تونس الجديدة.....بين المحاكمة والمصالحة

في منتصف أكتوبر / تشرين الأول المقبل سينتخب التونسيون مجلساً تأسيسياً ستكون مهمته وضع البلاد على بداية الطريق الديمقراطي. وفي هذه الأيام بدأ التونسيون بحذر عملية مواجهة الماضي والتعلم من دروس الحقبة الديكتاتورية التي حكم فيها بن علي تونس لمدة ثلاثة وعشرين عاماً. سارة ميريش تجولت في أنحاء تونس وسجلت انطباعاتها في التقرير التالي:

الكاتب، الكاتبة : Sarah Mersch



"كل يوم يجيء إلي أشخاص فقدوا أفراداً من عائلتهم أو عائلهم الوحيد. كثيرون يعرفون الجناة، ولذلك يأتون إلينا بصور المتهمين، وأحياناً بأرقام تليفوناتهم المحمولة." هيلا عمّار عضو في لجنة لكشف الجرائم التي وقعت في تونس منذ يوم السابع عشر من ديسمبر / كانون الأول 2010، أي منذ اليوم الذي حرق فيه محمد البوعزيزي نفسه. تجلس الصحفية في هذا المساء في مقهى بورجوازي يحمل اسم Café Citoyen، وهو مقهى قامت منظمة تونسية غير حكومية بتنظيم اللقاء فيه. هناك تتناقش الصحفية مع زملائها ونحو خمسين من الضيوف حول المؤسسة القضائية في الفترة الانتقالية في تونس.

انتقال ديمقراطي بطيء

عديد من الحاضرين يشعرون بالإحباط لأن التحول الديمقراطي يسير في رأيهم على نحو بطيء للغاية، إذ لم تُرفع حتى الآن قضية واحدة ضد أي من الجناة المحتملين. لجنة تقصي الحقائق – التي كونتها الدولة والتي تتمتع بالاستقلالية رغم ذلك - لا تستطيع سوى تسجيل الاعتداءات التي تحدث للمواطنين. أما التوجه إلى القضاء فليست مهام اللجنة، بل على الضحايا أنفسهم أن يفعلوا ذلك.

هيلا عمّار عضو في لجنة لكشف الجرائم التي وقعت في تونس منذ يوم السابع عشر من ديسمبر / كانون الأول، الصورة سارة ميريش
"التحول الديمقراطي في تونس يسير على نحو بطيء للغاية"

​​بعد ساعتين من النقاش الموضوعي تنفجر هيلا عمّار صارخةً": بالطبع نفحص ما إذا كان قد صدر مذكرة توقيف بالفعل. ولكن من ينفذ ذلك؟ الشرطة!" هذا ما تقوله الحقوقية يائسةً، قبل أن تضيف: "إنكم تعرفون الأوضاع في جهاز الشرطة. ينبغي في البداية تطهيره من أعضاء النظام القديم." مريرٌ هو الإحباط الذي يشعر به في هذا المساء أولئك الذين يريدون إجراء تحول ديمقراطي في مؤسسات الدولة، ومريرٌ أيضاً هو الإحباط الذي يشعر به المواطنون. لبرهة قصيرة يخيّم الصمت التام على الجالسين في المقهى.

لن ينجو أعضاء النظام القديم من العقاب: هذا ما يؤكده حاتم الحطّاب الذي يعمل مديراً للدائرة الثقافية في الأرشيف القومي، وهو يجلس في مكتبه في مركز مدينة تونس، ويرسل النظر عبر اللوح الزجاجي إلى صالة الأرشيف. إنه يأمل في أن يتمكن التونسيون سريعاً من دراسة وثائق ومستندات حقبة بن علي. وتقوم مجموعة عمل في الوقت الراهن بإعداد اقتراح لتغيير قانون التوثيق لإتاحة الفرصة أمام المواطنين للإطلاع على الوثائق والمستندات التي خلفها بن علي ومستشاروه الذين أسسوا – على حد قول حطاب – دولة مافيوية داخل الدولة.

نظام بن علي الجهنمي

"كان كل شيء مزدوجاً في هذه الدولة، أي أن الدولة كانت موجودة مرتين. كل ما كان يحدث في الوزارات والإدارات الحكومية أو في أقسام الشرطة كانت تصل تقارير عنه إلى قصر بن علي." ويرى حطاب أن تدمير مراكز الشرطة والإدارات الحكومية في الرابع عشر من يناير / كانون الثاني وإشعال النيران في الوثائق الموجودة هناك لم يكن في نهاية المطاف سوى فعل رمزي، إذ أن القصر الرئاسي يضم نسخاً من كافة الوثائق المهمة التي - بفضل الهروب المتعجل للرئيس السابق - لم يمسها أحد؛ ومن بين تلك الوثائق تقارير لا تحصى من أجهزة الاستخبارات والشرطة السياسية – تلك الأجهزة التي استطاعت خلال ثلاثة وعشرين عاماً من إحكام قبضتها التامة على الحياة المدنية في تونس حتى كادت أن تختنق.

بن علي، الصورة د ب ا
"كان كل شيء مزدوجاً في هذه الدولة، أي أن الدولة كانت موجودة مرتين. كل ما كان يحدث في الوزارات والإدارات الحكومية أو في أقسام الشرطة كانت تصل تقارير عنه إلى قصر بن علي."

​​بابتسامة سعيدة يقول حطّاب: "لقد تفوق نظام بن علي على نفسه في جنون الرقابة، والآن فإن الوثائق التي جمعها سوف تدينه." تقارير أجهزة الاستخبارات والصراع حول موعد الانتخابات الجديدة وإصلاح النظام القضائي – كل هذه القضايا تمثل تحديات كبيرة بالنسبة لفترة انتقال ديمقراطي ناجح. ويتطلع التونسيون صوب ألمانيا بحثاً عن أفضل الوسائل لتحقيق ذلك.

عبر آلة الزمن

"أشعر بنفسي وكأنني دخلت آلة الزمن"، يقول هوبرتوس كنابه، رئيس مركز هوهنشونهاوزن التذكاري لاستخبارات أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقاً (شتازي). يزور كنابه حالياً تونس لكي يتناقش مع لجان الإصلاح التونسية حول الاستراتيجيات الممكنة لمواجهة الماضي والتعلم من دروسه. ويرى رئيس المركز التذكاري في هوهنشونهاوزن أن تونس بتمر بعملية مشابهة لما مرت به ألمانيا بعد سقوط سور برلين عام 1989. ربما يكون الفارق الحاسم هو أن الشطر الشرقي من ألمانيا استطاع أن يستعين بموظفين وقضاة من الغرب. أما كبار الموظفين في جهاز الدولة التونسي فيمكن اعتبارهم – في أفضل الأحوال – من السابحين الصامتين مع التيار. القضاة المستقلون في تونس يمكن إحصاؤهم على أصابع يد واحدة، لأن كل من كان يعارض بن علي كان يُقصى عن منصبه القضائي. وهكذا فإن الجميع في انتظار جيل جديد من القضاة.

"

هوبرتوس كنابه، رئيس مركز هوهنشونهاوزن التذكاري لاستخبارات أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقاً (شتازي).
"أشعر بنفسي وكأنني دخلت آلة الزمن"

​​مقارنةً بألمانيا الشرقية فإن الموقف في تونس أكثر تعقيداً، فالمرء لا يستطيع أن يستبدل المواطنين ويأتي بآخرين. أقصى ما يمكن عمله هو أن يحاول المرء، وبأقصى سرعة، تعيين شبان في الوظائف القيادية"، يقول كنابه. لا يرى كنابه نفسه كمُصدّر للديمقراطية. هناك حالات عديدة مشابهة في كافة أنحاء العالم، وعلى كل بلد أن يجد الطريق المناسب له. "كل ما يمكننا أن نفعله هو أن نتحدث عما أنجزناه، عما أتي بنجاح كبير أو صغير، وعن الأخطاء التي ارتكبناها."

خلال زيارته يمتدح كنابه حل الحزب الحاكم في تونس بسرعة بعد سقوط النظام، ولكن ما يثير القلق لديه هو أن عديداً من مؤسسات الدولة تعمل وكأن شيئاً لم يحدث.ما زالت منظمات حقوق الإنسان تتحدث في تقاريرها عن حالات تعذيب، كما أن الشرطة - الخاضعة في الأساس لوزارة الداخلية – تتصرف أحياناً على نحو مستقل دون أن تتبع توجيهات الوزارة. إن الرأي العام لا يعرف ماذا يدور في أقبية الوزارات، تماماً مثلما كان الوضع في عهد بن علي. كان كنابه يود أن يتهمل في التفرج على النصب التذكاري الضخم المشيد من الأسمنت في الطريق الرئيسي في تونس، وهو نصب يعتبره المواطنون رمزاً للقمع. ولكن مرافقيه قالوا له بسرعة إن هذا أمر غير ممكن للأسف.

بين الهدم وإعادة البناء

"إننا في منتصف الطريق، ما بين الهدم وإعادة البناء، إننا ما زلنا في منتصف الثورة. ولذلك من الطبيعي ألا يسير كل شيء بدون عوائق"، يقول عبد الفتاح عمور محاولاً تفسير ما يحدث. ما يقلق مدير لجنة الكشف عن الفساد والاختلاس هو أن أتباع الرئيس الهارب يحاولون استغلال الفراغ الذي حدث في السلطة. "يجب علينا أن نكون على أقصى درجات اليقظة، ولا يمكننا بحجة تحقيق الأمن أن نتراجع من منتصف الطريق."لم يكد عمور، وهو أيضاً حقوقي، أن يصدق عينيه عندما قام المحققون بتفتيش القصر الرئاسي، وعثروا ليس فقط على عدد ضخم من الوثائق، بل أيضاً على خزائن عديدة تبدو كأرفف كتب، كما عثروا على مبالغ كبيرة بعملات مختلفة – من بينها باليورو فحسب نحو 21 مليون. هذا عدا الدينارات التونسية، الموزعة باعتناء بالغ على أظرف، تضم مثلاً 50 ديناراً أو 1000 دينار، وذلك وفقاً للخدمات المُقدمة.

"

ليلى الطرابلسي، عقيلة بن علي، الصورة د ب ا
"إن الوثائق الموجودة في المكاتب هي التي ستحكم بالسجن على أعضاء النظام القديم"

​​لن يمكننا أبداً الكشف عن كافة الحالات، فليس لدينا عدد كاف من الموظفين، ولا الموارد الكافية لإنجاز ذلك. إن عملنا هو في المقام الأول عمل رمزي. نريد الكشف عن الحالات التي شارك فيها أفراد من النظام القديم الذين يحاولون الآن بكل ما لديهم من قوة أن يثبتوا نقاءهم وطهرهم."يشعر هوبرتوس كنابه بالسعادة عندما يسمع ذلك، ولا يكل عن التأكيد لكل من يقابله أن على التونسيين ألا ينتكسوا ويمجدوا الماضي أو يشعروا بالحنين إلى الديكتاتورية. "عندما يعيش المرء في حرية فإنه يتعود عليها بسرعة، ويعتبرها شيئاً بديهياً. ولكن على الإنسان أن يفكر دائماً في فظائع الماضي، في أقبية التعذيب في وزارة الداخلية – عندئذ يدرك المرء لماذا كافح من أجل الحصول على هذه الحرية، ولماذا يتوجب عليه أن يواصل الكفاح."

حاتم الحطاب هو أحد القلائل في تونس الذين لم يفقدوا بعد الحماسة للثورة. بفخر يعرض الحطاب فيلم فيديو على هاتفه المحمول، وفيه يرى المرء الحطاب وزملاءه وهم يمزقون ملصقاً ضخماً للرئيس في يوم الرابع عشر من يناير / كانون الثاني."إن الوثائق الموجودة في المكاتب هي التي ستحكم بالسجن على أعضاء النظام القديم." وعلى كل حال فإن الأرشيف القومي به مكان يتسع لكل هذه الملفات. "ما زال لدينا في الأرشيف أكثر من عشرة كيلومترات شاغرة من الأرفف"، يؤكد حاتم الحطاب مبتسماً.

 

سارة ميرش
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011