"كنت أتخيل باريس كامرأة جميلة"

في حوار خص به موقع قنطرة يتحدث الكاتب والصحفي المغربي والمسئول عن البرنامج الثقافي لمعهد العالم العربي في باريس معطي قبال، عن جهود المعهد في مد جسور التواصل الثقافي بين العالم العربي والغرب وكذلك عن أزمة الهوية الثقافية للمهاجرين العرب في فرنسا وعن تجربته الذاتية مع باريس والكتابة. ابتسام عازم حاورته من باريس حول هذه الجوانب وغيرها.

معطي قبال، الصورة: دويتشه فيله
"هناك شبكة من العلاقات الشخصية والمهنية أحاول أن أوظفها لخدمة الثقافة العربية"

​​ تشهد فرنسا جدلا حادا أثاره قبل فترة وجيزة وزير الهجرة الفرنسي إريك بيسون عندما أطلق مبادرة تفتح نقاشا واسع النطاق حول " الهوية الوطنية الفرنسية". كيف تنظر إلى مثل هذا الطرح؟

معطي قبال: هذا موضوع يثار من قبل وزير فرنسي هو نفسه من أصول أجنبية؛ فأمه فرنسية وأبوه لبناني وولد في المغرب وجاء إلى فرنسا عندما كان في السابعة عشرة من عمره. كان اشتراكيا ومن ثم أصبح "ساركوزيا" ويأتي اليوم ليخلق بلبلة في البلاد واختلاق شيء خيالي لا يعتمد على واقع قوي.

ولو افترضنا أن عندنا شخص ينحدر من أصول مغربية هاجر إلى فرنسا ويحفظ النشيد الوطني الفرنسي عن ظهر قلب ويعرف تاريخ فرنسا وفنها الخ، هل هذا يعني أنه أصبح فرنسيا؟ هل يقوم الشارع الفرنسي بالتعامل معه كفرنسي إذا كان اسمه محمد أو أحمد أو أي اسم من الأسماء ذات الأصول العربية؟ الشارع سوف يحدد هوية هذا الشخص حسب اسمه! على الفرنسيين الاعتراف للأشخاص من أصول أجنبية بهويتهم وإعطائهم فرص عمل واندماج داخل اختلافهم كأشخاص ينتمون إلى هويات متعددة. هنا فقط من الممكن الحديث عن كون الشخص فرنسي وإلا فهو فرنسي بالأوراق فقط.

وزير الهجرة الفرنسي إريك بيسون ، الصورة دويتشه فيله
"على الفرنسيين الاعتراف للأشخاص من أصول أجنبية بهويتهم وإعطائهم فرص عمل واندماج"

​​ أنت كصحفي وكاتب باللغتين العربية والفرنسية كيف تتابع الجدل حول الاندماج والهوية في فرنسا وماذا تعني لك الكتابة باللغتين؟

قبال: لا يوجد عندي إشكال في الكتابة بالفرنسية أو العربية ولكن أشعر بسهولة أكبر عند الكتابة بالعربية وخاصة التي تتخللها العامية، حيث أشعر أنني أستطيع تركيب مناخ مهني بشكل أسرع. كما أنني أتفاجأ بردود فعل القارئ الفرنسي الذي لم يفهم الكلمات المغربية في نصوصي ولكنه تجاوب معها بشكل إيجابي. أما فيما يتعلق بإشكال الهوية فهو إشكال سهل ممتنع؛ بمعنى أن هناك صعوبة من ناحية ولكن من ناحية أخرى فهو أمر سهل من منطلق أن الهوية لأي شخص كان، مركبة من عدة هويات ومتعددة في التربية والتكوين والانتماء.

الواقع الفرنسي والباريسي يتجلى فيه حضور قوي للجالية العربية عامة والمغاربية خاصة. ما الذي تحاول القيام به من خلال عملك كمسؤول عن البرنامج الثقافي في معهد العالم العربي من أجل مد جسور بين الهويات المختلفة داخل المشهد الثقافي الفرنسي؟

قبال: الحضور القوي للجالية العربية عامة والمغربية خاصة يتجلى ويتجسد ثقافيا في الكتابات الأدبية الروائية لدى الذكور والإناث، خصوصا لدى جيل جديد من الشباب ولد في فرنسا وتربى تربية عربية، ولكن وفي كتاباته لا يوجد عنده علاقة مع البلد الذي ينحدر منه الأهل. إنه شباب يكتب عن حياة الضواحي، عن حياة التمزق والمأزق في العمل وعن العنصرية وعن الهوية المزدوجة. أما الكتابة فهي بلغة خليط من العربية والفرنسية. هذا الجيل له حضور واضح في المشهد الثقافي الفرنسي، إذ نجد في كتلوجات دور النشر الفرنسية دائما أسماء لأشخاص من أصول مهاجرة. في لقاءات المعهد نحاول إعطاء هذا الجيل الفرصة للتعبير عن ذاته.

فرنسيات من أصول عربيية مهاجرة، الصورة: ا.ب
تعيش الجالية العربية المهاجرة وخاصة من أصول مغربية أوضاعا اقتصادية صعبة في الغالب في فرنسا

​​ أود التنويه بأن هذه الحالة التي يعيشها الجيلان الثاني والثالث من أبناء المهاجرين في فرنسا، تتشابه مع حالات أخرى في أوروبا وعلى سبيل المثال هولندا، ونجد أن أبرز الكتاب الشباب فيها هم من أصول مغربية يكتبون بالهولندية يتحدثون عن أوضاع مغربية ولكن لا يعرفون هذا البلد ويقولون إن هويتنا هي لغة الكتابة. دون شك أن هذه بالنهاية تجارب فردية وعامة يعيشها كل فرد وجيل بحسب ظروفه الخاصة الاقتصادية والسياسية.

ما الذي يختلف في كتابات وأعمال هذا الجيل الفنية والفكرية مقارنة بالجيل الأول من المهاجرين من العالم العربي؟

قبال: هناك طبعا اختلاف كبير بين الجيل الأول من المهاجرين العرب المثقفين الذين جاؤوا إلى فرنسا وبين الأجيال التي ولدت في هذا البلد. نسبة كبيرة من المهاجرين المثقفين كانت من المعارضين السياسيين، اللذين عاشوا وضعيات تضيق على حرية التعبير وفي بعض الحالات تعرضوا إلى الملاحقة في بلادهم، وبالتالي كانت أغلبية كتاباتهم نقدية للأنظمة والمجتمعات التي تضطهدهم.

ووجد هذا الجيل قابلية في فرنسا لتلقي هذا النوع من الكتابات ولكنه جيل كان يكتب بالفرنسية عن الوطن الأم ويفكر في العودة إلى البلد الأم شريطة أن تتغير الأوضاع السياسية فيه. وفي الوقت الذي انخرط هذا الجيل في نسيج المجتمع الثقافي الفرنسي، حيث كان يكتب بلغة فرنسية سليمة مثلا ، بقي وعلى الرغم من ذلك يعيش حالة من التمزق ويفكر بالعودة إلى بلده الأم في حال تغيرات الأوضاع السياسية هناك والتي لم تتغير في الغالب. أضف إلى ذلك أن هذا الجيل كان ينتقد أصوله بشكل قوي وعلى سبيل المثال الكاتب المغربي إدريس الشرايبي في روايته " الحضارة أمي" والتي ينتقد فيها أصوله المغربية

المعهد العالم العربي في باريس
يشكل المعهد جسرا ثقافيا رابطا بين الشرق والغرب من خلال الفعاليات والمبادرات الثقافية المختلفة التي يطلقها

​​ كيف ترى مساهمتك الشخصية ككاتب وصحفي في وضع البرنامج الثقافي للمعهد؟

قبال: من ضمن ما تتمثل فيه مساهمتي هو جلب أسماء فكرية وأدبية وثقافية، لأشخاص كانت لي بهم علاقة شخصية قبل أن ابدأ بالعمل في المعهد كجاك دريدا وتعرفت عليهم وكتبت عن نتاجهم الشخصي والكثيرين غيرهم كالكاتب الفرنسي جان-ماري لو كلزيو والحاصل على جائزة نوبل للأدب. بكلمات أخرى هناك شبكة من العلاقات الشخصية والمهنية أحاول أن أوظفها لخدمة الثقافة العربية على مستوى خلق الجسور مع مفكرين يمكن أن نعتبرهم بأنهم ينتمون إلى ما يسمى بفكر الاختلاف واللذين ينظرون إلى ثقافتنا نظرة ترحاب ويريدون أن يقيموا علاقة حوار وتكافؤ مع الثقافة العربية.

وصفت في حديثنا أول لقاء لك بباريس بأنه لقاء مخيب للأمل، لماذا؟

قبال: أول زيارة كانت لفرنسا قمت بها قبل مجيئي إلى هنا للحصول على شهادة الدكتوراه، لقد كانت هذه زيارة بعد إنهاء البكلوريا ووصولي إلى باريس كان فيه صدمة. كنت أتخيل باريس كامرأة جميلة وعندما وصلت إلى محطة القطار، صدمني الواقع حيث درجات الحرارة الباردة والرطوبة والضباب ومحطة قطار متسخة فيها صعاليك يشربون نبيذا سيئا وتساءلت أين هي فرنسا؟ فرنسا التي استقبلتني كانت ذات وجه بشع ولكن عليك أن تحط الرحال وتكتشف المدينة بأسرارها وجمالها وتفردها

جئت إلي فرنسا قبل أكثر من عشرين عاما بغية تكملة الدراسات العليا في الفلسفة وقررت البقاء هنا، وتصف بداياتك الباريسية بأنها صعبة، حيث لم تزر المغرب في الفترة الأولى وفي فرنسا اضطررت بداية للعمل في وظائف بسيطة بغية كسب لقمة العيش، لماذا أثرت البقاء في باريس على العودة؟

قبال: غادرت المغرب إبان فترة سنوات الرصاص التي كان الخوف يكبلنا فيها وكلما كنت أغادر البلاد كنت أعتقد أنهم سوف يحتجزون جواز سفري عند العودة ولن يسمح لي بالمغادرة. كان هذا الكابوس يسيطر علي حتى وإن لم يكن له مبرر حقيقي. المنفى الباريسي كان على حساب عائلتي وصداقاتي. في المقابل عشت وضع مهاجر يعاني من الظروف المادية الصعبة ودخلت في مغامرة الكتابة الصحفية والترجمة ولكن الوضع المادي الرديء عوضته بشبكة من الأصدقاء والمعارف والعلاقات الإنسانية ولقاءات في ميدان المعرفة والأدب وتبقى باريس وفرنسا مرجعا ذهنيا في مشواري وساعدتني على فهم معنى التخالط الفكري والإثني التصاهر بين القوميات عبر الثقافة والموسيقا والمطبخ والكثير من الأمور الأخرى، وهذا أمر توفره باريس في كل شوارعها وأزقتها بالرغم من الوضع السياسي المتشنج والرديء.

أجرت الحوار: ابتسام عازم
حقوق الطبع: قنطرة 2009

قنطرة

معهد العالم العربي في باريس:
مشاكل مالية وإدارية وغياب استرتيجية ثقافية
يحتفل معهد العالم العربي في باريس بمرور 20 عاما على تأسيسه لكنه لم يبلغ رغم ذلك "سن الرشد" بعد، فهو يعاني من مشاكل مالية وإدارية كبيرة. مقال بقلم مارك تسيتسمان.

معرض "مدينة البندقية والشرق" بمعهد العالم العربي بباريس:
تمازج وانصهار بين الغرب والشرق
يتقفى المعرض الذي ينظمه حاليا معهد العالم العربي بباريس آثار العلاقات التي كانت تربط بين مدينة البندقية وبلاد المشرق. سوزان جواد تكتب هنا عن زيارتها لهذا المعرض.

حوار مع أندريه أزولاي:
"حوار الثقافات محرك التعاون بين ضفتي المتوسط"
يري أندريه أزولاي، رئيس مؤسسة "أنا ليند " الأوروبية المتوسطية لحوار الثقافات، أن قمة باريس التأسيسية لـ"الإتحاد من أجل المتوسط" وضعت في صدارة أجندة الاتحاد الاهتمام بالحوار بين الثقافات باعتباره محركا أساسيا لعلاقات شعوب ضفتي المتوسط. منصف السليمي حاور مستشار ملك المغرب حول الآمال المعقودة على الشراكة الأوروبية المتوسطية وماهية الشراكة الحقيقة بين أوروبا والعالم العربي.