ضرورة التسامح والتعايش بين الثقافات

أدى مقتل المخرج الهولندي تيو فان غوخ على يد أحد المسلمين المغاربة إلى جدال حاد في هولندا عن ثقافة التسامح وحدودها تنعكس في كتابين صدرا حديثا. إليا براون رصد بعض جوانب هذا النقاش.

أيان هرسي علي، الصورة: أ ب
جعلت النائبة البرلمانية أيان هرسي علي، التي تعتبر نفسها علمانية، الكفاح من أجل حقوق النساء المسلمات شعارًا لها.

​​

لم يكن من الممكن أن تكون الصدمة التي تسبب بها اغتيال المخرج السينمائي تيو فان غوخ في عام 2004 في وطنه هولندا، أكثر هولاً. ومنذ ذلك الحين لا يوجد تقريبًا اسم له مثل هذا الوقع الشديد لدى الرأي العام كاسم أيان هرسي علي.

كتبت أيان هرسي علي، المولودة في الصومال والتي هاجرت إلى هولندا هربًا من زواج إجباري، سيناريو فيلم فان غوخ "الاستسلام". وقد كان التهديد بالقتل موجهًا إليها، هذا التهديد الذي نفذه محمد ب. في صدر ضحيته بسكين. والآن صدرت عن دار نشر بيبَر الألمانية ترجمة لكتابها، الذي جاء بصيغة مقالات ورسائل وتحقيقات صحفية، ليطلع القراء على مواقف أيان هرسي علي السياسية.

لقد جعلت النائبة البرلمانية عن حزب الأحرار الهولندي، التي تعتبر نفسها علمانية، الكفاح من أجل حقوق النساء المسلمات شعارًا لها. وفي ذلك تحتل حسب رأي هرسي علي الآداب الجنسية الرجعية مكان الصدارة في الإسلام. حيث يتحتم على النساء المسلمات أن يبقين عذراوات إلى حين زواجهن، وذلك لكي لا يتسببن بفضيحة لعائلاتهن.

ومن أجل ضمان ذلك، كثيرًا ما يتم سجن الفتيات في البيوت، في "قفص العذرية". وكثيرًا ما يقوم المهاجرون في العطل الصيفية بنقل بناتهم صغيرات السن من هولندا إلى أوطانهن، حيث تجرى لهن عمليات الختن، وذلك بسبب منع تشويه الأعضاء الجنسية في هولندا. تذكر هرسي علي أن الأزواج يؤدبون نساءهم الخارجات على الطاعة بالضرب، ما يمكن تعليله بالقرآن.

قرار الفرار من البيت

تصل هرسي علي إلى نتيجة مفادها، أن الإسلام في جملته ديانة رجعية سلفية، وأن كل امرأة تفعل خيرًا في خروجها عن هذا الدين. ثم تقدم المؤلفة بطريقة عملية بالإضافة إلى ذلك بعض النصائح، مثل ما الذي يجب عليك، "ياعزيزتي المسلمة"، مراعاته حينما تكوني اتخذتي قرار الفرار من البيت.

تحوّلت أيان هرسي علي المولودة في عام 1969 إلى الخبيرة الأولى بالإسلام في وسائل الإعلام الهولندية، وذلك منذ التهديدات التي وجّهت إليها بالقتل. وهي تتمتع بالميّزات المناسبة: فهي لم تأت إلى هولندا كمهاجرة فقط، إنما هي ضحية لعملية ختان شوّهت عضوها التناسلي أيضًا.

يمكن أن يسأل سائل، من سيكون مناسبًا أكثر للدفاع عن النساء المسلمات المضطهدات في هولندا؟ في المجتمع الهولندي المعاصر، الذي يحرص كثيرًا على تقدمه، لا يميل الهولنديون إلى مثل هذه المطامع.

فإذا قالت أيان هرسي على إن النقص في تحرر النساء المسلمات هو نتيجة مباشرة لرجعية وسلفية الإسلام، لتلك "الثقافة التي يزيد عمرها عن مئات السنين والتي لا تعرف التفكير المستقل"، فحينئذ تصح كذلك صورة العداء الموجودة لدى الهولنديين عن الإسلام.

جمهور غربي

وجمهور هرسي علي هو بلا شك في الدرجة الأولى من السكان الهولنديين الأصليين. تمامًا مثلما يمكن أن يتفق الجميع على أن التحرر أحد القيم الأساسية، كذلك من الممكن أن تتوحد الآراء بسرعة على أن الإسلام ديانة لا يمكن إصلاحها إنما يمكن الخروج عنها فقط.

لم يعبأ الرأي العام الهولندي كثيرًا لحقيقة وجود نساء طالبن بالإصلاح في الإسلام قبل أيان هرسي علي، مثلما لم يعبأ لحقيقة مفادها أنه يوجد أسباب اقتصادية تكمن خلف التخلف الاجتماعي وأنه لا يمكن على الإطلاق تفسير هذا التخلف من خلال الدين وحده.

ومع أن تخطي قضايا التخلف يبدو ضروريًا - وذلك من خلال نصيحة أيان هرسي علي التي تقدمها لذوات الشأن، بأن يخرجن تمامًا عن دينهن ويتكيفن مع الظروف الهولندية التي تجدها متطورة، إلاّ أنها تعمل على إدخال الطمأنينة لقلوب من يحتاجوا هذه الطمأنينة من الهولنديين المرتبكين، وكأنها تساهم في تضييق الهوّة ما بين المهاجرين والسكان الأصليين.

إمتحان النوايا

وبعد فقد تسببت بدهشة حتى لدى زملائها المحافظين، وذلك من خلال بعض الاقتراحات ذات النوايا الطيبة التي أرادت بها حل هذه الأزمة بين الثقافات. أما موضوع ضرورة خضوع المسلمين لامتحان للنوايا عندما يتقدمون بطلبات، فهو تمامًا أحد إمكانيات الإصلاح التي لم تنفذ حتى الآن - مثل فكرة إغلاق المدارس الإسلامية أو فكرة إدراج قضايا القتل من أجل الشرف تحت قانون مكافحة الإرهاب.

وبلا ريب ثمة معيار آخر وهو المخرج المغدور تيو فان غوخ، الذي كان عمله تسلية الجمهور، والذي كان يحب أن يصف المسلمين بصفة "ناكحي أغنام". وباسم حرية الرأي كان يتحتم على المسلمين أن يقبلوا بهذا الوصف راضين أو كارهين.

يُذكِّر بذلك مؤلف الكتب المدرسية الهولندي غيرت ماك، في كتابه "مئوية أبي" الصادر في مجلد رقيق عن دار أوروبا، والذي من المفترض أن يصدر في الخريف مترجمًا إلى الألمانية. يظهر ماك في كتابه هذا قلقًا جدًا بسبب النقاش العلني، الذي بدأ في هولندا بعد قتل تيو فان غوخ.

يوضح ماك في كتابه أنه كثيرًا ما تناول النقاش موضوع ختن النساء، وكأنه يتعلق بتقليد إسلامي، وباستمرار يتم التلويح إلى أن الاعتدءات الانتحارية هي جزء مكمّل من التراث الاسلامي. وطبع الخطاب الجماهيري بطابع إيديولوجي يجعل ماك يحمل مثل هذه الهموم، إلى درجة أنه استند في كتابه هذا إلى كتاب فيكتور كليمبرَر "لغة الإمبراطورية الجرمانية الثالثة" ، في وصفه هذه العقائدية.

ضرورة التعايش

كما أنه يحذّر بإلحاح من اليمينيين الذين يحظون بشعبية، والذي سجلوا في الفترة الأخيرة في هولندا تزايدا شديدا في الميول إليهم. وبما أن اعتماد الأوروبيين على المهاجرين سيزداد في المستقبل، فإنه من المحتم عليهم - حسب رأي ماك - أن يفكروا، كيف يمكن أن يكون شكل التعايش مع هؤلاء المهاجرين؛ تعايش لا يقوم فقط على أن يتجنب بعضهم بعضًا.

يدل هذان الكتابان على بدء نقاش بين الثقافات في هولندا - وعلى الرغم من أن هذا النقاش جاء متأخرًا إلاّ أنه حسن. يوجد في المدن الهولندية الكبرى منذ عهد طويل مدارس تعرف باسم "المدارس السوداء"، لم يعد التلاميذ يستخدمون في باحاتها اللغة الهولندية. ومنذ فترة طويلة أصبحت عبارة "المغاربة السيئون الغشاشون" تطلق بين السكان الأصليين على عصابات الشباب، ممن لديهم قابلية لاستخدام العنف.

هناك حقوق وواجبات لكل أقلية في هولندا طبقًا للمفاهيم الهولندية البديهية؛ فمن حق كل أقلية في هولندا أن تتمتع بتسامح الأكثرية معها، وكذلك من واجب الأقلية في عين الوقت، أن ترى كيف تدير شؤونها بنفسها. لكن من الواضح أن هذه المفاهيم البديهية قد بلغت حدودها. يبقى أن ننتظر، كيف ستتحول الأمور.

بقلم إليا براون
حقوق الطبع قنطرة 2005 ©
ترجمة رائد الباش

قنطرة

اغتيال فان غوخ كارثة حقيقية للمسلمين في هولندا
لو تم توفير فرص للشباب العربي المسلم للذهاب إلى السينما وإلى الثقافة والفن وإلى التسامح والحوار لما ذهب إلى أماكن أخرى يمكن أن يتخرج منها قاتلا: حوار مع خالد شوكات مدير مهرجان الفيلم العربي ونائب في بلدية روتردام.