روبن هود بيروت: استرداد الحقوق بالسطو على البنوك

 اللبنانية سالي حافظ -على اليسار وهي تغادر قصر العدل في العاصمة اللبنانية بيروت  06 / 10 / 2022- كانت اقتحمت فرع بنك بلوم وأجبرت موظفي البنك على تسليمها 12 ألف دولار من أموالها.
اللبنانية سالي حافظ -على اليسار وهي تغادر قصر العدل في العاصمة اللبنانية بيروت 06 / 10 / 2022- كانت اقتحمت فرع بنك بلوم وأجبرت موظفي البنك على تسليمها 12 ألف دولار من أموالها.

نقص أموال البنوك دفع لبنانيين لاسترداد أموال لهم من البنوك بالتهديد بالسلاح خارج القانون مخاطرين بأنفسهم في سبيل علاج أهلهم فتحولوا إلى أبطال شعبيين. كريم الجوهري التقى بواحدة وواحد منهم لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Karim El-Gawhary

تخيل أنك بحاجة ماسة إلى المال بشكل عاجل. ما من شيء غريب في ذلك. ولكن يصبح الأمر غريباً حين تكون الأموال التي تحتاجها موجودة بالفعل في حسابك الخاص في البنك، ولكن البنك يرفض السماح لك بسحب المبلغ المطلوب: هذا ما يعيشه الناس في لبنان منذ ثلاث سنوات. ومهما كانت كمية الأموال التي يملكونها في البنك -بسبب الأزمة الاقتصادية والمصرفية التي تمرّ بها البلاد- لا يتجاوز الحدُّ الأقصى المسموح بسحبه 400 دولار شهرياً.

إذاً ما الذي يمكن فعله حين يُنقَل أحد أفراد العائلة إلى المستشفى مصاباً بمرض يُهدِّدُ حياته، وهناك فاتورة بقيمة عدة آلاف من الدولارات ينبغي دفعها؟ في محاولة يائسة للحصول على أموالهم الخاصة اتّخذ بعض اللبنانيين إجراءات صارمة وسرقوا البنك المسؤول عن منعهم من الحصول على أموالهم.

هناك شيء مثير في صعود سلالم منزل نموذجي من منازل الطبقة المتوسطة في حي رأس النبع في بيروت في انتظار أن تفتح لك باب المنزل لصة بنك. مظهرها مألوف. نُشِر تسجيلٌ لها وهي تسرق البنك على فيسبوك. ويُظهِرُ التسجيل امرأة شابة حازمة تسير إلى داخل أحد البنوك في بيروت في أيلول/سبتمبر الماضي 2022، وهي تحمل مسدساً.

يُسمع من الداخل صراخ عالٍ. ومن ثم نرى المشهد الأكثر شهرة على الإطلاق: تقف على سطح مكتب، مطلّة على موظفي البنك وعملائه، والمسدسُ في حزامها. الأمر أشبه بـ (فيلم هوليوود أمريكي) عن ثيلما ولويز.

تنتظرك المفاجأة حين تفتح سالي حافظ الباب. ليست إجرامية أبداً، وليست مثل هوليوود على الإطلاق. تبتسم سالي، تبدو غير رسمية في بنطالها الجينز وقميصها المخطط بالأزرق وبالأبيض. إنّها صغيرة الحجم نسبياً. كانت تبدو أطول بكثير وهي تقف على سطح المكتب في المصرف ومعها مسدّسها، الذي تبين فيما بعد أنه مسدس لعبة لابن أخيها.

يجلس والدها وعمتها على الأريكة بملابس غير رسمية. لا تزال سالي التي تبلغ الـ 28 عاماً من العمر تعيش في منزل والديها. هناك شيء يُشبه المتحف في هذا المنزل. توجد مكواة عتيقة معروضة على الرف؛ كما تقف زرافة خشبية كبيرة منحوتة بجوار الطاولة المنخفضة التي تُقدَّمُ عليها القهوة العربية.

 

"كان عليَّ اتخاذ قرار، بسرعة"

 

تقول سالي في بداية مقابلتها مع موقع قنطرة: "أنا لا أقبل بأنصاف الحلول. عندما أعالج أمراً ما، ينبغي أن ينجح". وعلى هاتفها المحمول، تُظهر سبب سطوها على البنك: صورة لأختها المصابة بالسرطان. امرأة شابة ترقد على سرير المستشفى وقد تساقط نصف شعرها. تحتضنها ابنتها. صورة تعبّرُ عن الإرهاق التام، قبل النهاية مباشرة.

 

لبنان - سالي حافظ كانت مصمّمة على أن تحصل شقيقتها على العلاج الذي تحتاجه. Sally Hafez im Gespräch mit Karim El-Gawhary in Beirut. (Foto: Karim El-Gawhary)
كانت سالي مصمّمة على أن تحصل شقيقتها على العلاج الذي تحتاجه: "كنت عاجزة، أشعر بالانكسار والهزيمة، اجتمعت كل هذه الأشياء معاً وجعلتني أشعر أنّه ليس لدي ما أخسره" اعترفت سالي. عزز ذلك إصرارها. "لم يكن هناك وقت لإضاعته من أجل نجاة أختي. لم يكن الفشل خياراً. كنت سأحصل على المال، مهما كان الأمر. لذلك ذهبت إلى البنك".

 

ولإنقاذ حياة أختها، تحتاج سالي إلى المال. في الواقع كان لدى العائلة ما يكفي من المال في حسابها في "بلوم بنك". تتذكّر سالي: "لم أذهب إلى البنك لمرة واحدة فحسب، بل عشرات المرات. وكانوا يقولون لي دائماً إنّه ليس بإمكانهم إعطائي المال". وتقول إنّ المشكلة لم تكن في الحصول على العلاج لأختها. تقول بغضب واضح: "لا توجد دولة فاعلة في لبنان من أجل حمايتي. تحكمنا مافيا نقلت أموالنا إلى الخارج".

في الواقع قبل عام 2019 كانت البنوك اللبنانية قد أعلنت عن أسعار فائدة مرتفعة على الدولار. ولكن في مرحلة ما لم يكن هناك أي أموال جديدة قادمة. انهار مخطط بونزي. إضافة إلى ذلك أقرضت البنوك الدولةَ اللبنانية أموالاً كثيرة اختفت في قنوات الفساد ولم تُسدِّد قَطُّ. باختصار: اختفى جزء كبير من الدولارات. ولهذا السبب لا يُسمح للأشخاص في هذه الأيام إلا بسحب بضع مئات من الدولارات. لقد اختفت المدخرات.

لخّصت سالي الأمر قائلة: "كنت عاجزة، أشعر بالانكسار وبالهزيمة، واجتمعت كل هذه الأشياء سوية لتجعلني أشعر أنه ليس لدي ما أخسره". وزاد ذلك من إصرارها. "لم يكن هناك أي وقت نضيعه من أجل نجاة أختي. لم يكن الفشل خياراً. كنت سأحصل على المال، مهما كانت الطريقة. ولذلك ذهبت إلى البنك". ففي نهاية المطاف -كما قالت- نجح لبنانيون آخرون قبلها في سرقة البنوك للحصول على أموالهم الخاصة.

"روبن هود لبنان"

وهذا ما يقودنا إلى الرجل الذي يسمونه روبن هود لبنان. ابتكر بسام الشيخ حسين عملياً طريقة استرجاع الأموال تحت تهديد السلاح من المؤسسات المالية اللبنانية. يعيش في واحدة من أفقر ضواحي جنوب بيروت. ومن سطح منزله -حيث التقينا- يمكن رؤية البحر، لكن لا يمكن سماعه. يُغطي الصوت القادم من مدرج مطار بيروت القريب على كل شيء.

يبدو بسام أكثر جرأة من سالي، بلحيته الرمادية السوداء وشعره المربوط على شكل ذيل حصان. يوجد مخلب موشوم على أحد ذراعيه العضليتين. تبدو قسوة الحياة ظاهرة على وجه الرجل الذي يبلغ 42 عاماً من العمر.

يروي لموقع قنطرة: "نظّفتُ بندقيتي وحصلت على علبة بنزين. كان علي أن أظهر أنني جاد. بكل الأحوال لا يمكن سرقة بنك بكوب من البنزين. كنت سأشعل النار في الجميع أيضاً: ففي نهاية المطاف يتعلّق الأمرُ بحقوقي".

تشبه خلفية جريمته خلفية جريمة سالي. إذ احتاج بسام إلى دفع فواتير المستشفى كذلك، ولكن هذه المرة لوالده. وقبل ذلك، كان دكانه الصغير قد أفلس.

إذْ كانت عليه ديون متراكمة لم يتمكن من سدادها، على الرغم من حقيقة أنّه يملك 210 ألف دولار مودعة في البنك. وهي نتاج سنوات من التوفير من العمل في أستراليا وعائدات بيع منزل.

ذهب بسام إلى بنكه في شارع الحمراء في بيروت الغربية عشرات المرات متوسِّلاً مدير الفرع أن يدفع له أمواله الخاصة. في النهاية لم يوافق الموظفون حتى على الحدّ الأقصى للسحب الذي يبلغ 400 دولار شهرياً. وقالوا -بكل بساطة- إنّ البنك ليس لديه أي دولارات.

وفي تلك اللحظة نفد صبر بسام. عندها خطّط للسرقة.

في الساعة التاسعة صباحاً في 11 آب/أغسطس 2022، ركن سيارته أمام البنك، ترك بندقيته وعلبة البنزين في السيارة وتوجّه إلى الداخل؛ وكانت هذه هي الفرصة الأخيرة للبنك لحلّ الموضوع سلمياً، إن جاز التعبير.

بسام الشيخ حسين ابتكر عملياً طريقة استرجاع الأموال تحت تهديد السلاح من المؤسسات المالية اللبنانية.  Bassam Al-Sheich Hussein im Gespräch mit Karim El-Gawhary. (Foto: Karim El-Gawhary)
سحب نقدي تحت تهديد السلاح: خلفية جريمة بسام كانت مشابهة لجريمة سالي. إذ احتاج أيضاً المال من أجل دفع فواتير المستشفى، لكن لوالده هذه المرة. وقبل ذلك كان دكانه الصغير قد أفلس. تراكمت عليه ديون لم يتمكن من تسديدها. وكل هذا على الرغم من حقيقة أنه يملك 210 ألف دولار في البنك. بعد سنوات من التوفير من العمل في أستراليا وعائدات بيع منزل.

ومرة أخرى تجاهله مدير الفرع. لقد سبق وأوضح لبسام أنه لا ينبغي أن يأتي، وبأنهم سيتصلون به حين يكون لديهم أموال له.

عاد بسام إلى سيارته لإحضار ما يحتاجه لتنفيذ السرقة. وتُظهِره كاميرا المراقبة يقتحم البنك صارخاً: "أعيدوا لي أموالي أيها الأوغاد".

وصف بسام الحادثة بوضوح: "أغلقت باب البنك بقوة. بدأ الجميع بالصراخ حين شاهدوا بندقيتي وعلبة البنزين. صرخت: "لا أحد يتحرك!" وسكبت البنزين على طاولة البنك وأجهزة الكمبيوتر وموظفي البنك. اقتربت من مدير الفرع، الذي لطالما رفض أن يدفع لي أموالي، ووجهت بندقيتي نحوه وطالبته بفتح الخزنة".

تلا ذلك سبع ساعات من المفاوضات، تحصّن خلالها بسام في البنك مع رهائنه. يقول: "عرضوا عليَّ في البداية 400 دولار. قلت لهم: هل تعتقدون أنني غبي، وأنني أقوم بكل هذا من أجل 400 دولار؟ قلت إنني أريد مبلغ 210 ألف دولار الخاص بي. ووضعت بندقيتي في وجه مدير الفرع".

"أعيدوا لي أموالي أيها الأوغاد!"

تحوّلت الـ 400 دولار إلى 5000. ومن ثم جُلِبت المزيد من الأموال من فروع أخرى. وفي نهاية المطاف، وافق بسام على 35 ألف دولار. وقد دُفِع المبلغ لشقيقه في المنزل قبل أن يطلق بسام سراح الرهائن واحداً تلو الآخر ويسلّم نفسه بعد سبع ساعات. مشى إلى الخارج، يقول: "قلت: انتهى الأمر، وسلّمت بندقيتي لمدير الفرع وفتحت الباب".

يتابع حديثه: "فكّرت، إنها بضع سنوات في السجن. ففي نهاية المطاف، كان معي بندقية، وكان معي بنزين، واحتجزت رهائن، على الرغم من عدم إصابة أحد بأذى. لكنني حصلت على حقي". لم تكن هناك فقط وحدة ضخمة من الشرطة تنتظره في الخارج بل على مسافة أبعد قليلاً، لأن الشارع كانت مغلقاً وغير مرئي من داخل البنك، تجمّعت وسائل الإعلام وحشد كبير من الناس يهتفون له.

لمدة سبع ساعات كان البلد بأكمله يهتف له، بينما كانت محطات التلفزيون اللبنانية تنقل أخبار الهجوم على الهواء مباشرة. كما كانت استجوابات الشرطة اللاحقة ودية. حتى أنّ ضباط الشرطة قالوا -بشكل فاجأ بسام- إنّه لم يأخذ إلا ما يخصّه فحسب. وبسبب الضغط العام لم تُوجّه أي اتّهامات ضده، كما سحب البنك شكواه. وكان الأصدقاء والعائلة قد هدّدوا البنك بإحراق جميع أجهزة الصراف الآلي في جميع الفروع إذا أُدِين بسام.

كانت سرقة سالي للبنك مماثلة. دخلت البنك مع أصدقاء، وتصرفوا كأنهم لا يعرف بعضهم البعض، لكنهم صرخوا بعد ذلك بصوت عالي حين دخلت سالي. أحدهم صوّر الأمر برمته ونشره على فيسبوك. سحبت سالي 14 ألف دولار من حسابها. وأصرّت على أخذ إيصال بالسحب. قالت سالي: "لكيلا أعطي انطباعاً خاطئاً". وعندها فقط أطلق مدير الفرع جهاز الإنذار.

ركضت سالي نحو المخرج، رمت المسدس اللعبة وركضت إلى منزلها، على بعد شارع واحد. وصلت لاهثة إلى شقتها. تسأل: "أي لص بنك يعود مباشرة إلى منزله من مسرح الجريمة؟". وبما أنّ اسمها وعنوانها كانا معروفين لدى البنك، لم يمضِ وقت طويل قبل أن تتجمع وحدة كبيرة من الشرطة في شارعها. الشيء الوحيد الذي كان يدور في رأس سالي، إيصال المال بأمان من أجل أختها.

وما حدث بعد ذلك كان عبارة عن فيلم سينمائي تماماً. نشرت سالي على حسابها على فيسبوك أنها في المطار بالفعل. كتبت: "أراكم في إسطنبول". غادر حينها معظم رجال الشرطة الشارع باتجاه المطار. وضعت سالي نقودها ووسادة تحت ملابسها، وارتدت عباءة سوداء وحجاباً واستدعت سيارة إسعاف.

ومن ثم نزلت راكضة على الدرج وهي تصرخ، وكأنها تعاني من آلام المخاض وعلى وشك الولادة. صرخت في وجه رجال الشرطة: "آمل أن يكون صبياً" وصعدت إلى سيارة الإسعاف. اختبأت في منزل في سهل البقاع على الحدود السورية وتأكّدت من حصول أختها على المال.

 

 

وأكثر ما أذهلها أنه -خلال الأيام القلية التي تلت- أُبلِغ عن 15 عملية سطو على بنك من النمط ذاته. خلال عملية السطو التي قامت بها -والتي صُوِّرت من أجل نشرها على فيسبوك- دعت سالي الناس إلى القيام بالمثل وأخذ ما يخصهم. تتذكر والخوف ما زال واضحاً في صوتها: "دعيت الله ألا يقوم أحد بسرقة بنك لأخذ ما ليس له، وألا يتأذى أحد ما، لا قدّر الله".

بعد 20 يوماً سلَّمت نفسها. ومثل بسام احتُفِي بسالي باعتبارها بطلة شعبية. ضحكت بصوت عالٍ وقالت: "من أغرب ما حدث أنّ قاضي التحقيق سألني إن كان بإمكاني الحصول على أمواله من البنك". لم تُوجَّه أي اتهامات لها. كما تم إيقاف محاكمتها بسبب الضغط العام. وسحب البنك التهم خوفاً من غضب الناس. أُطلِق سراح سالي في اليوم ذاته.

في بعض الأحيان تمرّ أمام البنك الذي تتعامل معه وتُلوِّح للموظفين. في البداية أطلقوا جهاز الإنذار، أما الآن فهم يقفلون الباب فحسب. يضحك حراس الأمن في الداخل ويلوحون لها بطريقة ودية. تقول سالي: "كان من الممكن أن تحدث الكثير من الأخطاء. لا أريد حتى التفكير في ذلك اليوم. بيد أنني تمكنت من الحصول على علاج أختي. ولهذا السبب فقط، لا أندم على أي شيء".

وماذا عن بسام؟ إلى الآن ندمه الوحيد أنه لم يحصل على بقية أمواله. يسأل: "ما هو الأفضل؟ أن تسرق أو أن تسطو على بنك لتحصل على أموالك؟".

 

 

كريم الجوهري

ترجمة: يسرى مرعي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de