استراتيجية لزعزعة الاستقرار

تشير الاشتباكات والمعارك العنيفة التي تدور في مخيَّم نهر البارد إلى الجذور التاريخية للنزاع مع المنظَّمات الفلسطينية في لبنان. تقرير أعدَّه بيرنهارد هيلِّنكامب من بيروت

عناصر من الجيش اللبناني يحاولون السيطرة على الوضع في مخيم نهر البارد، الصورة: أ ب
عناصر من الجيش اللبناني يحاولون السيطرة على الوضع في مخيم نهر البارد

​​.

إنَّ العودة إلى المخيَّم وإعادة بناء البيوت التي دمِّرت أصبحتا في حكم اليقين، كما ذُكر مؤخَّرًا بشكل مقتضب في فاصل إخباري في التلفزيون والإذاعة اللبنانيَّين، بينما كانت المعارك مستمرَّة بين الجيش اللبناني وجماعة "فتح الإسلام" في مخيَّم نهر البارد، ثاني أكبر مخيَّم للاجئين الفلسطينيِّين في شمال لبنان.

غير أنَّ مثل هذه النداءات الموجَّهة من أجل ضبط وتهدئة الوضع - كما في هذه الحال من خلال "لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني"، لا تستطيع التضليل على العلاقات المتعسِّرة دائمًا ما بين الفلسطينيِّين واللبنانيِّين في بلاد الأرز.

نظرة على أحداث الماضي

نتذكَّر أنَّ حوالي مائة وعشرين ألف فلسطينيّ قد هربوا نحو الشمال مع إعلان دولة إسرائيل، أي أنَّهم لجأوا إلى لبنان. أمَّا معظم اللاَّجئين - نصف مليون لاجئ - فقد ذهبوا إلى الأردن. بدأ يتمّ بعد عملية تشريد ولجوء الفلسطينيِّين - التي يُطلق عليها العرب اسم النكبة - تنظيم النضال السياسي والمسلَّح لتحرير فلسطين انطلاقًا من المملكة الأردنية الهاشمية.

لكن في آخر المطاف قام الجيش الأردني بطرد منظَّمة التحرير الفلسطينية إبَّان الأحداث التي تعرف باسم أيلول الأسود في العام 1970. استطاعت منظَّمة التحرير الفلسطينية التي انتقلت بعد ذلك إلى لبنان أن تطوِّر نفسها، لتصبح عنصرًا سياسيًا داخليًا هامًا في دولة الأرز وذلك بفضل الدعم الذي تلقته من الدول العربية. كذلك استطاعت منظَّمة التحرير الفلسطينية ترسيخ وجودها من وجهة نظر اقتصادية.

لقد وجدت منظَّمة التحرير الفلسطينية مدخلاً إلى سياسة لبنان قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرَّت من العام 1975 حتَّى عام 1990. كانت "الحركة القومية اللبنانية" تسعى إلى إلغاء النظام السياسي الطائفي في لبنان. وفي ذلك كانت منظَّمة التحرير الفلسطينية حليفتها في تلك المناوشات والجدالات اللبنانية الداخلية. كان الهدف هو انهاء سيطرة المسيحيِّين الموارنة على الحكم في البلاد.

تدخُّلات من قبل دمشق

بيد أنَّ سوريا المجاورة للبنان تدخَّلت أثناء الحرب الأهلية لكي تحول دون هزيمة المسيحيِّين على يدّ "الحركة القومية اللبنانية". إذ أنَّ القيادة السورية كانت تخشى من النتائج الإقليمية لمثل هذا التغيير الجذري في السياسة الداخلية.

غير أنَّ الانحياز السوري إلى جانب المسيحيِّين اليمينيِّين القوميِّين لم يدم زمنًا طويلاً. كانت القوَّات السورية تنقلب أثناء الحرب الأهلية أيضًا ضدّ المسيحيِّين اليمينيِّين القوميِّين.

بيد أنَّ الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 شكَّل أخيرًا نقطة التحوّل بالنسبة للعلاقة اللبنانية-الفلسطينية. فقد كان من المفترض أن يلي ذلك تحطيم منظَّمة التحرير الفلسطينية ومؤسَّساتها.

حتَّى أنَّ حركة "أمل الشيعية" كانت تخوض في الفترة من عام 1985 إلى عام 1987 حربًا بالنيابة عن سوريا ضدّ منظَّمة التحرير الفلسطينية. وكانت سوريا تدعم من جانبها منظَّمةً انشقَّت عن منظَّمة التحرير الفلسطينية؛ تكوَّنت هذه المنظَّمة في الثمانينيَّات بزعامة "أبو موسى" الذي عارض نهج ياسر عرفات في حركة فتح.

تجري أحداث الأزمة الراهنة على خلفية أحداث الماضي. إنَّ الفلسطينيِّين المسَّجَّلين في لبنان الذين يبلغ عددهم طبقًا لمعلومات الأونروا 391.000 لاجئ - لم يخسروا من خلال تهميش دور منظَّمة التحرير الفلسطينية فقط تمثيلهم السياسي وأصبحوا متضرِّرين من تمييز اقتصادي، بل زدّ على ذلك أنَّهم يعانون أيضًا من وضعهم الحالي.

هناك قانون على سبيل المثال يمنعهم من الحصول على أوراق ثبوتية تثبت ملكيَّتهم لبيوتهم ومنازلهم. كذلك لا يجوز للفلسطينيِّين الذين يعيش بعضهم في لبنان منذ ثلاثة أجيال مزاولة أكثر من عشرين مهنة - ولا حتَّى بواسطة تصريح عمل باهظ الثمن.

"ما يمنحني إيَّاه فؤاد السنيورة يأخذه منِّي إميل لحّود!"

لم تكن توجد لدى لبنان حتَّى فترة لم تمضي عليها أعوام قليلة سياسة رسمية من أجل وضع حلٍّ لهذه المشاكل. كذلك لم تكن توجد بعثة ديبلوماسية للسلطات الفلسطينية في بيروت على عكس ما هي الحال في معظم العواصم العربية. لم تسمح لبنان لمنظَّمة التحرير الفلسطينية بافتتاح مكتب لممثِّليَّتها إلاَّ في العام الماضي 2006.

فشلت مبادرة رئيس الوزراء السنيّ فؤاد السنيورة من أجل منح ممثِّلية منظَّمة التحرير الفلسطينية وضع السفارة، من خلال الاعتراض الذي قدَّمه الرئيس الموالي لسوريا إميل لحّود. عبَّر ممثِّل منظَّمة التحرير الفلسطنية في لبنان عباس زكي عن هذه الأوضاع السيِّئة بهذه الكلمات: "ما يمنحني إيَّاه فؤاد السنيورة يأخذه منِّي إميل لحّود!"

لا تزال الأوضاع السياسية في لبنان مهدَّدة بالانفجار أيضًا بعد انسحاب القوَّات السورية من لبنان. حتَّى أنَّ الكثير من المحلِّلين يعتقدون أنَّ سوريا تحاول، من خلال استخدامها الفلسطينيِّين وقبل كلِّ شيء القوى المتطرِّفة مثل "فتح الانتفاضة" والجماعة التي تحيط بأحمد جبريل وجماعة "فتح الإسلام"، التأثير في توازن القوى الداخلي في لبنان.

قضية مخيَّم نهر البارد

كانت تسود في مخيَّم نهر البارد حالة من الهدوء النسبي حتَّى انسحاب القوَّات السورية من لبنان. وهذا المخيَّم مقسَّم إلى أحياء مسمَّاة بأسماء مناطق اللاَّجئين في بلدهم الأصلي فلسطين. كانت مسؤولية حفظ الأمن في المخيَّم ملقاة بالدرجة الأولى على عاتق ما يعرف باسم اللِّجان الشعبية، التي كانت تنظِّم الشؤون الداخلية في المخيَّم - حالها في ذلك كحال إدارة بلدية.

عندما حاول عناصر "فتح الإسلام" في خريف 2006 بالتمركز في مخيم في شمال لبنان، قامت المنظَّمات والتجمّعات السياسية في المخيَّم الذي يُطلق عليه اسم "مخيم البداوي" بإخراج أفراد جماعة "فتح الإسلام" من المخيَّم. وادَّعت جماعة "فتح الإسلام" في البدء بأنَّها حركة انشقَّت عن منظَّمة التحرير الفلسطينية، وذلك عندما بدأت هذه الجماعة بالاستقرار في مخيَّم نهر البارد.

لكن لقد اتَّضح بعد فترة قصيرة أنَّ تدريباتها على الأسلحة الخفيفة ودروسها الدينية ولكن أيضًا طبيعة أفرادها القادمين من مختلف أرجاء العالم الإسلامي لم تكن متوافقة مع المعالم التي تميِّز المنظَّمات الفلسطينية.

لم تتمكَّن اللِّجان الشعبية المسؤولة عن الأمن في المخيَّم من مواجهتهم، كما لم يقم أيّ أحد باعتراض طريقهم. لقد كانوا يفرضون وصايتهم على سكَّان المخيَّم ويوجِّهونهم، عندما كان هؤلاء يسمعون الموسيقى. وكانوا يشترون لوازمهم بالمال ويستأجرون البيوت كما استأجروا قطعة أرض لها منفذ على البحر.

أعمال عنف متطرِّفة في ظلِّ الدولة

أدَّى غياب الدولة اللبنانية وضعف التنظيم الداخلي في المخيَّم إلى تمكُّن جماعة "فتح الإسلام" في آخر المطاف من النجاح في ترسيخ وجودها في المخيَّم. فبدأت في جمع وتخزين الأسلحة وفي التدريبات على القتال. كذلك قام أفراد هذه الجماعة - حسب معلومات الحكومة اللبنانية - بتنظيم وشنِّ هجوم بالقنابل على حافلتين.

إنَّ عودة اللاَّجئين وإعادة بناء بيوت المخيَّم التي دمِّرت لا تكفيان وحدهما من أجل التغيير، نظرًا إلى البعد العسكري لهذا النزاع. لهذا السبب صارت أيضًا "لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني" تسعى إلى تحقيق مهام شاملة - تهدف بطبيعة الحال إلى دمج الفلسطينيِّين وإشراكهم في العملية السياسية في البلاد.

لا بدَّ من العمل على حماية الفلسطينيِّين ليس فقط من تهميشهم الاقتصادي، بل كذلك من تكوّن "مجتمع سياسي موازٍ". كما يجب أن تتمّ حماية المخيَّمات بشكل أفضل في المستقبل من ازدياد وتنامي نفوذ القوى السياسية المتطرِّفة، وذلك من أجل التمكّن أخيرًا من ضبط وتسوية أوضاع الفلسطينيِّين ومخيَّماتهم بصورة طبيعية.

بقلم بيرنهارد هيلِّنكامب
ترجمة رائد الباش
حقوق الطبع قنطرة 2007

قنطرة

الأطفال ومعارك حول مخيم نهر البارد
الأطفال هم أول مَن يعاني من الصراع الدائر بين تنظيم "فتح الإسلام" الراديكالي والجيش اللبناني في مخيم نهر البارد. تقرير من كريستينا فورش عن المؤسسة الوطنية للرعاية الاجتماعية والتأهيل المهني يكشف عن أبعاد هذه المعاناة.