقال في دراسة تاريخ الفلسفة “الفلسفة ما قبل سقراط وما بعده” حيث وُصف سقراط بأنّه جلب الفلسفة من السماء إلى الأرض.

([30]). نقطة التلاشي تعرف كذلك بنقطة الفرار وهي النقطة أو المحور الشاقولي التي تنتهي إليها كافة الخطوط المتوازية في الواقع لدى إسقاطها في المنظور. وعلى أساس هذه النقطة ينمّ إنجاز اللوحات الفنية من نوع ثلاثي الأبعاد. يمكنك الوقوف مثلا في منتصف طريقٍ مستقيم لترى أنّ جانبي الطريق وكل الخطوط المرسومة عليه تلتقي في خطّ الأفق. وما يقصده الكاتب هنا هو أنّ الألمان يؤيّدون اليسار الليبرالي أكثر من الاشتراكيين اليسار أي أنهم يتلاقون في نقطة دعمهم وتأييدهم هذه.

([31]). يقصد كاتب المقال هنا ما سبق وأشرتُ إليه في المقدّمة المرفقة عن شفّة الأرنب التي كانت تجعل من كلامه غير واضح وغير مفهوم.

([32]). المقصود بهذه القيم هنا هي القيم المقيّمة للسلوك الشخصي لهابرماس وفعله، وكانت قيما عالية في إيجابيّتها.

([33]). في كتابه “الحداثة وخطابها السياسي” المشار إليه أعلاه يضع هابرماس جاك دريدا رفقة جورج باتاي وفوكو وما يسميّه روح نيتشه ضمن فئة وصفها بأنّها وبمساعدة موقف حداثي يعلّلون عدائيّة مرّة للحداثة معتبرا أنهم يكشفون عن ذاتية غير متمركزة متحررة من محدودية المعرفة.

([34]). يروي جاك دريدا ليشرح كيف كسر هابرماس ذلك الحاجز الجليدي بينهما في أثناء مشاركتهما معا في إحدى المؤتمرات بأمريكا قائلا: “اقترب هابرماس مني بابتسامة لطيفة، واقترح: إن لدينا نحن الاثنين ما نناقشه. وافقتُ بلا تردّد وقلتُ: دعنا لا ننتظر إلى أن يفوت الأوان”… من كتاب جيوفانا بورادوري “الفلسفة في زمن الإرهاب. حوارات مع يورغن هابرماس وجاك دريدا”، ترجمة وتقديم خلدون النبواني، مراجعة فايز الصيّاغ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت 2013، ص “14”.

([35]). الليتورجيا Liturgie كلمة يونانية الأصل وتعني الخدمة الكنسية أو العبادات والصلوات الاجتماعية بمختلف أنواعها، يوافقها بالعربية مصطلح القداس الإلهي. ينظر إليها المؤمنون المسيحيون كطعامٍ يقدّمه الله لهم عبر الكنيسة، وبالتالي فهي أقرب إلى السرّ الإلهي الذي يحمل خلاصهم لأنها تستحضر كل تاريخ الخلاص وتدبير الله الأزلي الذي لا يُستكمل إلا بهذه الصلوات والطقوس.

لدى اليونانيين كانت الليتورجيا تعني الخدمة العامة أو خدمة الآلهة، وهي تتكون لغويا من كلمتين هما (لاؤس شعب) و(أرجون عمل) أي عمل شعبي. ومن الليتورجيا اشتُق مصطلح Leitourgik الذي يعني علم الليتورجيا وهو أحد أقسام علم اللاهوت ويدرس عموم العبادة المسيحية والليتورجيا الإلهية الخاصة.

([36]). يستعمل كاتب المقال هنا الفعل الألماني kondensieren الدالّ على التكثيف وهو هنا بمعنى التركيز على المحتوى الأساسي لطروحات يورغن هابرماس وجوهرها وهو ما تسامى هابرماس عليه بعكس الوجوديّين الذين ركّزوا على محتوى طروحاتهم، بحسب الكاتب في المقال المترجم.