الدولة القومية والمهاجرون إليها

يوصف الجدل الدائر حول الهجرة والمهاجرين في ألمانيا بأنَّه جدل مشحون عاطفيًا. وبالرغم من هذا لا تجد المشاعر مكانًا لها في حلقات الحوار. وإذا أراد الألمان القبول بالوافدين إليهم فلا بدَّ لهم من أنْ يتحدثوا عن أنفسهم بشكل منفتح ونقدي، كما يوضح ظافر سينوجاك في هذه المقالة.

يوصف الجدل الدائر حول الهجرة والمهاجرين في ألمانيا بأنَّه جدلٌ مشحونٌ عاطفيًا. وبالرغم من هذا لا تجد المشاعر مكانًا لها في حلقات الحوار. وإذا أراد الألمان القبول بالوافدين إليهم فلا بدَّ لهم من أنْ يتحدثوا عن أنفسهم بشكل منفتح ونقدي، كما يوضح ظافر سينوجاك في هذه المقالة.

ظافر سينوجاك، الصورة د.ب.ا
سينوجاك: "لا ينبغي أنْ يدور الحديث على طاولات سياسة الاندماج الألمانية حول الأتراك فقط أو حول الإسلام وما إلى ذلك مما يعتبره الألماني العادي غريبًا عنه، بل ينبغي أنْ يدور الحديث أيضًا حول ما يعتبره الألماني خاصًا به".

​​ ثمة تغيّر يطرأ على طريقة التفكير في ألمانيا منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، حيث يتم النظر أخيرًا إلى من يعيشون هنا وينحدرون من أصول غير ألمانية باعتبارهم مهاجرين. ومنذ ذلك الحين تتّبع الدولة والمجتمع تحت عنوان الاندماج سياسةً تسعى لتنظيم هذه الهجرة. في الوقت ذاته يجري تغيّرٌ في نموذج آخر، فمع تحقق الوحدة الألمانية نشأت في وسط أوروبا دولةٌ قوميةٌ ألمانيةٌ تزداد اختلافًا عن الجمهورية الاتحادية السابقة باطراد.

ولا يرتبط هذا الأمر بضم ألمانيا الشرقية إلا بشكلٍ محدود، إذ نلاحظ أنَّ هنالك إحساسًا متغيّرًا بالهوية الذاتية، حيث تزداد مواجهة التاريخ الألماني الشائك مع الواقع الراهن، كما يتم إعادة ترتيب بعض فصول كتاب تاريخ ألمانيا وتقييمه من جديد.

تحوّل الهوية إلى علامة تجارية

هناك رواجٌ لتناول المواضيع المتعلقة بوعي الذات، حيث تجري معالجة الألم الألماني من خلال استعادة ذكرى التهجير وضحايا القصف في الحرب العالمية الثانية واغتصاب النساء الألمانيات من قِبَلِ جنود الاحتلال آنذاك. وفي الوقت عينه يتم تصوير الحاضر باعتباره حاضرًا يتسم بالفرح والخلو من التشنّج، حيث يقال: انظروا إلينا، نحن قادرون على الاحتفال، ونمتلك روح الدعابة، ولدينا نظام دولةٍ حديث ومنفتح على العالم. كما يمكن لألمانيا أنْ تعتز بنفسها في العالم. فتغدو الهوية علامة تجارية يجري الترويج لها بسرور، ويمكن استخدامها دعايةً بارزةً.

الصورة إ.ب
ألمانيا بلا وجه: مؤتمر الاندماج، مؤتمر الإسلام، خطوات سياسية تُعبِّر عن أنَّ مجمل الطرح السياسي لا وظيفة له سوى دمج غير الألمان في المجتمع الألماني، بحسب نقد ظافر سينوجاك.

​​ لكن كيف يرتبط التاريخ بالحاضر اليوم؟ وما مقدار النسيان وما مقدار الذاكرة اللتان يحتاجهما الحاضر الألماني؟ اللافت للنظر في الأمر، أنَّ قضايا التاريخ الألماني والوعي المتغيّر بالذات لا تظهر عند طرح مسألة الهجرة، ولا حتى بشكل هامشي، وذلك بسبب خطر نكء الجراح المندملة إذا ما تمت مواجهة التاريخ الماضي مع التحديات الراهنة التي تنجم عن الهجرة.

المستقبل التركي باعتباره سيناريو ينذر بالخطر

وهكذا ينشأ صمتٌ يدعو للغرابة، لا بل وينشأ غالبًا رفضٌ جذريٌ أيضًا عند الربط بين التاريخ الألماني والمستقبل التركي للبلاد. فالمستقبل التركي سيناريو ينذر بالخطر، حيث تزداد في هذا المستقبل الأهمية لأقلية وطّدت قدمها في هذا البلد.

وكيف يتحوّل التركي اليوم إلى ألماني؟ من المفيد في هذا الصدد بالنسبة لأبناء البلد وأيضًا للوافدين أنْ يفتحوا تلك الفصول من تاريخ ألمانيا المتعلقة بهجرة البولنديين في القرن التاسع عشر أو المتعلقة باندماج وانصهار اليهود في العصر الحديث. كيف كانت الأمور بما يخص الهجرة البولندية إلى الإمبراطورية الألمانية؟

من ذا الذي يتذكَّر اليوم النزاع المرير الذي دار حول اللغة ودعا لإقصاء اللغة البولندية عن الواقع الألماني، تمامًا كما يجري اليوم بخصوص اللغة التركية؟ يصطدم المرء في كل زاوية في هذا البلد بموضوعٍ تاريخيٍ يتعلق بالتجربة الأليمة الناجمة عن الحقبة النازية وعن الحرب والقتل الجماعي لليهود الأوروبيين، ولكنه يصطدم أيضًا بمعاناة الشعب الألماني جراء الحرب والنزوح والتهجير. معاناةٌ محفورة بعمق أيضًا في الذاكرة.

لذا فإنَّ ألمانيا بلا تاريخ وبالتالي بلا وجه لا مصداقية لها، إلا أنَّ مسألة الهجرة يتم إبعادها عن كل هذا. فكل مؤتمرات القمة المخصصة لمسألة الاندماج، وكذلك مؤتمر الإسلام، والنقاشات والاحتفالات المتعلقة بهذا الموضوع، ما هي إلا خطوات تُعبِّر عن أنَّ مجمل الطرح السياسي لا وظيفة له سوى دمج غير الألمان في المجتمع الألماني.

الانصهار بدل الاندماج؟

قمة الاندماج، الصورة د.ب.ا
إن الاندماج ليس شارعًا باتجاهٍ واحد: الروابط التي تمثل مصالح المهاجرين والمبادرات المناهضة للعنصرية تنتقد المطالب السياسة أحادية الجانب تجاه الوافدين في ألمانيا وتقول إنها لا يمكن أنْ تفضي إلى الحل.

​​ يقوم هذا الأسلوب على القناعة بوجوب الانصهار. والانصهار هو بالفعل أحد الإمكانيات المطروحة للاندماج في بلد غريب. بيد أنَّه لن يتحقق طالما جرى إبعاد المجريات التاريخية عن طاولة المفاوضات. فهذه المجريات تواصل تأثيرها في الذاكرة النشطة وكذلك في طبقات الوعي الدفينة، فتتسلل إلى اللغة وتباغت وتزعزع.

إنَّ اللغة التي يناقش الاندماج بها مميزة على أية حال، فهي مليئة بالأحابيل عندما يتعلق الأمر بقضايا الهوية والوطن والولاء. وهكذا نلاحظ في النقاشات الدائرة حول موضوع حمل جنسيتين، سعيًا لاستخدام مصطلح الولاء الذي استخدمه المؤرخون والساسة المحافظون في الحقبة القيصرية الألمانية في سبيل إثبات تناقض الهوية الألمانية مع الهوية اليهودية. فكانت وحدة الدولة والشعب في خطر بحسب رأي المؤرخ هاينريش فون ترايتشكه.

من يقف اليوم ضد الهويات المزدوجة يتعرّض للسير على خطى مفهومٍ ضبابيٍ للدولةِ أعاق طريق الألمان إلى الديمقراطية لوقت طويل. على أية حال تمتلك هذه المفاهيم السيادة العليا على المشاعر الدفينة للخوف من فقدان الهوية والخوف من الغرباء والمجهولين.

أما بشأن عمل الروابط والجمعيات الإسلامية في ألمانيا، فينبغي بلا شك مراقبته بشكل نقدي. لكن عندما تكتب نجلاء كيليك في جريدة "فرنكفورتر ألغِماينِه" عن "عقلية الأسواق القديمة" التي تعتقد الروابط والجمعيات أنْ يتسنى لها من خلالها "أنْ تساوم بأمر الله مع الحكومة بخصوص تشكيل مؤتمر الإسلام وبخصوص جدول أعماله"، فتثير بكلامها تداعياتٍ لأفكارٍ تعود إلى تقليدٍ طويلٍ من القذف والتشهير. أتساءل هنا: هل تسمح أية صحيفة بصياغاتٍ مشابهةٍ لو ارتبط الأمر بمجموعةٍ دينيةٍ أخرى؟

يتَّسم الجدل الدائر حول اندماج المهاجرين بكونه مشحون عاطفيًا. وبالرغم من هذا لا تجد المشاعر مكانًا لها في حلقات الحوار. فهذا الأسلوب لا يؤدي إلا إلى اغتراب الأطراف عن بعضها البعض. وإذا أراد الألمان القبول بالوافدين إليهم فلا بدَّ لهم من أنْ يتحدثوا عن أنفسهم بشكلٍ منفتحٍ ونقدي.

تاريخ الآخرين في محط الأنظار

وهذا بدوره ليس حدثًا مفرحًا دائمًا، بل صيرورةٌ موجعةٌ أيضًا. وبالمقابل، لا يمكن لمن يريد العيش في ألمانيا بشكلٍ دائمٍ ولمن يريد الانضمام إلى المجتمع، إلا أنَّ يضع تاريخ الآخرين محطَّ أنظاره. والمهم في هذا هو التعاطف ومعرفة الآخر. ولا يتعلق الأمر هنا كثيرًا بالتدريس التقليدي للتاريخ بقدر ما يتعلق بتبادلٍ للتجارب يتخطى حدود الثقافة الخاصة. يهدف التأريخ غالبًا إلى تشكيل الهوية الوطنية، ومع أنَّ علوم التاريخ الحديثة ابتعدت عن هذا المنحى، إلا أنها ما زالت تتهيب من الإقدام على الإدراك المقارِن عامةً. لذا نحن بحاجة إلى علوم تاريخٍ مقارِن بشكل يشابه علوم الأدب المقارِن.

ومن الممكن أيضًا في هذا السياق أنْ تستكمل نصوصٌ أدبيةٌ ذات دلالاتٍ تتضمنها سيرها الذاتية إدراكًا للماضي يخلو من العواطف وبالتالي التمكين من النظر من مناظير جديدة. يحفل القرن العشرين تحديدًا بتجاربٍ مشتركةٍ بين الأوروبيين، وبين الألمان والأتراك، تتمثّل في القتل الجماعي والتهجير والتجاوزات والاعتداءات الوحشية على خلفيةٍ قومية.

عُزلة بمعية التاريخ الخاص

هناك أيضًا لحظات لا يمكن تقاسمها، لحظات من العُزلة المطلقة بمعية التاريخ الخاص. هنا يصل الاندماج إلى حدودٍ مسدودةٍ. فهذه الحدود لا تَرتسم بين أممٍ أو ثقافاتٍ أو أديانٍ، بل تتحدد من خلال منشأ الإنسان وسيرته الذاتية و شَجَرَة نسَبه. أما مسارها فقابلٌ للتغيير. حقًا يبقى الجدّ والجدّة جدًّا وجدّةً، لكن عندما يهاجر الأحفاد ينظرون بشكلٍ آخر إلى الأجيال السابقة، فتنشأ نظرةٌ جديدةٌ، والتجارب المتراكمة والمخزَّنة في تاريخ العائلة تغدو متعددة اللغات ومتعددة المعاني. وهذا يزعزع ويقلق كل من يفضِّل بوتقة وتحزيم السِّير الذاتية الفردية في هوياتٍ جماعيةٍ.

هناك ما يربط بين الألمان والأتراك، فكلا الشعبين ينحدر من حضارات كبيرة مختلطة تم تقويضها عنوة في القرن العشرين. إنها خلفية مريرة من التجارب يمكن الاشتراك في دراستها ونقاشها. وبهذه الطريقة يمكن تحديد الاختلافات والتشابهات بشكل أدق، وبالتالي يمكن إخراجها من حيّز الأحكام المبهمة والأحكام المسبقة.

لا ينبغي أنْ يقتصر الحديث على طاولات سياسة الاندماج الألمانية على الأتراك فقط أو على الإسلام وما إلى ذلك مما يعتبره الألماني العادي غريبًا عنه، بل ينبغي أنْ يتناول الحديث أيضًا ما يعتبره الألماني خاصًا به، مثل تاريخه الخاص وتحولات هويته الذاتية. لا يكمن في هذا التغيير تَوْقٌ للحصول على القبول والاعتراف وحسب، بل يكمن أيضًا قلقٌ تجاه مستقبلٍ لن تكون الأمور فيه كما هي عليه اليوم؛ وآمل هنا أنْ لا تكون الكثير من الأمور كما كانت عليه البارحة.

ظافر سينوجاك
ترجمة: يوسف حجازي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2010

يعيش الكاتب ظافر سينوجاك في برلين، وقد صدر له مؤخرًا بالألمانية عن دار بابل للنشر "بلد خلف الحروف. ألمانيا والإسلام في خضم التغيير" وكذلك ديوان الشعر "تحوّل وانتقال".

قنطرة

جدل حول اندماج المسلمين في ألمانيا:
احتراما للآخر ولقيم الديمقراطية
في ضوء النقاش الحاد في ألمانيا حول اندماج المسلمين في المجتمع يرى الأمين العام للمجلس المركزي لليهود في ألمانيا شتيفان كرامر في تعليقه الآتي أنه من الضروري العمل على التعريف بالإسلام والمسلمين في ألمانيا وتعزيز التربية القائمة على التسامح والاحترام المتبادل بين أطياف المجتمع الألماني الديمقراطي.

حوار مع وزير الداخلي الألماني شويبله حول "مؤتمر الإسلام":
"هدفي هو المساواة بين الإسلام والديانات الأخرى في ألمانيا"
يرى وزير الداخلية الألماني، فولفغانغ شويبله، أن "مؤتمر الإسلام" قد قطع شوطا كبيرا في تحقيق أهدافه، لاسيما في إطار تقبل الآخر والأحكام المسبقة وأن هدفه يتجلى في المساواة بين الإسلام والديانات الأخرى في ألمانيا. في حوار مع سابينا ام أرده وأولرش شولته يتحدث الوزير الألماني عن "مؤتمر الإسلام" والحوار مع المسلمين ومخاوف الألمان من الإسلام وغير ذلك من الموضوعات.

"من الذي يخشى من الإسلام؟"- نقاش بين كيليك وطارق رمضان:
مسلم أقل إسلاما ليكون أوروبيا أفضل؟
هل يشكِّل الإسلام جزءًا من الواقع الأوروبي أم تهديدًا قادمًا من الشرق؟ يدور في أوروبا منذ أعوام جدال ساخن حول تحديد مكان الإسلام في الحياة العامة، حيث عقد مؤخرا في برلين مؤتمر جمع شخصين يعتبران من أكثر الشخصيات جرأة في هذا الجدال - عالمة الاجتماع التركية الألمانية، نجلا كيليك والباحث السويسري المختص بالعلوم الإسلامية، طارق رمضان. سارة ميرش حضرت المؤتمر وتطلعنا على أهم النقاشات التي دارت فيه.