لا غنى عن حوار الثقافات!

منذ اعتداءات الحادي من سبتمبر/أيلول بدأ يطرح شعار حوار الثقافات على الساحة السياسية. وترى الباحثة نايكا فروتان أنه لا غنى عن اتباع استرتيجية الحوار بين الثقافات في السياسة الخارجية في زمن أثبتت الأساليب العسكرية فشلها.

​​

إن الحوار الثقافي في ظل الأوقات التي يتحسس فيها المرء معالم "الصراع بين الثقافات" أي التي تهيمن عليها النزاعات بين الحضارات المختلفة، هو موضوع يمس صلب السياسة الأمنية أو لنقل إن الأمر يتطلب وضعه في صلب هذه السياسة طالما كان المبتغى كبح جماح التصعيد.

الملفت للنظر أن موضوع الحوار الثقافي يكون في العادة رهن الساعة عندما تصبح الأمور في حكم المتدهورة. عندئذ يطلب منا كعلماء أن نبت بطبيعة الإجراءات اللازم اتخاذها لاحتواء صراع الحضارات.

هذا على الرغم من أننا قد حاولنا منذ سنوات عديدة لفت الاهتمام بكون الحوار الثقافي أي الحوار بين الثقافات المعرّف كبديل للصراع بينها ليس بحكم برنامج طوارئ قصير الأجل بل هو عملية مستديمة وطويلة الأجل ينبغي أن تتحقق لا على المستوى الثقافي البحت فقط بل على الصعيدين السياسي والاقتصادي أيضا.

قبل كل شيء ينبغي إسباغ طابع مؤسسي على هذا الحوار. بمعنى أن الأمر يتطلب إنشاء مؤسسات تواكب إنشاء هذا الحوار على مستويي الدولة والمجتمع وتشرف على مسيرته أيضا. فالحوار الثقافي لم يعد محض مفهوم نخبوي جمالي ينفرد به المثقفون وأقرانهم لا سيما وأن هناك في الأصل فهما متبادلا قائما في صفوفهم.

إن الحوار الثقافي في ظل الأوقات التي يتحسس فيها المرء معالم "الصراع بين الثقافات" أي التي تهيمن عليها النزاعات بين الحضارات المختلفة، هو موضوع يمس صلب السياسة الأمنية أو لنقل إن الأمر يتطلب وضعه في صلب هذه السياسة طالما كان المبتغى كبح جماح التصعيد.

من يقوم بالحوار ومن المستهدف؟

منذ احتدام الخلاف الذي يصعب وصفه بالكلمات حول موضوع رسوم الكاريكاتور كان السؤال التالي يوجه لي دائما في المقابلات التي أجريت معي:

"هل يعني ذلك أن الحوار قد فشل، وما هي ثمار هذا الحوار على وجه عام؟ إن الحوار هذا لا يجلب شيئا على الإطلاق! فالحديث يجرى في هذا السياق بين أصحاب السلطة والنفوذ فحسب، أما أفراد الشعب البسطاء فالحوار لا يصلهم".

لا يحلو لأحد ما أن يسمع ردا على ذلك بأن الحوار الثقافي لم يصبح حتى الآن جزءا من الثقافة السياسية أي أنه لم يتحقق على نحو حقيقي ملموس، بل كل ما في الأمر أن هناك شعارات ترفع بهذا الشأن وبأن هذا الحوار لا يصبح للأسف الشديد من مواضيع الساعة إلا في حالة اشتعال نيران التوتر. أما في داخل الرؤوس فالتصور التالي يبقى قائما "هذا الحوار هو فقط من قبيل الثرثرة وبالتالي فإنه لا يجلب أية نتائج.هذا الأمر بدأ يتضح لنا الآن".

من أهم أسباب ذلك أن مفهوم الحوار الثقافي بدأ يطرح كشعار من قبل السياسيين وليس في سياق الجدل العلمي، للمرة الأولى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عندما أصبحت أجندة النزاع واضحة جلية.

لكن مشكلة التباعد الثقافي كانت في حيز الوجود حتى قبل وقوع تلك الأحداث أيضا. كما بذلت قبل عام 2001 المعني جهود لتحقيق تقارب بين الحضارات المختلفة، ومن أمثلة ذلك مطالبة الرئيس الإيراني السابق خاتمي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1998 بخلق حوار بين الثقافات. بناء على ذلك أعلنت الأمم المتحدة عام 2001 عاما لتبادل الحوار بين الثقافات. لكن العام المذكور ينظر إليه في المقام الأول من زاوية اندلاع الصراع بين الحضارات وبالتالي من باب فشل الحوار الثقافي.

ما هي طبيعة النزاع الذي نتحدث عنه؟

نزاع الحضارات مفهوم يجمع بين عناصر عدة. فهو يشمل مثلا العلاقة بين الحضارات والبعدين العرقي السياسي من جانب والديني من جانب آخر. خلفيات النزاعات ما زالت تتسم بطابع "كلاسيكي"، إذ أنها تشمل مجالات الاقتصاد والقوة والأراضي الإقليمية والملف الجيوسياسي.

هذا وإن جرى إسباغ صفات حضارية على هذه الخلفيات، فهناك مغالاة =في إبراز الفروق العرقية والثقافية والدينية القائمة مما يفرز حواجز حيال حضارات معينة تدين بقيم ومبادئ مختلفة. هذا الطرح يكرّس لدى التابعين لحضارة ما صقلا لهويتهم.

الباحثة نايكا فروتان، الصورة: من الأرشيف الخاص
نايكة فروتان باحثة ألمانية ذات أصل إيراني، أستاذة علاقات دولية في جامعة غوتنغن.

​​فالنزاعات القائمة بين الحضارات تفرز نحو الخارج الحواجز والرفض فيما تعزز الهوية والاندماج في الداخل وتؤدي إلى تقوية عوامل الربط والوصل الداخلية. النزاعات بين الحضارات تتطرق أيضا إلى المرجعيات المرتبطة بتعريف القيم والتصورات الأخلاقية والمفاهيم الخاصة بالنظام العالمي الشامل.

وتنطلق هذه النزاعات من اعتبار القيم والمقاييس التي تؤمن بها حضارة ما ذات مرتبة أعلى من المدنيات الأخرى بمعنى أن هناك رؤية تحتل من خلالها المدنية الذاتية المرتبة العليا في إطار تدرج هرمي.

لو تعمقنا في النظر هنا فإننا سنلاحظ بأن هناك في هذا الصدد تشابها كبيرا مع النزاعات الأيديولوجية التي حلّت في غضون الخمسين عاما الماضية. فالاعتقاد بملكية المرجعية المرتبطة بتعريف القيم وبالصور القائمة حول العالم والأشكال الحياتية والانطلاق من التصدر الهرمي للمعدلات الحضارية الذاتية واتخاذ مواقف مناوئة للحضارات الأخرى بما يعني الاستعداد ولو الجزئي لتدمير الطرف "الآخر"، كل هذه الصفات هيمنت في السابق أيضا على النزاعات التي واكبت الاستقطاب الثنائي الدولي.

عندما نتعرف الآن على معالم صراع الحضارات الراهن ونكون في أن واحد على قناعة بأن هذا الصراع لا يمكن التغلب عليه بالأساليب العسكرية، فإن هذا يتطلب منا البحث عن حل آخر.

الحوار بين الحضارات

تبدو فكرة الحوار وكأنها واضحة وضوح الشمس، مع ذلك فإن السؤال يطرح نفسه بإلحاح عن الأسباب التي تجعل الحوار مهيأ لتسوية النزاعات.

وقد آن الأوان الآن للبحث في الطبيعة الوظيفية للحوار. ينبغي هنا الرجوع على وجه خاص إلى أبحاث العالمين كارل أوتو أوبيل ويورغين هابرماس التي أثبتت بأن للحوار طابعا حججيا ينطلق من توجهات وتطورات معينة ثابتة.

فالذي يعمد إلى استخدام الحجة على نحو جدي يتحتم عليه أن يعتبر في هذه الحالة طرف الحوار الآخر نظيرا متساويا له. فحتى لو لجأت أنا شخصيا إلى استخدام الحجج في سياق التعبير عن رأي مخالف للطرف الآخر وأعربت عن عدم موافقتي على حججه وتجادلت معه وسعيت إلى إقناعه بصحة آرائي واستمعت مع ذلك إلى طروحاته الفكرية وأبديت انفعالي حيالها محاولا إثناءه عنها، فإنني رغم كل شيء أرى فيه في جميع الحالات نظيرا يتمتع بسمات الشخصية والهوية مما يجعلني أسعى إلى إقناعه بصحة حججي.

هذا يعكس ولو قدرا ما من المساواة ويتنافى بالتالي مع التوجه المبني على إنكار الصفة الإنسانية للخصم.وهنا نكون قد وصلنا إلى المبدأ الأول لحوار الثقافات.

في هذه الحالة يسعى المحاور إلى تكريس المساواة ويرفض من خلال ذلك الانطلاق وجود تصدر هرمي للحضارة التي ينتمي إليها.

بالإضافة إلى ذلك فإن الفضل يعود للحوار في تقوية حججنا من خلال معرفة حجج الطرف الآخر وفي جعل حججنا ورؤانا تتغير بناء على المعرفة التي اكتسبناها من الحجج التي طرحها الطرف الآخر. ولعل بوسعكم أن تدركوا مقصدي من وراء ذلك في السياق الثقافي، فمن خلال التعاطي مع ثقافات أخرى تتسع آفاق معرفتي كما أن التغيير الذي طرأ على معرفتي هذه يجعل رؤيتي تتغير سواء حيال الثقافة التي انتمي إليها أو حيال الثقافات الأخرى.

يمكننا أن نحلل المبدأ الثاني للحوار الثقافي على النحو التالي: لا يتطلب إجراء الحوار معرفة مسبقة للطرف الآخر، لكن العملية المبنية على استخدام الحجة تخلق في نفسي انفتاحا في المعرفة حول الطرف الآخر وتجعلني قادرة على معرفة هيكل النزاعات القائمة في هذا السياق.

إضافة إلى ذلك فإن هابرماس ينطلق في نظريته حول التصرف المبني على الحوار والاتصال من أن الحوار وعملية الجدل يؤديان في آخر المطاف إلى أرضية الاتفاق طالما انطلقت الحجج من مبادىء معينة ثابتة وهي الالتزام بروح الحقيقة والصدق. هذا يعني حتمية إيماني شخصيا بما يصدر عني من أقوال، أي أن يكون مقياس الحقيقة نافذ المفعول أيضا على أفكاري وأقوالي.

إذا تحقق الحوار تمشيا مع هذا النموذج ولدى الطرفين المشاركين في نزاع ما، فإن هذا يفرز قواسم مشتركة يعتبرها هابرماس مؤشرا بالوصول إلى اتفاق في الرؤى ويصفها هانز كونغ كمعيار أخلاقي عالمي ويعتبرها بسام طيبي ورومان هيرتسوغ مقياسا لتوجه أخلاقي عالمي. هذا وبوسع المؤسسات التي طالبت لاحقا بإنشائها أن تسهر على الالتزام بروح عمليات الجدل هذه.

أما المبدأ الثالث للحوار الثقافي فهو البحث عن معدلات القيم المعتمدة سوية أي عن القواسم المشتركة القائمة داخل الحضارات التي يهيمن العداء على العلاقة بينها.

الحوار بين الحضارات ضرورة

هذه المبادىء الثلاثة : مساواة الطرف الآخر واكتساب المعرفة والتسامح حيال الثقافة الأخرى دون الانطلاق من فكرة النسبية الثقافية في هذا السياق والبحث عن قائمة مشتركة للقيم، تشكل كلها صلب دوافع الحوار الثقافي. هذا في المنظور الفلسفي والفكري والمنطقي. على الرغم من ذلك فإن السؤال يطرح نفسه حول معنى الحوار في أزمنة الحرب.

لا ينبغي علينا أن نقلل من أهمية السلطة التي يتحلى بها الجدل سواء من الناحية الإيجابية أو السلبية. اللغة والجدل تسيطران على أفكارنا وليس بوسعنا أن نتحرر من تأثيراتهما. من هذا المنطلق تحتم علينا أن نعتبر الصراع بين الحضارات أو بين الثقافات "واقعا أفرزه الطرح الجدلي" نفسه وإن كان ذلك على وجه التحديد واقعا "آنيا" بدأ يهيمن على هياكل أنظمتنا السياسية والاجتماعية.

استخدم عالم السوسيولوجيا الفرنسي بيير بورديو في هذا السياق مصطلح "الواقع التسلطي" قاصدا من وراء ذلك واقعا يغلب على المعطيات الحقيقية. لو تمحصنا في النظر لأمكننا أن نفك طلاسم النزاعات المحتدمة لنكتشف بأنها عرضة للتسخير في مجالات الجغرافيا الاقتصادية وإزاء الهوة القائمة بين الشمال والجنوب وفيما يختص بنظريات التنمية.

لكن هذه الحقائق الحية يهيمن عليها واقع تسلطي يعمد في الوقت الراهن إلى تعريف الصراع الجاري من الزاوية الثقافية ومن زاوية الانتماء إلى مدنيات ما. معظم الناس لا يرون الحقيقة بل يخالج أذهانهم الواقع التسلطي، ولا شك أن الأمر يتطلب إلى حد ما انقضاء عقود عديدة إلى أن يستطيعوا التغلب على هذه الالتباس.

السؤال هنا هو التالي: طالما أن هناك يقينا ثابتا بوجود هيمنة على الجدل من قبل قواه السلبية فلماذا هذا التشكيك الكبير رغم ذلك في القوى الإيجابية للجدل؟ الحوار عملية تستغرق وقتا طويلا من أجل إزالة الهياكل الراسخة المختصة بتسوية النزاعات، تلك الهياكل التي اتسمت حتى الآن جوهريا بطابع الرؤى العسكرية والأمنية. أما بالنسبة لإسباغ صفة المؤسسية على الحوار فإن ذلك ينبغي أن يتحقق قبل كل شيء داخل رؤوسنا أولا.

بقلم نايكا فروتان
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2006

نايكة فروتان باحثة ألمانية ذات أصل إيراني، أستاذة علاقات دولية في جامعة غوتنغ، حصلت 2005 على جائزة رافه للأبحاث وعلى جائزة فريدريش-كريستوف-دالمان لأفضل دوكتوراة في مجال الدراسات الاجتماعية.

قنطرة

الحوار الثقافي بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر
قامت رئيسة معهد غوته السيدة يوتا ليمباخ بزيارة مصر لأول مرة حيث شاركت، في إطار زيارتها لمعرض القاهرة الدولي للكتاب الذي تعتبر ألمانيا أول ضيف شرف فيه، في العديد من ندوات الحوار الثقافي.

هل سيكون النصر للحكمة والعقل في النهاية؟
في خضم المناقشات الحامية حول الإسلام في أوربا، تسعى الكثير من الجمعيات الإسلامية إلى إظهار رغبتها في الاندماج من ناحية، ومن ناحية أخرى تريد تهدئة الغضب والشكوك المتزايدة لدى المسلمين. معادلة صعبة حسب رأي أيمن مزيك.

مؤسسة أنا ليند للحوار بين الثقافات
على أنغام الموسيقى الشعبية التقليدية لدول المتوسط والموسيقى الأوروبية الكلاسيكية افتتحت مؤسسة أنا ليند الأورو-متوسطية للحوار بين الثقافات في 20 ابريل/نيسان الجاري حيث تتخذ من مكتبة الإسكندرية والمعهد السويدي بالإسكندرية مقرا لها.