مجازفات منح الغرب لنتنياهو شيكًا على بياض

وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكِن مع وزير الخارجية الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكِن مع وزير الخارجية الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

يجازف الغرب حين يمنح نتنياهو حرية مطلقة وهذا ينطبق خصوصًا على عملية إسرائيل العسكرية في غزة. ولا بد من معرفة الحكومات الغربية بذلك. مداخلة الصحفي الألماني شتيفان بوخن في موقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Stefan Buchen

سقط أكثر من ألف مدني إسرائيلي ضحية لتعطُّش حركة حماس الفلسطينية السادي لإراقة الدماء. يجب على الحكومة الألمانية الاتحادية أن تُعرب عن تعاطفها مع أُسر الضحايا وتضامنها مع الشعب الإسرائيلي المكلوم. ويجب عليها أن تدين الأعمال الإرهابية وأن تقدِّم دعمًا ملموسًا لإسرائيل. ويجب عليها أن تؤكِّد على حقِّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وهذا ما فعلته. [أعلنت إسرائيل عن 1400 قتيل في الجانب الإسرائيلي وأعلنت حركة حماس ارتفاع عدد القتلى الفلسطينيين إلى أكثر من 2800  في غزة - إحصائية يوم الإثنين 16 / 10 / 2023 منذ 07 / 10 / 2023].

غير أنَّ حكومة المستشار الألماني أولاف شولتس والسياسة الألمانية كلها وكذلك الدول الغربية الأخرى تتجاوز ذلك بخطوة حاسمة ومن المحتمل أن تكون عواقبها خطيرة. فهم يطلقون يد الحكومة الإسرائيلية القومية اليمينية -بقيادة رئيس الوزراء المثير للجدل بنيامين نتنياهو- ويمنحونها كامل الحرِّية في الحرب ضدَّ قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس والذي انطلقت منه مجموعتها الإرهابية لتنفيذ مذبحتها صباح يوم السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023.

واشنطن وبرلين وعواصم غربية أخرى ترسل إشارة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بأنَّه يستطيع شن الحرب على غزة مثلما يريد وأنَّه لا يحتاج أن يتوقَّع أية انتقادات. وبذلك فإنَّ الحلفاء الغربيين يُشجِّعون بنيامين نتنياهو على عمل غير مُقيَّد بلجام ولا يمكن التنبُّؤ بعواقبه. وهذا الشيك على بياض والتفويض الغربي المطلق -الذي يضع المستشار الألماني أولاف شولتس توقيعه عليه من دون تردُّد- يجب وضعه موضع تساؤل لعدة أسباب.

 

وجهت إسرائيل نداء لسكان شمال قطاع غزة بالتوجه إلى جنوب القطاع  Israel hat die menschen im norden des Gazastreifens aufgerufen richtung sueden zu gehen Foto Getty Images
دعت إسرائيل نحو مليون ومائة ألف شخص في شمال قطاع غزة إلى الانتقال إلى جنوب القطاع بسبب هجومها العسكري البري المنتظر على غزة. وطلبت وكالات الأمم المتحدة من الحكومة الإسرائيلية سحب هذا الطلب. وقالت متحدثة باسم الأمم المتحدة في جنيف: "من الممكن عدا ذلك أن يتحوَّل الوضع الذي بات مأساويًا بالفعل إلى كارثة".

 

لقد كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بكلامه وأيضًا بأفعاله عن نيَّته شن الحرب على حماس من دون قيود ولا لجام ومن دون احترام قوانين الحرب. ويشير الإفراط في قصف المناطق السكنية -وقطع إمدادات الكهرباء والوقود والغذاء والماء- إلى أنَّ جميع سكَّان هذا القطاع الساحلي المعزول -الذين يتجاوز عددهم مليوني نسمة- هم الهدف المحدَّد لهذا الهجوم.

 

غزة - معزولة عن العالم الخارجي

 

دعا بنيامين نتنياهو في أوَّل خطاب له بعد هجوم حماس سكَّان مدينة غزة إلى مغادرتها. وهذا يثير السؤال: إلى أين يا ترى يذهب الناس في هذه المنطقة الأكثر كثافة سكَّانية على وجه الأرض والمعزولة تمامًا عن العالم الخارجي، لا سيما وأنَّ القوات الجوية الإسرائيلية لا تقصف مدينة غزة وحدها بل جميع أنحاء هذه المنطقة الفلسطينية.

وأعقب ذلك بعد بضعة أيَّام مطالبة سكَّان شمال قطاع غزة برمَّته -أي أكثر من مليون شخص- بمغادرة منازلهم. وهذا يدل على تشريد جماعي. وبالاستناد جدليًا إلى ماو، يبدو أنَّ بنيامين نتنياهو ينظر إلى قطاع غزة باعتباره بركة ماء صغيرة يريد تجفيفها من أجل القضاء على الأسماك الموجودة فيها، أي حماس.

لقد أعلن بنيامين نتنياهو حرفيًا أنَّ "ما سنفعله بأعدائنا اليوم سيتردَّد صداه لأجيال قادمة". ووزير دفاعه -يوآف غالانت- تصوَّر في فيديو وهو يأمر ضباطه بعدم التعامل برحمة.

أمَّا وزير ماليته المُحرِّض القومي المتدين بتسلئيل سموتريش فقد قال: في هذه الحرب "يجب علينا أن نكون قاسين وألَّا نراعي كثيرًا الإسرائيليين المختطفين لدى حماس" ـ أكثر من مائة إسرائيلي اختطفوا إلى غزة من قِبَل مقاتلي حماس (واقترب هذا الرقم من 200 في تاريخ 16 / 10 / 2023).

وعلى القنوات الإعلامية التي تروِّج للتوجُّهات القومية الدينية الخاصة بحكومة نتنياهو -وخصوصًا في القناة التلفزيونة "14"- يطالب "خبراء" و"محللون" بتسوية قطاع غزة بالأرض والخروج أخيرًا من المنافسة على لقب "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم". وباختصار يوجد ما يكفي من الدلائل للاعتقاد بأنَّ الهجوم العسكري الإسرائيلي سيكون دمويًا للغاية. فهل ينبغي علينا تشجيع بنيامين نتنياهو وأنصاره بجدية في سلوكه هذا الطريق؟

 

لا يوجد توافق سياسي إسرائيلي

 

يسود توافق لدى الشعب الإسرائيلي في صدمته من القسوة القاتلة لهجوم السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023. مئات قتلوا بالرصاص وعائلات تم محوها وأطفال تم قتلهم وأشخاص يائسون اختبؤوا داخل الخزانات وحاويات القمامة خوفًا من قتلةٍ يقتلون بدم بارد - كلُّ هذا يعيد إلى الذاكرة ذكريات مريرة من المحرقة. وهذه الخواطر والارتباطات الذهنية لا يتم الحديث حولها كثيرًا، وهذا بالذات يبيِّن أن هذه الخواطر والارتباطات الذهنية موجودة وحاضرة. ولكن يجب عدم اعتبار التوافق في هذه الصدمة توافقًا سياسيًا، بل إنَّ العكس هو الصحيح.

فقد دعا منذ بداية الحرب العديد من الأشخاص المعروفين بنيامين نتنياهو إلى الاستقالة، ومن بينهم: رئيس هيئة الأركان السابق موشيه يعلون والمؤرِّخ يوفال نوح هراري والمعلق السياسي يوسي فيرتر.

 

خريطة إسرائيل وفلسطين.  Map Israel Palästina Gaza Jerusalem Karte DW
يعتبر قطاع غزة المنطقة الأكثر كثافة سكانية في العالم: "واشنطن وبرلين وعواصم غربية أخرى ترسل إشارة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بأنَّه يستطيع شن الحرب على غزة كما يريد"، كما يكتب شتيفان بوخن: "وأنَّ نتنياهو لا يحتاج أن يتوقَّع أية انتقادات. وبذلك فإنَّ الحلفاء الغربيين يُشجِّعون بنيامين نتنياهو على عمل غير مُقيَّد ولا يمكن التنبُّؤ بعواقبه. منحُ الغربِ الحرية المطلقة لنتنياهو -أو الشيك على بياض الذي يضع أولاف شولتس توقيعه عليه من دون تردُّد- يجب وضعه موضع تساؤل لعدة أسباب".

 

وتساءل بشكل ناقد الصحفي تسفي بارئيل -المتخصِّص في شؤون الجيران العرب- ماذا سيحدث لحياة الفلسطينيين في غزة بعد الهجوم العسكري الإسرائيلي وما هي تداعيات تدمير قطاع غزة على المجتمع الإسرائيلي؟

هذا وقد بيَّن زميله المحلل عاموس هرئيل أنَّ حاشية بنيامين نتنياهو على وسائل التواصل الاجتماعي تحاول تحميل المتظاهرين الذين تظاهروا ضدَّ نتنياهو لعدة أشهر المسؤولية عن توغُّل حماس من دون أية عوائق داخل الأراضي الإسرائيلية.

وبنيامين نتنياهو يزرع الكراهية في مجتمعه حتى أثناء الحرب. وفي هذا الصدد تحدَّث المؤرِّخ الإسرائيلي موشيه تسيمرمان عن "فشل الصهيونية"، وقال إنَّ دولة إسرائيل وَعْدٌ لمواطنيها بأنَّهم هناك سيكونون في مأمن من المذابح ضدَّ اليهود. ويضيف أنَّ بنيامين نتنياهو نكث بهذا الوعد.

 

شُروخ في شرعية نتنياهو

 

والحقيقة أنَّ الدولة لم تكن موجودة من أجل حماية مواطنيها في ذلك الصباح القاتل. وأغلب الظن أنَّ بنيامين نتنياهو قد خرَّب الدولة بحكومته المتعصِّبة. فهو يُعيِّن في المناصب العليا أشخاصًا بحسب ولائهم الشخصي وليس كفاءتهم. وأحدث مثال على ذلك هو تعيينه مفوَّض الشرطة السابق العميد جال هيرش مسؤولًا عن ملف الأسرى والمفقودين. إنَّ شرعية نتنياهو ملوَّثة. ولا يمكن أن يُخفي هذه الحقيقة حتى تشكيل "حكومة الطوارئ" التي انضم إليها السياسي المعارض ووزير الدفاع السابق بيني غانتس.

وفي ظلّ هذا الوضع يتصرف الحلفاء الغربيون -من واشنطن وحتى برلين- وكأنَّ نتنياهو لا نزاع حوله ويعطونه الضوء الأخضر للقيام بهجوم غير محدود في غزة، وكأنَّ جو بايدن وإيمانويل ماكرون وأولاف شولتس قد نسوا فجأة أنَّهم يتعاملون مع شريك يحب اللعب بالنار.

والحكومات الغربية تتهرَّب من السؤال المزعج حول إنْ كان بنيامين نتنياهو ما يزال يمثِّل إسرائيل أصلًا. وهو نفسه يستغل -وبأسلوب منقطع النظير- الدعم الذي يتلقاه شخصيًا من رؤساء حكومات العالم من أجل تعزيز موقفه المُتعثِّر سياسيًا.

لقد تحدَّث بعض المعلقين الغربيين حول "الحادي عشر من أيلول/سبتمبر الإسرائيلي". وهذه المقارنة -عند الابتعاد عن السطحية- يمكنها حتى أن تكون مفيدة في تعلم الكثير. فقد أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 "الحربُ على الإرهاب" بعواقبها المعروفة. 

فمن خلال ردود أفعالها العسكرية المبالغ فيها -وخاصةً من خلال احتلالها العراق الباهظ الثمن والهدَّام- وضعت الولايات المتحدة الأمريكية سيادتهاالعالمية تحت التهديد، إن لم تكن حتى قد خسرتها بالفعل. وهذا السياق وحده كان من شأنه أن يؤدِّي إلى التعبير بقيود معيَّنة عن التضامن مع نتنياهو بخصوص حربه الانتقامية في غزة.

 

A basic rule of international humanitarian law: war crimes by one side do NOT justify war crimes by the other. Just because Hamas fired indiscriminately on Israeli civilians does NOT justify Israel firing indiscriminately on civilians in Gaza. https://t.co/t7R6afOnQK

— Kenneth Roth (@KenRoth) October 8, 2023

 

ويبدو أنَّ مثل هذه الأفكار بعيدة كلَّ البعد عن ذهن المستشار الألماني أولاف شولتس. فقد صنَّف في بيان حكومته العمليات العسكرية الإسرائيلية ضمن "الدفاع عن النفس". وهنا نريد طرح السؤال عن مدى تعريف أولاف شولتس لهذا المصطلح.

لقد أعلن أولاف شولتس في البرلمان الاتحادي الألماني (البوندستاغ) قائلًا: "في هذه اللحظة لا يوجد لألمانيا سوى موقع واحد وهو موقعها إلى جانب إسرائيل. ونحن نعني ذلك عندما نقول: أمن إسرائيل هو مصلحة وطنية ألمانية". وأضاف: يجب على نتنياهو أن يبلغنا بما يحتاجه وسيتم "منحه" ما يحتاج. وهنا يتجلى بوضوح كيف تحوَّل مبدأ أمن إسرائيل كمصلحة وطنية ألمانية -والذي وضعته المستشارة السابقة أنغيلا ميركل- إلى شيك على بياض.

يسعى ائتلاف "إشارات المرور الضوئية" بقيادة المستشار أولاف شولتس إلى الحدِّ من الهجرة إلى ألمانيا. وهذا الهدف معرَّض للخطر بسبب التصعيد في الشرق الأوسط. وذلك لأنَّ الحرب الانتقامية غير المقيَّدة في غزة يمكن أن تخلق مئات الآلاف -إن لم يكن الملايين- من اللاجئين الجدد الذين يمضون في طريقهم إلى أوروبا. لقد بات يلوح في الأفق منذ وقت طويل سؤال كبير وهو على وجه التحديد إنْ كان استقبال ألمانيا للاجئين الفلسطينيين من غزة -وربَّما أيضًا من الضفة الغربية- هو أيضًا مصلحة وطنية ألمانية؟

 

شتيفان بوخن

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

‏‪ar.Qantara.de‬

 

درس كاتب هذا المقال شتيفان بوخن اللغة العربية وآدابها في جامعة تل أبيب من عام 1993 وحتى عام 1995 ثم عمل صحافيًا في إسرائيل والمناطق الفلسطينية حتى عام 1999. وهو يتحدَّث اللغتين العبرية والعربية بطلاقة. ويعمل حالياً كصحفي تلفزيوني لبرنامج بانوراما لدى القناة الأولى الألمانية ARD.

 

[embed:render:embedded:node:51016]