يهود طليطلة: لاجئون سوريّون في ألمانيا

ليس بجديد القول إنّ الحنين إلى "الأندلس" يعتبر جزءاً من الحنين العربي للماضي الإمبراطوري للدولة العربية

نهاية العام 2008 صفّق جمهور المسرح في دمشق طويلاً لعرض "صوتان" من إخراج الهولندي يوهان سيمونز. عرض المونودراما المسرحي قد قدّم ليومين على خشبة المسرح الدائري في المعهد العالي للفنون المسرحية، والّتي ضاقت بجمهورها، فافترشوا الأرض ملامسين فضاء أداء الممثل جيرون فيلمز، الذي أضحكهم وأمتعهم فصفقوا له طويلاً بعد نهاية العرض.

نهاية الـ 2008 كان الضحك أكثر سهولة من السنوات السورية التي ستليها. حينها كانت دمشق عاصمة للثقافة العربية، والكثير من المال كان قد استثمر لإغناء المشهد الثقافي في المدينة على مدى عام كامل. وبالفعل، كانت العاصمة السورية قد شهدت حضوراً كبيراً لمسرحيين وموسيقيين وفنانين عالميين لم تشهده في تاريخها الحديث ولا في أية مدينة سورية أخرى. يومها كان عرض المخرج الهولندي سفيراً فنياً "عالمياً" في سوريا التي ستصبح هي نفسها قضية عالمية في السنوات القليلة التالية.

أما في عامنا الحالي، وبعد قرابة العشر سنوات على تقديم عمله في دمشق، يقيم المخرج الهولندي كمبرمج للفعاليات المسرحيّة في "بيت التمثيل" أو   Schauspielhaus في مدينة بوخوم الألمانية، والتي تضم كما المدن الأخرى المجاورة لها، عدداً كبيراً من اللاجئين، وبخاصة السوريين منهم.

كجزء من إقامته في المسرح، أنجز المخرج الهولندي مؤخراً عرض "يهود طليلة" Die Juden von Tolidoالمقتبس عن رواية الكاتب الألماني ليون فويشتفغنر والتي تعود إلى إسبانيا في العصور الوسطى، وتحديداً إلى مدينة Tolido أو طليطلة بالتسمية العربية، لتتابع قصة الشخصية المثيرة للجدل يهوذا إبن إسرا، والذي كان قد غير دينه من اليهودية إلى الإسلام عند عمله عند أحد الملوك العرب في الأندلس، ثم عاد إلى اليهوديّة بعد أن غادر ليعمل كمستشار عند الملك القشتالي ألفونسو الثامن.

خلال إقامته عند الملك ألفونسو تنشأ علاقة غرامية بين هذا الأخير، وابنة المستشار اليهودي، علاقة لا تسرّ حاشية الملك الكاثوليكية المتعصبة، ولا عموم السكان الحانقين على الملك المتفرغ لعلاقته "الآثمة" بينما جنود المملكة، والممالك الأوروبية الأخرى، يزحفون في مهمة مقدسة نحو "القدس" ضمن إطار الحروب الصليبية.

ضمن هذا الوضع المضطرب، تنشأ مساومات كثيرة بين الملك ومستشاره اليهودي، وفي أحدها يطلب ابن إسرا من الملك إيواء ستة آلاف يهودي لاجئ من فرنسا بسبب اضطهاد الملك الفرنسي لهم، وطردهم بشكل تدريجي من المدن الفرنسية واحدة تلو الأخرى، الإقتراح الذي يفتح أبواب جهنم على الملك القشتالي الواقع بين فكّي إغواء عشيقته اليهوديّة من جهة، وحنكة والدها ودهائه من جهة ثانية.

حين تسمع حاشية الملك المتعصبة بقراره استقبال اللاجئين اليهود في طليطلة، تردّد شخصيات الممثلين في العرض خطاباً تسهل فوراً مطابقته مع الخطابات اليمينية المعادية للاجئين في أوروبا، أو حتّى في الولايات المتحدة "إنهم ليسوا مثلنا، لا يتكلمون لغتنا، ويدينون بغير ديننا، سيملؤون شوارعنا بهيئاتهم المتسخة والغريبة"، في حين يناقش مناصرو وجودهم بأنهم سيجلبون معهم خبراتهم العلمية والمهنية المختلفة، وأنهم سيعيدون الحياة إلى اقتصاد المملكة المتعّثر، في مماهاة مثيرة للاهتمام من صنّاع العمل بين اللاجئين اليهود في إسبانيا العصور الوسطى، ولاجئي ألمانيا بغالبيتهم المسلمة في أعوامنا الحالية.

نجد استخدامات متواترة للأندلس كمساحة للإسقاطات السياسية

الفردوس المفقود، أرض الإسقاطات

بالعودة إلى السياق الثقافي العربي، نجد استخدامات متواترة للأندلس كمساحة للإسقاطات السياسية، أي عبر تمرير رسائل سياسية واجتماعية عمّا قد يتعذر قوله بشكل مباشر لأسباب رقابية، أو ربما لأسباب جمالية ترى في الاستعارة التاريخية أداة جمالية أرقى من التعبير السياسي المباشر.

في الحالة الأولى، وهي الغالبة، أي الالتفاف السياسي عبر استخدام الأندلس، تشكل "ثلاثية الأندلس" التلفزيوينّة، من تأليف الكاتب الفلسطيني يوسف سيف وإخراج السوري حاتم علي أبرز الأمثلة الفنية العربية المعاصرة، وربما أوسعها انتشاراً وتأثيراً، على الاستخدام السياسي للأندلس.

في المسلسلات الثلاثة الممتدة على تسعين ساعة تلفزيونية، يسهل الربط مباشرة بين الواقع المأساوي الذي وصلته الدول العربية المختلفة في الأندلس عقب مئات السنوات من الازدهار من جهة، وبين الواقع المتردي للدول العربية في العقد الأول من سنين الألفية. "إن الطغاة كانوا دائماً سبب الغزاة"، كانت الجملة الوحيدة التي تتردد في شارةمسلسل "ملوك الطوائف" الجزء الأخير المنجز من الثلاثية، والذي أنجز في العام 2005، أي بعد عامين فقط من غزو العراق، في إشارة واضحة إلى الديكتاتوريات العربية، وعلى وجه الخصوص صدّام حسين في حينها.

على الضفة المقابلة، عرضت قناة الجزيرة الوثائقية مؤخراً سلسلة من ثلاث أفلام وثائقيّة إسبانيّة، أيضاً بعنوان "ثلاثيّة الأندلس-حكاية الشاطئين" تعرض مجموعة من اللقاءات مع أكاديميّين وأدباء إسبان مهتميّن بمراجعة التاريخ الإسباني على قاعدة إعادة الاعتبار للمكوّن العربي المسلم واليهودي فيه، والذي جرى نسفه (بحسب الفيلم) أثناء كتابة الرواية الإسبانية الرسمية للتاريخ الإسباني الحديث.

وبغض النظر عن صوابيّة وجهة النظر التي تتخّذ من الأندلس مطيّة للمقولات السياسية المختلفة، سواءً في المنطقة العربيّة، أو حتّى الأوروبيّة، فإنّ هذا الاهتمام بحدّ ذاته، يطرح سؤالاً حول الأسباب المحرّضة لهذا الطرح. أي استلهام فترة تواجد العرب في شبه الجزيرة الإيبيريّة، كسياق زماني ومكاني، دوناً عن غيرها من الفترات التاريخّة المختلفة.

من الضفة العربيّة، أي من ضفّة المهزومين في معركة السيطرة على شبه الجزيرة الإيبيريّة، يبدو الجواب على سؤال تكرار استخدام الأندلس كمساحة للإسقاط الفني أكثر سهولة، فليس بجديد القول إنّ الحنين إلى "الأندلس" يعتبر جزءاً من الحنين العربي للماضي الإمبراطوري للدولة العربية الممتدّة من شرق آسيا إلى غرب أفريقيا، وهو نوع من الحنين لم تنج منه كثير من الأعمال الأدبيّة العربيّة.

أمّا من الضفة الأوروبيّة، وهي في حالتنا عرض "يهود طليطلة" فيبدو "الاستخدام الأندلسي" فيها مرتبطاً بالاتّكاء على اللحظة الأندلسيّة بما ضمّته من قوميّات وديانات مختلفة في مساحة جغرافيّة واحدة -وإنه في جو مستقطب ومحتقن جدّاً- لتمرير رسائل سياسيّة مرتبطة بالحاضر، الحاضر الذي يبدو اليوم مشابهاً لمشهد الأندلس القديمة، من جهة تماثل حالة اللاجئين اليهود الهاربين من مملكة مسيحيّة إلى أخرى في ذلك الوقت، واللاجئين من دول الجنوب بإثنياتهم المختلفة، نحو دول الشمال التي ليس كل أهلها متفقين على استقبالهم.

لكن، وعلى اختلاف دوافع "الاستخدام الأندلسي" يبدو أنّه نوع من الضرورة عند الحديث عن التنوّع في لحظتنا المعاصرة، أي لحظة الدول القوميّة الحديثة، والّتي تبدو أكثر "انسجاماً" وأقلّ تنوّعاً من الإمبراطوريات القديمة مترامية الأطراف، ولكن في الوقت ذاته، لا تبدو هذه الدول بريئة تماماً من الطابع العنفي للإمبراطوريات القديمة، وفي حالة  اللاجئين السوريين الذين باتوا موضوعاً مسرحيّاً في عرض "يهود طليطلة" مثال كاشف على الطابع العنفي للدولة الحديثة، على الأقل في نسختها السوريّة المتوحّشة.