بداية لتعامل جدي مع التاريخ

قبل خمسين عاما اخترقت شارع الاستقلال في اسطنبول حشود هائجة مسلحة مدمرة وناهبة لمحلات اليونانيين. لأول مرة يتم تنظيم معرض في هذا الشارع بالذات يلقي الضوء على الأحداث آنذاك ويعرض صورا لضحايا الماضي. تقرير كريستيانه شلوتسر

شارع الاستقلال في اسطنبول، الصورة: د ب أ
من الظاهر أن تركيا بدأت تلقي نظرة إلى الوراء وتسعى إلى التعامل مع الفقرات المؤلمة من تاريخها.

​​قبل خمسين عاما اخترقت شارع الاستقلال في اسطنبول حشود هائجة مسلحة مدمرة وناهبة لمحلات كافة اليونانيين. لأول مرة يتم تنظيم معرض في هذا الشارع بالذات يلقي الضوء على الأحداث آنذاك ويعرض صورا لضحايا الماضي. تقرير كريستيانه شلوتسر

شارع الاستقلال هو قلب اسطنبول النابض، ففيه محلات التسوق وأماكن التسكع يحيط بها عدد لا يحصى من الأزقة ومئات من الحانات والمطاعم. هنا يجد الشباب مرتعهم في كل مساء. أما في هذه الأيام فإنهم يرون لافتات كبيرة منصوبة على هذا الشارع المتسم برونق فاخر تظهر عليه معالم الخراب والتدمير.

هذه الصور تعلن عن معرض يذكّر بأدكن ليلة مر بها شارع الاستقلال المسمى في السابق "غران رو دي بيرا". فقبل 50 عاما وتحديدا في الليلة الواقعة من السادس إلى السابع من سبتمبر/أيلول 1955 اخترقت شارع الاستقلال حشود هائجة مائجة مسلحة بالفؤوس والديناميت مدمرة وناهبة لمحلات كافة اليونانيين.

وقد دمرت حشود الغوغائيين في كامل أنحاء اسطنبول وفي كل الأحياء التي تواجد فيها اليونانيون أكثر من 4000 محل تابع لهم و 70 كنيسة و30 مدرسة. وتعرض القساوسة للضرب وحتى المقابر لم تنج من شر هؤلاء الناس.

صعوبات في التعامل مع الماضي

كانت تلك الليلة ليلة عار لتركيا، وبعد انقضاء نصف قرن على وقوعها أظهرت الصور المنصوبة في شارع الاستقلال والتي لم ترها اسطنبول حتى الآن وقائع تلك الليلة. بعض هذه الصور تظهر نساء يرتدين تنورات متموجة من طراز الخمسينيات يضربن بعصي يحملنها واجهات المحلات. بعض هذه الصور مصدرها أوساط المخابرات وبعضها كان قد صودر من صحافيين أجانب على الحدود.

وقد جمع قاض عسكري تلك الصور لمقاضاة المتورطين في محاكمة كان من المقرر إجراؤها في عام 1956، إلا أن ذلك لم يحدث. لم يسمح لهذا القاضي الجريء المسمى فخري جوكر بإصدار حكم ضد المتورطين ولكنه احتفظ بالصور البالغة 250 صورة وبعدد كبير آخر من الوثائق طيلة 40 عاما ثم سلّمها بعد ذلك لمؤسسة تاريخية أهلية في مدينة اسطنبول مشترطا عليها عدم نشر الصور والوثائق طالما كان ما زال على قيد الحياة.

وقد توفى جوكر عام 2002. كانت هذه المجموعة من الوثائق في حكم المنسية تقريبا إلى أن اكتشفتها المؤرخة التركية ديليك غوفين. وبعد أن أتمت دراستها في ألمانيا دهشت لكون بلدها يكاد أن يكون عازفا عن التعامل مع وقائع ماضيه ثم بدأت تبحث في وقائع السادس من سبتمبر/أيلول. ولولا روح التصميم والإصرار لدى باحثة الدكتوراه هذه لما دخل هذا المعرض إلى حيز الوجود.

حملات صحفية لتسميم الجو

وقد حمّل رئيس الحكومة حينذاك، عدنان مندريس، 1955 الشيوعيين على الفور مسؤولية القيام بتلك الأحداث مستخدما الشعار التالي "القوا القبض على المشكوك بأمرهم في العادة". وقد مثل مندريس نفسه أمام القضاء عام 1960 بعد وقوع انقلاب عسكري.

وقد أمر الجنرالات بالبحث في مجريات عام 1955 الداكن سعيا لإعطاء حكمهم طابعا ديموقراطيا. واتضح من مجرى تلك المحاكمة بأن الحزب الحاكم نفسه أي الحزب الديموقراطي هو الذي وقف وراء أعمال عصابات العنف حيث نظم ذلك ورتب نقل أفرادها بالقطارات والسفن إلى المدينة. وتم الإعداد لذلك من خلال ترتيب حملات صحافية عنصرية أدت إلى تسميم الجو في صفوف الرأي العام.

شارع الاستقلال في اسطنبول، الصورة: د ب أ
شارع الاستقلال اليوم، مركز التسوق والتسكع في اسطنبول.

​​لم تكن هذه المرة الأولى التي استهدفت فيها الأقليات في تركيا. فتقريبا منذ تأسيس الجمهورية تحت ريادة مصطفي كامل أتاتورك عام 1923 وتركيا ينتابها الإحساس المرضي بكون أقلياتها ولا سيما اليونانيون والأرمن منهم يزمعون التآمر عليها سوية مع أعدائها. وقد درجت السياسة التركية على توظيف هذه المخاوف التي غذّاها انهيار الإمبراطورية العثمانية.

هذه الخلفية تعطي تفسيرا معقولا للعمل الهمجي الذي جرى ترتيبه من قبل الحكومة التركية حينذاك. فبعد الهجوم الذي استهدف بيت مولد أتاتورك في تيسالونكي أمكن على نحو ناجح تعبئة مشاعر الغضب عشية الأحداث التي وقعت في السادس من سبتمبر/أيلول. ومع أن مدبري تلك العملية لم يوزعوا السلاح على الجماهير إلا أن عدد القتلى بلغ 30 شخصا كما جرح واغتصب مئات من النساء والرجال.

الاستفادة من الاضطرابات

أراد مندريس من خلال أعمال العنف المدبّرة أن يصرف الاهتمام عن فشل سياسته الاقتصادية الليبرالية. كما أنه أعلن في السابع من سبتمبر/أيلول عن فرض الأحكام العرفية في البلاد. لكن هذا وحده لا يعطي تفسيرا كافيا لما سماه الكاتب وشاهد العيان عزيز نسين "ليلة بارتولوميوس التركية الداكنة".

وقد دوّن دبلوماسي بريطاني في مذكرة له في سبتمبر/أيلول 1954 "سوف نستفيد من وقوع ولو قلة من الاضطرابات في أنقرة". وكانت الدولة الاستعمارية بريطانيا العظمى قد عانت في ذلك الحين في قبرص الأمرّين من عمليات المقاومة اليونانية "ايوكا".

لهذا فقد رغبت لندن قيام أنقرة بممارسة سياسة ناشطة تخفف حدة الضغط الواقع عليها. لكن وزير الخارجية التركي فؤاد كوبرولو لم يشأ التجاوب مع ذلك بحجة أن قبرص لا تقع ضمن الأجندة التركية المطروحة.

وقد أقيل رجل احتواء التوترات كوبرولو الذي أدلى بشهادته في المحكمة ضد مندريس عام 1960 في أواخر شهر يوليو/تموز 1955 ليحل محله السياسي المتشدد فاتن روستو زورلو. وقد نال هذا السياسي دعم الاتحاد القومي "قبرص تركية" الذي استقطب الجماعات المسؤولة عن أعمال العنف في اسطنبول.

الليلة الداكنة منسية في اليونان أيضا

ابتداء من ذلك أصبحت الأقلية اليونانية التي ظلت باقية على ضفاف الفوسفور منذ العهد البيزنطي بمثابة رهينة لنزاع قبرص الذي ما زال معلقا حتى هذا اليوم. وقد غادرت أغلبية سكان اسطنبول اليونانيين البالغ عددهم حينذاك 100000 نسمة المدينة عام 1964 بعد استفحال هذا النزاع مجددا.

واليوم عاد العلم اليوناني يرفرف من جديد على مبنى فاخر واقع في شارع الاستقلال. هذا المبنى مقر للقنصلية اليونانية التي يعكس وجودها في المدينة أهمية رمزية عظيمة. وقد أصبحت العلاقة اليونانية التركية في هذه الأثناء خالية من التوتر إلا أنها ما زالت ذات سمة دقيقة حرجة.

لم يدر الحديث حول الليلة الداكنة لعام 1955 لمدة طويلة حتى في اليونان نفسها. حيث رغبت أثينا بأن يبقى يونانيون مقيمون في اسطنبول قدر الإمكان. ولا يتعدى اليوم عدد الروم (بناء على تسمية سكان المدينة لليونانيين) المقيمين على ضفاف الفوسفور سوى ألفي شخص.

كانت 90% من محلات شارع الاستقلال ملكا ليونانيين أو أرمن أو يهود. وفي خضم أحداث الليلة الداكنة تم استهداف محلاتهم أيضا. وكانت الدوافع خليطا بين النزعة القومية والإحساس بالحسد حيال أقليات حققت نجاحا في حياتها.

وقد لقي المعرض الكائن في شارع الاستقلال صدى كبيرا في الأوساط الإعلامية التركية. كما أن شبكة سٍي إن إن التركية بثت فيلما محتويا على كامل أوجه الحقيقة لليلة العار. معنى ذلك أن تركيا بدأت تتعامل مع وقائع تاريخها.

كريستيانه شلوتسير
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2005

كريستيانه شلوتسير صحفية ألمانية مقيمة في اسطنبول متخصصة في الشؤون التركية.

قنطرة

الفيلم الوثائقي التركي "غاليبولي"
شاهَد مائة وخمسون ألف متفرج الفيلم في أول أيام عرضه، واحتل الشريط المركز الأول على قائمة الأفلام التركية الأكثر رواجاً لمدة خمسة أسابيع. ويعود هذا في آخر الأمر لكون "غالبيولي" يعالج أسطورة أكبر إنزال لقوات عسكرية حتى ذلك الحين.

الأرمن والإبادة الجماعية
احتى بعد انقضاء 90 عاما على المذابح، ما زال لمسألة العلاقة بين جمهورية تركيا الفتية والأرمن وقع تلاطم الأمواج الهائجة. إلا أن هناك اهتماما متزايدا بأبحاث المؤرخين الساعين إلى دراسة هذه القضية في سياقها التاريخي الحقيقي.

الأفلية اليهودية في اسطنبول
يعيش اليوم في تركيا إثنان وعشرون ألف يهودي، أكثر من إي بلد إسلامي آخر. ومنذ الاعتداءات على معبدين قبل عام تقريبا، يجاهد اليهود الأتراك من أجل استعادة الحياة الطبيعية ويحلمون بانضمام بلدهم إلى الاتحاد الأوروبي.