قضية مسؤولية

الاستقرار هو المعيار الذي ينبغي أن يحدد السياسة العراقية، ولا يحق أن تتحول هذه البلاد إلى حقل تجارب لسياسات الشرق الأوسط. هذا هو ما يطرحه المقال التالي للبلحث الألماني فولكر بريتس.

المصدر أ.ب.
جنود أمريكيون في الفلوجة

​​الاستقرار هو المعيار الذي ينبغي أن يحدد السياسة العراقية، ولا يحق أن تتحول هذه البلاد لا إلى موضوع معالجة نفسية أطلسية ولا إلى حقل تجارب لسياسات الشرق الأوسط. هذا هو ما يطرحه المقال التالي للباحث الألماني فولكر بريتس.

العراق الآن

ثلاثة مظاهر هي التي تحدد مميزات الوضع الحالي في العراق. أولها: إن القبول الذي تتمتع به سلطة الاحتلال يزداد تقلصا يوما بعد يوم. صحيح أن هناك نموا اقتصاديا ضئيلا وتقدما في تزويد البلاد بالطاقة الكهربائية أو في إعادة بناء هياكل الشرطة، لكن الكثير من العراقيين لا يعتبرون ذلك من إنجازات قوى الاحتلال.وهؤلاء يجدون أنفسهم يواجهون هنا المشاكل نفسها التي عرفتها قوى الاستعمار في ما مضى : كلما ازدادت مواجهتهم لمناهضيهم قوة كلما احتدت شوكة قوى المقاومة.

ثانيا: إن أغلبية العراقيين لا تقف إلى جانب الإسلاميين المتطرفين ولا إلى جانب قوى النظام السابق أو الإرهابيين الأجانب الذين تمكنوا بحكم الفراغ الذي أحدثه سقوط النظام القديم من القدوم إلى البلاد، بل إن العراقيين قد برهنوا، كلما سنحت لهم الفرصة لخوض انتخابات محلية، على تفضيلهم لشخصيات معتدلة مثقفة وعلمانية في أغلب الأحيان لاختيارهم ممثلين لهم.

وليس هناك من داع للاعتقاد بأن مثل هذه الميول لن تفرض نفسها مرة أخرى في انتخابات عامة على المستوى الوطني. ولذلك فإنه ليس هناك ما يدعو لمزيد من التخوف من نتائج مثل هذه الانتخابات إذا ما كتب لها أن تتم، كما هو مبرمج، في نهاية سنة 2004 أو بداية 2005.

المظهر الثالث والأكثر خطورة على الاطلاق هو أن كل العوامل متوفرة في العراق اليوم من أجل اندلاع حرب أهلية : ميليشيات مسلحة، نزاعات سياسية مطبوعة بطابع الطائفية الدينية والافتقار إلى سلطة حكومية ذات شرعية. كل هذه المواصفات لا ينبغي أن تؤدي بالضرورة إلى حرب أهلية، لكن تضافر مثل هذه العوامل قد سبق لها أن أدت إلى اضطرابات في بلدان أخرى.

ما الذي ينبغي القيام به من وجهة نظر أوروبية ؟ على المنظومة الدولية، ووفقا لرزنامة تضبط إنهاء الاحتلال، أن تشرف على تأسيس حكومة شرعية بالعراق بأقصى ما يمكن من السرعة. أما بالنسبة للفترة الانتفالية الفاصلة بين يولية 2004 و تاريخ إجراء انتخابات عامة فإن منظمة الأمم المتحدة ستكون لها شرعية أكبر بكثير من الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها.

وبالتالي فإنه من الأهمية بمكان أن يصدر عن مجلس الأمن الدولي خلال الأسابيع الأولى قرار أممي من أجل وضع الإطار الذي سيتم فيه خلال الستة أو الثمانية أشهر اللاحقة على تاريخ 30 يونيو/حزيران تسليم جزء كبير من السلطة لحكومة عراقية.

وينبغي أن يقع احترام هذا التاريخ، إذا أمكن الأمر، لا لكونه يمثل موعدا زمنيا مثاليا، بل لأن كل الفصائل السياسية العراقية ستكون قد شرعت عمليا في الاستعداد لتحمل مزيد من المسؤوليات في فترة ما بعد تاريخ انتقال السلطة.

دور فعال للأمم المتحدة

لا بد أن يحتوي القرار الأممي الجديد على "مخطط إبراهيمي موسع" يفصل بين المهمات الأمنية ودور مراقبة وتوجيه إعادة البناء السياسي والاقتصادي بالعراق. ويمكن لمندوب أو وكيل أممي -وفقا لمقترحات الإبراهيمي – أن يتولى من بين أعماله مهمة تشكيل حكومة انتقالية ودعوة مؤتمر وطني ودعم الحكومة الانتقالية والإشراف على إعداد الانتخابات الوطنية لسنة 2005.

سيكون مهما أثناء هذا العمل أن تؤدي منظمة الأمم المتحدة عملها بصفة مستقلة ولا أن تظهر بمظهر العنصر التكميلي لسلطة الاحتلال. وسيكون من باب الخطأ الفادح أن يظل ممثل الأمم المتحدة لا يستطيع التنقل إلا تحت حماية المدرعات الأميركية.

ولذلك سيغدو ضروريا تكوين وحدة أمنية أممية صغيرة لكنها فعالة تنحصر مسؤوليتها تحديدا في حماية البعثة الأممية. وستكون هذه القوة الأمنية ذات طابع بوليسي أكثر منه عسكري. ويمكن لبلدان مثل فرنسا وألمانيا الداعيتين إلى دور أممي في العراق أن تبرهن عن استعداداتها تجاه منظمة الأمم المتحدة وكذلك تجاه إرساء الاستقرار في العراق وذلك بانخراطها النشط في هذا العمل.

دور دولي إقليمي مشترك

كما أنه يمكن أن تُمكن المنظومة الدولية من أن تبرهن على انخراطها في عملية إعادة بناء العراق وذلك في إطار مؤتمر دولي للمساعدين تدعو إليه منظمة الأمم المتحدة. وفي الوقت نفسه سيكون من الضروري إشراك البلدان المجاورة للعراق في عملية إعادة البناء.

فبعض البلدان مثل سوريا والسعودية قد ظلت محتفظة بموقف قليل الفعالية لأنها كانت ترى مصالحها مهددة من خلال عراق تسيطر عليه الولايات المتحدة. ولذلك فإنه يبدو من المجدي أن تقع الدعوة إلى تشكيل مجموعة 6+4+1 للتشاور تضم ممثلين عن البلدان الستة المجاورة للعراق والحكومة العراقية ورباعي الشرق الأوسط (الولايات المتحدة ومجموعة الوحدة الأوروبية وروسيا ومنظمة الأمم المتحدة).

ويمكن لهذه المجموعة أن تتحول إلى ملتقى تنسيق بخصوص مسائل ذات مصالح مشتركة مثل الأمن الحدودي والإرهاب والمتاجرة بالأسلحة والمخدرات أو الإجرام المنظم، وتتطور بذلك إلى ديناميكية لمسار إرساء الثقة والأمان.

هناك أيضا ذلك التصور الذي حوله خلاف كبير والذي ينبغي دراسته بصفة جدية؛ ألا وهو إعادة تركيز بعض الوحدات من الجيش العراقي القديم. وقد خطت إدارة الاحتلال خطوة في هذا الاتجاه في الفلوجة وبالنداء الذي توجهت به إلى ضباط الجيش القديم ليلتحقوا بمؤسسة القوات المسلحة الجديدة.

ويحتمل أن تمكن إعادة تجنيد وحدات بأكملها من الحصول بسرعة على عدد كاف من القوى العسكرية العراقية لضمان أمن الحدود، ويكون بإمكانها السهر على رعاية الأمن والنظام في مناطق معينة وبصفة خاصة في ما يدعى بالمثلث السني الذي يبدي سكانه رفضا شديدا لحضورالقوات الأجنبية.

التركيز على إعادة بناء العراق

ينبغي أن تكون هذه الوحدات العسكرية العراقية التي سيتم تأسيسها خاضعة لسلطة وزارة الدفاع العراقية وليس لسلطة القوات العسكرية الأميركية أو قوى التحالف. وبالأخير هناك ثلاث مسائل على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين أن يتخلوا عنها، إذا ما كانوا يريدون فعلا تقديم مساهمة في تركيز الاستقرار وفي إعادة بناء العراق.

أولا: على الولايات المتحدة أن لا تحاول أن تجعل من العراق نمطا نموذجيا، فإعادة البناء ومحاولة تركيز نظام حكومي أفضل تنطوي على ما يكفي من الصعوبات. كما أن مهمة تحويل البلاد إلى نمط نموذجي ستكون مما يتجاوز كثيرا قدرات القوى الفاعلة المحلية.

ثانيا: على الولايات المتحدة أن تتخلى عن فكرة تحويل العراق إلى رأس جسر لمشروع جهوي كبير. إن كل محاولة لجعل العراق معبرا لتعميم الديمقراطية على كامل الشرق الأوسط "الكبير" سيكون استفزازا يدفع بالبلدان المجاورة إلى عرقلة كل مساعي إعادة بناء البلاد وتثبيت الأمن بها.

ثالثا: لا ينبغي أن يستعمل العراق كموضوع لمعالجة نفسانية أطلسية. فالتصدعات الحاصلة بين الولايات المتحدة وأوروبا لا بد من رأبها. ويبقى المعيار الوحيد لما ينبغي القيام به في العراق وتجاه العراق مرتبطا بسؤال ما إذا كانت هذه السياسة التي تروم إلى تركيز الاستقرار وتطوير البلاد تخدم غاية حكم على وعي بالمسؤولية أم لا.

بقلم فولكر بيرتس، باحث قي العلوم السياسية والدراسات الإسلامية، يعمل في مؤسسة العلم والمجتمع في برلين

ترجمة علي مصباح

عن صحيفة دي تاغستسايتونغ البرلينية بتاريخ 10/5/2004