تسونامي دوتيرويت الأمريكية يصل "دوتيرويت" التركية

كانت تركيا تمضي على خير طريق يقودها إلى أن تصبح قوة اقتصادية كبرى بعد تطبيق الإصلاحات منذ عام 2001، لذلك كان الأتراك يعتقدون أنهم محصنون تجاه الأزمة المالية الحالية. ولكن ما مدى تشابك الاقتصاد التركي مع الاقتصاد الأوروبي؟ هذا ما تحاول دانيلا شرودر أن تجيب عنه بعد زيارتها لمدينة تصنيع السيارات في مدينة بورصا التركية.

عمال أتراك ينظرون إلى ورديات أعمالهم، الصورة: أ.ب
الأزمة المالية العالمية طالت قطاع صناعة السيارات التركية الذي يشكل مصدر العملات الأجنبية

​​ فكرة واحدة تطارد إيرهان سيفر هذه الأيام في كل مرة يخرج فيها من البيت بعد الرابعة فجراً بقليل، وعندما يقود سيارته الفيات القديمة إلى الحافة الأخرى من المدينة، ثم يمر من بوابة المصنع، ويشرب في غرفة الاستراحة كوباً من الشاي القوي المحلى بكثير من السكر، ثم يبدأ يوم عمله بعد أن يضع النظارة الواقية أمام عينيه ويبدأ في تشغيل ماكينة اللحام: ربما تكون هذه هي المرة الأخيرة.

وظيفة إيرهان سيفر معلقة في خيوط من الحرير. عديدون من زملائه مرّوا بالفعل بيوم عملهم الأخير، بعد أن قام رب عمل سيفر، شركة توفاس، ثالث أكبر مصنع لإنتاج السيارات في البلاد، بفصل سبعمائة عامل من عدد العمال الذين يبلغ عددهم 5200 عامل في قسم الإنتاج، وذلك على نحو مؤقت في منتصف شهر نوفمبر / ‏تشرين الثاني‏‏ الماضي. أما السبب فهو أن الزبائن الأوروبيين الذين أصابتهم الأزمة المالية الحالية بصدمة قد قاموا بإلغاء العديد من الطلبيات، وهكذا تم تقليص حجم العمل في مصنع بورصا إلى أقل من النصف.

أصابت إجراءات الفصل في شركة بورصا العمالَ الشباب بصورة خاصة. عديد منهم يقضى الآن فترة خدمته العسكرية، ولكن ماذا يجيء بعد ذلك؟ هذا في علم الغيب. قد يحدس سيفر البالغ من العمر اثنين وأربعين عاماً، وكذلك زملاؤه ما سيأتي، غير أنهم لا يجرؤن على النطق به، بل يودون ألا يفكروا فيه مطلقاً. وهكذا نسمع أحدهم يقول وكأنه يدفع الشر: "الناس يتحتم عليهم دائماً أن يقودوا سيارة."

تقع بورصا على بعد حوالي تسعين كيلومتراً جنوبي أسطنبول، ويسكن فيها حوالي 1,4 مليون، وهي بهذا رابع أكبر مدن تركيا. تعتبر بورصا محرك صناعة السيارات في تركيا، إذ أن أكثر من ستين في المائة من السيارات المُنتجة في كل البلاد تأتي من مصانع بورصا التي تأتيها طلبيات من شركات مثل فيات ورينو. كما تقوم شركات أخرى، مثل بوش وشركة "مان" لتصنيع الحافلات والشاحنات وكذلك دايملر، بتصنيع أجزاء من سياراتها في المراعي الخضراء المحيطة ببحر مرمرة.

ضربة قوية إلى قطاع التصدير

سيارة إيطالية بتصنيع تركي
تقوم شركة توفاس التركية بتصنيع موديلات من سيارات فيات بعد الحصول على ترخيص من الشركة الإيطالية

​​ قبل أربعين عاماً أسست شركة فيات والشركة التركية القابضة "كوتش" شركة توفاس. ومنذ تأسيسها وهي تقوم بتصنيع موديلات من سيارات فيات بعد الحصول على ترخيص من الشركة الإيطالية. ويقوم العمال في توفاس في الوقت الحالي بتصنيع سيارات الفئة المتوسطة من فيات، طراز "لينيا"، وسيارات الكومبي ذات السقف العالي "دوبلو"، والسيارة الصغيرة "باليو" المصممة للسوق العالمية. في عام 1971 كان المصنع ينتج 8000 سيارة في العام، أما في العام الماضي فقد بلغ العدد 197 ألف سيارة. "نريد أن نكون أنجح مصنع لإنتاج سيارات "فيات" خارج إيطاليا"، يقول مدير الإنتاج إيركان بولات بحماسة بالغة. وكان هدف توفاس الوصول بسقف الإنتاج في عام 2008 إلى رقم 324 ألف سيارة.

ولكن هذه الآمال لن تتحقق، على الأقل في الفترة الحالية. لقد وصلت أزمة الأسواق المالية الآن إلى تركيا أيضاً، وأصابت قطاع التصدير بشكل خاص. وكان إيركان تيزر، رئيس رابطة منتجي السيارات في تركيا، قد حذر منذ أسابيع من أن "التسونامي يقترب منا في كل يوم أكثر". هذا سيناريو لا يمكن تصوره بالنسبة للقطاع المدلل لكثرة ما حققه من نجاحات، ففي مطلع العام استطاع منتجو السيارات وموردو قطعها أن يزيدوا من حجم الإنتاج بنسبة 25 في المائة، بل إن عائد الصادرات قد زاد بنسبة 31 في المائة ليبلغ 20,7 مليار دولار أمريكي. غير أن القطاع شهد تغيراً فجائياً إذ تقلصت في أكتوبر الصادرات بنسبة حوالي 27,5 في المائة، وهبط حجم الإنتاج إلى ما يزيد عن عشرين في المائة، بل وتتوقع رابطة منتجي السيارات في تركيا لعام 2009 حدوث انخفاض آخر في الإنتاج بنسبة 15 في المائة

"إذا عانى الاتحاد الأوروبي عانت معه تركيا"

هذه الأرقام المتداعية في قطاع إنتاج السيارات تمثل ضربة قاصمة للميزانية التجارية في تركيا التي تمثل صناعة السيارات فيها أهم قطاع لجلب العملة الصعبة إلي البلاد، إذ تبلغ نسبة صادرات هذه الصناعة 31 في المائة. إن ثماني سيارات من كل عشر تُنتج في تركيا يتم تصديرها، وتسعون في المائة من هذه الصادرات تذهب إلى الاتحاد الأوروبي. إذا ساء وضع الأوروبيين، عانت تركيا معهم. هذا الكساد الفجائي الذي أصاب الصفقات مع الخارج سيؤثر تأثيراً سلبياً على ميزان المدفوعات التركي – الذي يمثل أكبر عامل مخاطرة في الاقتصاد التركي - والذي يعاني عجزاً كبيراً حتى قبل الأزمة.

الاستثمارات الخارجية المهمة تراجعت بشدة كذلك: فبينما تدفقت خلال العام الماضي 22 مليار دولار أمريكي إلى تركيا، فإن هذا الرقم سيتراوح خلال عام 2008 ما بين 12 و14 مليار. كما أن جبل الديون الضخم سيمثل عبئاً أكبر على الاقتصاد. وبسبب الفوائد العالية على الليرة التركية فقد طلبت شركات عديدة في السنوات السابقة قروضاً بعملات أجنبية. وقد بلغت تلك القروض الخارجية في الصيف 193 مليار دولار. والآن وبعد انهيار قيمة الليرة فإن الأتراك سيدفعون مبالغ باهظة مقابل هذه القروض الخارجية.

إصلاحات ذكية بعد أزمة 2001

مجمع السيارات  توراس
الأزمة المالية التي طالت قطاعات صناعة السيارات الأمريكية والأوروبية ألقت بظلال سلبية على شركات تصنيع السيارات التركية

​​ أظهر النموذج التركي أن الأزمة المالية تصيب أيضاً أولئك الذين لم يرتكبوا في الواقع أخطاءً كبيرة، إذ إن تركيا عاشت في عام 2001 أزمتها المالية التي ضربت مصارفها ضربة كادت تؤدي بها إلى الانهيار. غير أن ما حفظ البلاد من الإفلاس المالي هو القرض الذي منحه البنك الدولي لتركيا والذي بلغت قيمته الإجمالية أربعين مليار دولار. شكلت الضمانة التي قدمها البنك الدولي لمساعدة تركيا محركاً سرّع في عملية الإصلاح، فتم تشديد اللوائح المصرفية، واستقرت ماليات الدولة. هذا الوضع المستقر هدّأ المستثمرين الأجانب، ومنذ ذلك الحين والاقتصاد يحقق طفرات واسعة.

غير أن حزمة المعونة التي أقرها البنك الدولي انتهت في شهر مايو/ أيار السابق. وبعد أن عارض رئيس الوزراء إردوغان وفريق وزرائه معارضة شديدة استدانة قروض جديدة ، بدا أنهم رضخوا للضغط الواقع على الاقتصاد التركي. كانت أنقرة تردد دوماً: "سنبقى بمأمن من الأزمة." غير أن فاتح أوزاتاي يرى أن "السياسيين لم يدركوا بعد أن الأزمة أزمة عالمية، وأن تركيا لن تتمتع بالحصانة في مواجهتها، رغم الإصلاحات التي طُبقت خلال الأعوام الماضية." ويرى الخبير المالي أوزاتاي أنه لن يعيد ثقة المستثمرين في البلاد سوى اتفاقية جديدة مع البنك الدولي.

في انتظار ما لا يجيء

ليست معونة البنك الدولي هي الحل: هكذا يقول الخبير الاقتصادي كوركت بوراتاف محذراً. على تركيا أن تعيد هيكلة نظامها الاقتصادي برمته. هذا الرأي يتبناه أيضاً إرول كاتيرتشوغلو، الأستاذ بجامعة بيلغي في أسطنبول الذي يقول: "ينبغي يتغير التفكير السياسي تغيراً جذرياً." صحيح أن لدى حكومة إردوغان "بعض الأفكار القليلة، ولكنهم في الواقع يجلسون في انتظار غودو".

كانت لدى البلاد خطط كبيرة في الآونة الأخيرة، إذ أن أنقرة كانت تريد لاقتصادها أن يصبح واحداً من أقوى عشرة اقتصاديات في العالم مع حول عام 2023، أي في الذكرى المئوية على تأسيس الدولة التركية. هل أصبح هذا الهدف من قبيل الخيال؟ ربما لا، يقول كاتيرتشوغلو. ولكن للوصول إلى هذا الهدف على الاقتصاد والمجتمع أن يشاركا بفعالية أكبر في صنع القرار السياسي. "في هذه النقطة يمكن أن تتعلم تركيا من الاتحاد الأوروبي"، يقول كاتيرتشوغلو؟ ينبغي على أنقرة أن تراعي الاحتياجات الفعلية لكل منطقة على حدة في تركيا، وأن تتوقف عن ممارسة سياسة عامة تطبق على كل البلاد. فالمنطقة الشرقية والجنوب الشرقية اللتان تعيشان على الزراعة تفصلهما سنوات من التطور عن العواصم الصناعية في الغرب.

"ديترويت تركيا": هكذا كانت غرفة التجارة في بورصا تُطلق على المدينة لجذب المستثمرين إليها. حتى الآن كان للشعار على الأذن وقع إيجابي واثق من النفس. غير أنه يبدو الآن نذير شؤم. في إحدى الاستراحات جلس إيرهان سيفر يشرب الشاي ويقرأ في الصحف عن خطط إنقاذ مدينة ديترويت التي تعتبر عاصمة صناعة السيارات في الولايات المتحدة. ورد في الصحيفة أيضاً أخبار عن وقف الإنتاج في مصنع فورد في غولوتشيك. كما قرأ في الصحيفة أن حكومته ما زالت ثابتة على قناعتها التي لا تتزعزع بشأن النمو الاقتصادي، في حين ترتفع أعداد العاطلين عن العمل ارتفاعاً فلكياً. ما يفكر فيه الآن – كلا، لا يريد سيفر أن ينطق بما يفكر فيه. إنه يضع النظارة الواقية أمام عينيه مرة أخرى ويعود مع زملائه إلى ماكينة اللحام. ربما يسير هذا الطريق مرات عديدة ، في الأيام والشهور والسنوات القادمة. وربما تكون هذه هي المرة الأخيرة.

دانيلا شرودر
ترجمة: صفية مسعود
قنطرة 2008

قنطرة

مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي:
في مصيدة الإصلاحات والوفاء بالالتزامات
يتطلع الاتحاد الأوروبي إلى إصلاحات بالغة الأهمية في تركيا في مجالات عدة وسط تحذيرات القيادة التركية من تلاشي حماس أوروبا لتسريع مفاوضات الانضمام، في وقت لا تكاد توحي هذه المفاوضات بشيء من التقدم. دانيلا شرودر تستعرض الأجواء المتعكرة بين بروكسل وأنقرة.

الاتحاد الأوربي
فرصة لتركيا وفرصة لأوروبا
حصل المستشار الاتحادي غيرهارد شرودر على تعاطف الرأي العام التركي خلال زيارته إلى تركيا بسبب دعمه الواضح لانضمام البلد الإسلامي إلى الاتحاد الأوروبي، تعليق بهاء غونغور.

الإصلاح الدستوري في تركيا
صراع جنرالات أم أيدلوجيات؟
يناقش البرلمان التركي مجموعة من التعديلات الدستورية والقانونية، وتشكل مسألة رفع حظر الحجاب محور هذه المناقشات والتغييرات وذلك وفق طروحات تقدمت بها حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة اردوغان. غونتر زويفرت يلقي الضوء على هذه القضية من اسطنبول