كل الناس سفراء في هذه الأيام

تبدو إبتسامة متعددة المعاني على وجه أنور ابراهيم عندما يذكر أنّه لا يعرف سبب اعتقاد الكثيرين بأنّه يعيش في باريس. فهو يقيم في تونس منذ ولادته. ولكن لهذا الأمر جوانب إيجابية، فهكذا ينجو من التبعات المرهقة لنجاحه، كما يقول. رالف دومبروفسكي التقاه وتحدث معه عن أعماله.

تبدو إبتسامة متعددة المعاني على وجه أنور ابراهيم عندما يذكر أنّه لا يعرف سبب اعتقاد الكثيرين بأنّه يعيش في مدينة باريس. فهو يقيم في تونس منذ ولادته. ولكن لهذا الأمر جوانب إيجابية، فهكذا ينجو من التبعات المرهقة لنجاحه، كما يقول. رالف دومبروفسكي التقاه وتحدث معه عن أعماله.

أنور إبراهيم الصورة: http://www.anouarbrahem.com

​​ابراهيم يحب الخلوة إلى النفس، فهي تكوِّن أحد شروط ابداعه الفني، إذ تحتاج موسيقاه للنفسٍ الطويل حتى تختمر وتنضج. لذا تصمد أنغامه في وجه وساوس الحاضر المتسارع لصالح مقدرة داخلية تلهم الشعور بالقوة والانفتاح.

كل الناس سفراء في هذه الأيام. إنه عصر الخبراء الحقيقيين أو المُدّعين، حيث الفضائيات وشاشات التلفزة تحمل آراءهم إلى حجرات الجلوس في هذا العالم. لا يرضى أنور ابراهيم بهذا الشكل التسطيحي ما بعد الحداثي، لا سيما عندما يعتمد الفن مرجعًا له. يقول ابراهيم: "لا يُلِمُّ أحدٌ بالموسيقى العربية في الغرب"، ويسارع ليضيف: "وبالكاد تجد من يُلِمُّ بها عندنا أيضًا".

الموسيقى نبتة تنمو ببطء

ومن ثم ينتقل ليتحدث عن الصيغ النمطية والآراء المسبقة، وعن الظواهر الكثيرة التي يتم تناولها دون تباين أو تمييز فيما بينها، وعن حقيقة احتياج المرء لحياة بأكملها للتوصل إلى تصورٍ تقريبيٍ عن غنى تراث النغم العربي. تنطوي هذه الرؤية على صورة تصنيفية بالطبع، لكنها ذات مغزى عميق بالنسبة لابراهيم. فالموسيقى بحاجة إلى وقت. هي نبتة نفيسة تنمو ببطء وهو البستاني القادر على رعايتها كي تنمو وتزهر يومًا ما.

يقتضي هذا الرويّة والحكمة. حيث تمر فترات زمنية لا يلمس فيها ابراهم عوده لأسابيع عديدة وأحيانًا لأشهر. فهو بحاجةٍ لهذه الاستراحات كي يستعيد أنفاسه بعد الحفلات الموسيقية الكثيرة التي يقدمها، هذا الموسيقار المتمكن من آلته، المرموق في كل أنحاء العالم.

ترتسم على وجهه تعابير متعددة المعاني من جديد عندما يشرح الأمر: "لا أود أن أُفهم بشكل خاطئ، لكنني أكون سعيدًا عندما لا يتوجب عليَّ الوقوف على خشبة المسرح"، ويؤكد ثانيةً على الملاذ الذي يمنحه إياه الانطواء. وبالمناسبة ليس هناك وصفة تنضج وِفقها تأليفاته الموسيقية. فعلى سبيل المثال وضع ألبوم “Le Pas Du Chat Noir” (2003) بدايةً على البيانو، كانعكاسٍ للفترة الزمنية الكثيفة، المفعمة بالانطباعات الجديدة المؤثرة، خلال الجولة الموسيقية التي قام بها مع "ديف هولاند" عازف الكونترباص و"جون سورمان" عازف الكلارينيت، والتي تبعت نشر البوم “Thimar” (1998).

موسيقيون جدد في كل مشروع جديد

لم يدخل العودُ المشروعَ إلا في مرحلةٍ متأخرةٍ، وكذلك الأكورديون، الذي أضفى على الألبوم لونًا مميزًا. أما في حالة الألبوم “Le Voyage de Sahar” فقد اختار ابراهيم طريقًا مغايرًا ويقول بهذا الصدد: "أميل في الواقع الى اختيار موسيقيين جدد في كل مشروعٍ جديد. عندما ينتهي تسجيل مشروع ما يكون العمل مع هؤلاء الموسيقيين قد انتهى أيضًا.

لذلك كتبت القطع الموسيقية لألبوم“Le Voyage de Sahar” لآلة العود بشكل منفرد في البدء، دون أن يكون لدي تصور دقيق عن القوام الموسيقي النهائي. لكن أثناء التمرين مع فرانسوا وجان لويس وتجريبنا لعزف عدة مؤلفاتٍ جديدةٍ مع بعضنا البعض، تبين لنا أن آلتي البيانو والأكورديون لا يزالان يحتفظان بدورهما المثير في القطع الجديدة. وبالتالي خالفت ما عزمت عليه وذهبنا معًا إلى الاستوديو من جديد".

كان القرار صائبًا. و بإمكان المرء سماع التغييرات الواضحة على البوم“Le Pas Du Chat Noir” التي حصلت بفعل الاشتراك بعددٍ وافرٍ من الحفلات الموسيقية. يتواءم ابراهيم في غضون ذلك مع كلا العازفين فرانسوا كوتورير على الكونترباص وجان لويس ماتينيير على الأكورديون بطريقةٍ تضفي على الموسيقى عفويةً غير معهودة وأناةً ملفوفةً بمسحةٍ من الحزن. بينما يستقي البوم “Le Voyage de Sahar” مزاجه بوضوح أكبر من عوالم الخبرات الفردية للموسيقيين المشترِكين من جهة أخرى.

تلتحم موسيقى جنوب فرنسا الفلكلورية التي يعزفها "ماتينيير"، وحداثة أنغام بيانو "كلود ديبوسي" التي يعزفها "كوتورير" مع نمط الموسيقى العربية الأندلسية وغنى التنويعات في قطع ابراهيم الموسيقية لتنتج مزيجًا من الأنغام المتوسطية، ينجح في استنباط الأثر الشاعري المشترك الراقي، عبر التساوي النديّ للأصوات المشاركة.

هكذا تجمع موسيقى ابراهيم الهدوء والتدفق، التنوع والكثافة، الالتزام بالتقاليد والانفتاح، في نفس الآن. إنها فنٌ يحتذي مثلاً أعلى، لكنها لا تحتاج لتعصبٍ مذهبي، وبذلك تشكل هذه الموسيقى احدى المقاربات الممكنة من مفهوم ابراهيم للتسامح الثقافي.

رالف دومبروفسكي
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2006

قنطرة

عوالم الموسيقى
الموسيقى بوتقة يمتزج فيها الشرق والغرب والشمال والجنوب والحاضر والماضي. في الملف التالي نتناول تأثير السياسة والعولمة على الإبداع الموسيقي كما نقدم تجارب موسيقية من بلاد عربية وإفريقية وأوربية.

www

موقع أنور إبراهيم