فصول مظلمة من تاريخ العراق الحديث

في عهد الرئيس العراقي السابق، صدام حسين كان الأكراد والشيعة عرضة لأعمال القمع والاضطهاد والقتل الجماعي المنظَّمة. والآن تتم معالجة هذه الفصول المظلمة من تاريخ العراق الحديث عبر تسليط الضوء على أبعاد هذه الجرائم وتبعاتها وتعقيداتها. برغيت سفينسون تلقي الضوء من بغداد على الإجراءات الخاصة بمعالجة تبعات تلك الفترة.

الصورة، برغيت سفينسون
بقايا جثث في مستشفى الصدر التعليمي المتخصِّص في تحقيقات الطب الشرعي الخاصة بالكشف عن المقابر الجماعية

​​قبل الإقلاع من مدينة أربيل الكردية تسود حالة من التوتّر العصبي وتتصاعد أكثر كلما اقتربت الطائرة أكثر من مدينة النجف في جنوب العراق. ويدب النشاط والحركة خاصة بين المسافرات اللواتي يبدأن في قياس أوشحة ويرتدين الحجاب. وحتى إنَّ بعضهن يخفين أنفسهن بعباءات سوداء اللون طويلة تصل حتى الأرض.

وللمرة الأولى يسافر وفد من حكومة إقليم كردستان من شمال العراق إلى جنوبه الشيعي. والسؤال الذي يسيطر على الجميع هو "كيف سيكون استقبالهم لنا؟" و"كيف سيكونون معنا؟" ويبدو الأمر وكأنَّ أعضاء هذا الوفد الذي يبلغ عددهم اثنين وعشرين عضوًا يسافرون إلى بلد غريب مجهول. وفي الواقع يعتبر الوضع كذلك إلى حدّ ما؛ فمعظم أعضاء هذا الوفد لم يكن لديهم أي اتصال حتى الآن مع أبناء بلدهم الشيعة في الجنوب.

وبعد الاضطهادات في عهد نظام صدام حسين فرضت الأمم المتَّحدة في بداية التسعينيات حظرًا جويًا يمنع سلاح الجو العراقي من الطيران فوق منطقتي شمال العراق وجنوبه، وذلك من أجل حماية المواطنين من غارات الحكم المستبد. ومنذ تلك الأيَّام كان هناك فرق كبير ما بين أربيل والنجف، رغم أنَّ المسافة بينهما لا تبلغ إلاَّ نحو سبعمائة كيلومتر.

وعندما هبطت طائرة البوينغ 737 المستأجرة قادمة من "كردستان العراق" في مطار مدينة النجف الذي تم إنجازه حديثًا، شاهدنا لجنة الاستقبال، حيث كان يقف على طرف المدرج فقط رجال معمَّمون بعمائم سوداء وبيضاء اللون وبعباءات طويلة. ويتَّضح من هذا المنظر أنَّنا الآن في "شيعستان العراق"، في مدينة النجف المقدَّسة، حيث مرقد الإمام علي بن أبي طالب.

وفي النجف توجد أكبر مقبرة شيعية في العالم وكذلك السلطة الدينية الشيعية العليا، أي الحوزة العلمية الدينية. ولكن في النجف يوجد أكثر من ذلك، حيث تم في هذه المحافظة في الأعوام الستة الماضية منذ سقوط نظام صدام حسين، اكتشاف العديد من المقابر الجماعية؛ ومن بين هذه المقابر هناك ثلاث مقابر تضم جثث أشخاص أكراد. وقد جاءت الوزيرة جنار سعد عبد الله إلى النجف من أجل إعادة رفات الموتى الأكراد إلى إقليم كردستان الذي يتمتَّع بحكم ذاتي فى شمال العراق.

وزيرة شؤون الشهداء والمؤنفلين

وهذه الوزيرة التي يبلغ عمرها ستة وثلاثين عامًا والقادمة من أربيل، عاصمة إقليم كردستان، تقول إنَّ كونها شابة له ايجابياته وسلبياته. والسيدة سعد عبد الله باحثة مختصة في علم الاجتماع وقد أنهت لتوِّها أطروحة الدكتوراه التي أعدَّتها حول الإبادة الجماعية للأكراد من قبل نظام صدام حسين، عندما تم في شهر أيَّار/مايو من عام 2006 تنصيبها وزيرة كردية مسؤولة عن معالجة تبعات عمليات الأنفال. وعملها هذا يحظى بالنسبة لأبناء جلدتها بقدر كبير من الأهمية، وذلك لأنَّها معنية في معالجة الإبادة التي حدثت في الأشهر السبعة من العام 1988، والتي تمت تسميتها من قبل نظام صدام حسين باسم "الأنفال" حسب اسم سورة قرآنية تتحدَّث عن معاملة أسرى الحرب. ومن المفترض أنَّه تم في تلك الفترة قتل مائة واثنين وثمانين ألف مواطن كردي عراقي - قضى معظمهم بطريقة وحشية.

في البحث عن المقابر الجماعية في عهد صدام
في عملية الأنفال تم قتل نحو مائة واثنين وثمانين ألف مواطن كردي عراقي، قضى معظمهم بطريقة وحشية

​​وهذه الوزيرة قامت بتوثيق كلِّ شيء، كما أنَّها أسَّست أرشيفًا في مدينة أربيل. وبالتعاون مع زميل كان يدرس معها قدَّمت السجلات والوثائق للمحكمة الخاصة التي كانت تنظر في جرائم نظام صدام حسين. وعلى الرغم من أنَّه قد تم إعدام الرئيس صدام حسين في العام 2006، إلاَّ أنَّ المحاكمات ما تزال مستمرة. وكذلك ما تزال تتم محاكمة ابن عمه، علي حسين المجيد الذي يطلق عليه ببساطة لقب "علي الكيماوي" - لأنَّه قام بتنظيم الغارات بالأسلحة الكيماوية على الأكراد، وقد تمت محاكمته بالإعدام. وعلى وجه الإجمال تم إعداد اثني عشر قضية، انتهت المحكمة من البت فقط في ثلاثة منها.

وعملية الأنفال العسكرية بدأت ضدّ الأكراد في الثالث والعشرين من شهر شباط/فبراير من العام 1988، وذلك عندما بدأ الجيش العراقي بتحريك قواته عبر المنطقة الحدودية المحاذية لإيران وهاجم في البداية مقر حزب الاتِّحاد الوطني الكردستاني PUK، أي حزب الرئيس العراقي الحالي جلال طالباني. وكان العراق يخوض منذ ثمانية أعوام حربًا مدمِّرة مع إيران، سقط فيها أكثر من مليون قتيل، بالإضافة إلى تزايد الضغوطات على صدام حسين.

وفي فترة لاحقة ذكر الرئيس العراقي السابق والمتهمون معه أمام المحكمة أنَّ المتمرِّدين الأكراد كانوا يتعاونون مع العدو السابق - إيران، وأنَّه يجب بالتالي النظر إلى هذه العملية على أنَّها عملية حربية. وفي المقابل ينظر الأكراد إلى عملية الإبادة الجماعية هذه على أنَّها عملية انتقام، وذلك لأنَّ المتضرّرين منها لم يكونوا في الدرجة الأولى من مقاتلي البيشمركة، بل لقد كان معظمهم من السكَّان المدنيين.

وللمرة الأولى في التاريخ استخدمت حكومة أسلحة كيماوية ضدّ أبناء شعبها؛ حيث تم قصف المناطق الكردية بغاز الخردل وغاز السارين. وترمز إلى هذه العملية قرية حلبجة التي تقع جنوب شرقي مدينة السليمانية، حيث مات في شهر آذار/مارس في العام 1988 في غارة واحدة نحو خمسة آلاف شخص.

مقابر جماعية

وحتى نهاية شهر آب/أغسطس من العام 1988 قام الجيش العراقي على وجه الإجمال بتنفيذ ثمان "عمليات تطهير" ضدّ الأكراد، وحتى بعد أن كانت الحرب مع إيران قد وصلت إلى نهايتها. وكذلك تذكِّر عمليات ترحيل الأكراد المنظَّمة وانتقائهم وقتلهم بآلية الإبادة في ألمانيا النازية. ويوسف دزيي، زميل الوزيرة من أيَّام الدراسة، يعلِّق على أعمال القتل الجماعي التي طالت أبناء جلدته قائلاً: "لقد قام صدام بتقليد هتلر"، ويضيف: "كانت هذه محرقة في حقِّ الأكراد".

ويوسف دزيي اكتشف وأثبت أنَّ هناك قوائم تحتوي معلومات حول المرحَّلين الذين تم فصلهم عن بعضهم بعضًا في معسكرات التجميع. وتم نقل بعضهم إلى الصحراء في جنوب غرب العراق، وهناك مات بعضهم جوعًا في وضع بائس، وتمكَّن بعضهم من النجاة بصعوبة بفضل المساعدة السرية التي تلقّوها من البدو الذين يعيشون في المناطق القريبة. ولكن تم ترحيل الكثيرين إلى مكان ما في الجنوب، وتم قتلهم ودفنهم في مقابر جماعية. وحتى الآن اكتشفت مائتان وست وثمانون مقبرة جماعية. والآن تم فتح واحدة من هذه المقابر الجماعية في مدينة النجف.

صدام حسينن الصورة: ا.ب
"تذكِّر عمليات ترحيل الأكراد المنظَّمة وانتقائهم وقتلهم في عهد صدام بآلية الإبادة في ألمانيا النازية"

​​وهكذا تقف الوزرة جنار سعد عبد الله والوفد المرافق لها أمام مائة وخمسين كيسًا أبيض اللون تحتوي بقايا جثث في مستشفى الصدر التعليمي المتخصِّص في تحقيقات الطب الشرعي الخاصة بالكشف عن المقابر الجماعية. ويقول أمير إبراهيم الذي يدير قسم البحوث في هذا المستشفى: "نحن لا نستطيع فتح كلِّ المقابر". وذلك لأنَّ إمكانيَّاتهم التقنية والبشرية والمالية تعتبر محدودة - حسب قوله - ولأنَّ ذوي القتلى يمكن بسهولة أن يصابوا بحالة ذعر وفزع إذا علموا أين تقع المقابر الجماعية أو إذا وقفوا أمام القبور المفتوحة. فطبقًا للعقيدة الإسلامية يعتبر الموتى أحياء حتى يتم دفن جثثهم بصورة صحيحة؛ الأمر الذي له تبعات وعواقب كبيرة بالنسبة لأهالي الموتى. فالأرامل لا يعتبرن أرامل، طالما لم يتم التعرّف على أزواجهن ولم يتم دفنهم. ولذلك لا يجوز لهن الزواج مرة أخرى ولا يجوز لهن أيضًا الحصول على معاشات تقاعد.

مصير مشترك

وتؤكِّد هيمان جميل آراء زميلها في النجف قائلة إنَّ "الناس يكونون في بعض الأحيان غير صبورين للغاية". وهذه الكردية الشابة تعمل مثل أمير إبراهيم في مدينة أربيل وهي خبيرة في المقابر الجماعية في وزارة الداخلية في حكومة إقليم كردستان المحلية. وعلى الرغم من أنَّ وزارة حقوق الإنسان العراقية في بغداد قد خصَّصت - على حدّ قولها - مبلغ 1,8 مليار دينار عراقي (تقريبًا ستمائة وعشرين ألف يورو) من أجل البحث عن المقابر الجماعية وحمايتها في جميع أرجاء البلاد، إلاَّ أنَّ هذا المبلغ لا يكفي على المدى البعيد من أجل التعرّف على القتلى الذين تبلغ أعدادهم مئات الآلاف، ومن إجل دفنهم ومن أجل دفع التعويضات لذويهم.

حجاج أمام ضريح الإمام علي في النجف، الصورة: برغيت سفينسون
"الأكراد ليسوا الوحيدين الذين عانوا من النظام المستبد السابق؛ إذ توجد عشرات الآلاف من الشيعة الذين تم قتلهم أيضًا من قبل نظام صدام حسين وأتباعه"

​​وعلاوة على ذلك تقول هيمان جميل إنَّهم بحاجة إلى المزيد من الدعم الدولي بغية معالجة تبعات جرائم الحرب بطرق علمية. فالأكراد ليسوا الوحيدين الذين عانوا من النظام المستبد السابق؛ إذ توجد عشرات الآلاف من الشيعة الذين تم قتلهم أيضًا من قبل نظام صدام حسين وأتباعه، ودفنوا في بعض المقابر الجماعية. وهذا المصير المشترك والقاسي وكذلك معالجته يقرِّبان بين الشيعة والأكراد في حقبة ما بعد نظام صدام حسين.

كما أنَّ هذا التبادل بين الأكراد والشيعة في مدينة النجف يتخطى من خلال هذه الخطوة الأولى مشاركة الحكومة، ويمثِّل أيضًا تعاونًا وثيقًا على مستويات أخرى. وهيمان جميل تتحدَّث بدهشة وإعجاب حول تقديرها الكامل للعمل المتقن الذي يؤديه زملاؤها الشيعة. وتقول إنَّها تمكَّنت بناءً على أبحاثها الأولية الدقيقة من تحديد المكان الذي أتى منه القتلى. وفي هذه الأثناء تم نقل رفاتهم إلى كردستان ودفنهم في منطقة رزگارى في محافظة السليمانية.

وبالتوازي مع ذلك أثير نقاش مثير للجدل حول إقامة نصب تذكارية للتذكير بهذه الإبادة الجماعية التي طالت الأكراد. وهنا اعتبرت معالجة الماضي مسألة خاصة والذاكرة مسألة أخرى؛ ولكن مع ذلك فإنَّ هاتين المسألتين قريبتان من بعضهما بعضًا. ومع العمل على دفن جثث الموتى، يريد الناجون فعل شيء ضدّ النسيان. وهناك أصوات مع إقامة نصب تذكاري شامل، في حين أنَّ هناك أصواتا تدعو إلى إقامة العديد من النصب التذكارية في الأماكن التي حدثت فيها عمليات الإبادة الجماعية.

وقبل فترة غير بعيدة قام مركز الدراسات الشرقية الحديثة في برلين بتنظيم مؤتمر دعا إليه أشخاصًا ناجين من عمليات الأنفال وعرض عليهم نماذج من النصب التذكارية في ألمانيا. وتقريبًا بعد ثلاثة أشهر من الانتخابات المحلية التي جرت في إقليم كردستان تم في نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر تشكيل الحكومة الكردية الجديدة. وجنار سعد عبد الله لم تعد وزيرة في هذه الحكومة. وأمَّا الجدال حول شكل "النصب التذكاري الصحيح" فربَّما سيشغل الأكراد لفترة طويلة - أيضًا في عهد وزير شؤون الشهداء والمؤنفلين الجديد، الوزير ماجد محمد أمين.

برغيت سفينسون
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2009

قنطرة

عشرون عامًا على حملة الأنفال ضد أكراد العراق:
ضحايا من دون لوبي وناجون خارج الذاكرة
بدأت قبل عشرين عامًا حملة الأنفال العسكرية في القسم الكردي من شمال العراق، حيث تم تهجير واختطاف ما يزيد عن مائة ألف شخص من مناطق سكناهم. ولكن في ضوء الصراعات المستمرة في العراق أصبح ضحايا الأنفال طي النسيان، غير أن مؤتمرا في برلين عقد من أجل لفت الأنظار إلى الوضع المزري الذي يعاني منه من نجا من حملة الأنفال. أريانا ميرزا تستعرض بعض جوانب هذا المؤتمر.

محاكمة صدام حسين وزمرته:
الانتظار الطويل لنساء الأنفال
بدأت في الـ21 من شهر آب/أغسطس 2006 في بغداد محاكمة صدّام حسين الثانية مع ستة متّهمين آخرين في قضية الأنفال. يتابع الأكراد هذه المحاكمة باهتمام خاص، لا سيما وأنّها تتعلّق بعملية عسكرية لا يزال يعاني منها الكثير من الأكراد وقبل كل شيء النساء. بقلم ديرك بيترس

الدستور العراقي الجديد:
هل من الممكن أن تكون الفيدرالية الألمانية نموذجا للعراق؟
قام وفد من أعضاء لجنة صياغة الدستور العراقي بزيارة إلى ألمانيا قام خلالها أيضا بالإطلاع على النموذج الألماني للفيدرالية. يتحدث أعضاء الوفد في المناقشة التالية عن العديد من النقاط التي ما تزال تثير الجدل كموضوع الفيدرالية وعروبة العراق والشريعة.