الموسيقى توحد فلسطينيين وإسرائيليين في برلين

الموسيقار العالمي الشهير دانييل بارينبويم عمل لسنوات طويلة على تعزيز السلام والتفاهم بين الإسرائيليين والفلسطينيين.  ‏Conductor Daniel Barenboim during a rehearsal
الموسيقار العالمي الشهير دانييل بارينبويم عمل لسنوات طويلة على تعزيز السلام والتفاهم بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

في أكاديمية بارينبويم-سعيد الموسيقية بألمانيا يدرس طلاب إسرائيليون وفلسطينيون معا والحرب بدأت قبيل فصل الدراسة الجديد فكيف ينظرون لها وكيف تدعمهم الموسيقى في هذا الظرف الصعب؟ متابعة إليزابيت غرينير.

الكاتبة ، الكاتب: Elizabeth Grenier

"أول شيء فكرت فيه هو: كيف سيكون رد فعل طلابنا؟ كيف سيتعاملون مع ما يجري؟ كيف ستتطور الأمور؟" هكذا يتساءل ميشائيل بارينبويم -عميد أكاديمية بارينبويم سعيد-للموسيقى ومقرها في برلين.

كان في فيينا عندما هاجمت حركة حماس إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفي اليوم التالي عاد إلى مدرسة الموسيقى وهو يعلم أن الأحداث الجارية سوف تؤثر بشكل مباشر على طلابه، فعدد منهم إسرائيليون وفلسطينيون. "كان بإمكانك أن تشعر بالتوتر في الهواء"، يتذكر بارينبويم، انطباعاته الأولى عند عودته إلى أكاديمية الموسيقى ذلك اليوم.

كانت الدورة الدراسية الخريفية على وشك أن تبدأ بعد 10 أيام من بداية التصعيد. وصل الطلاب الجدد بالفعل لحضور أسبوع التوجيه بينما كانوا يحاولون معرفة ماذا يجري في مناطقهم، في فترة يحاولون فيها التكيّف مع بيئتهم الجديدة في برلين.

بعد حوالي أسبوعين على بداية الأحداث -وتحديداً يوم 23 من هذا الشهر- أحيت أوركسترا الأكاديمية الشابة حفلها الأول لهذا الفصل الدراسي، في قاعة بيير بوليز للحفلات الموسيقية.
 

فرقة موسيقية تعزف Orchestra plays in hall
يقول الموسيقار دانييل بارينبويم: "رسالتنا للسلام يجب أن تكون أعلى صوتاً من أي وقت مضى"، ويضيف: "الخطر الأكبر هو أن كل الأشخاص الذين يرغبون بشدة في السلام سيغرقون في أيدي المتشديين ودوامة العنف". (Foto: Stefan Maria Rother)

فضاء يجمع الموسيقيين العرب والإسرائيليين

تحمل هذه الأكاديمية قصة تجعلها لا تشبه أيّ مؤسسة أخرى في العالم. دانييل بارينبويم -والد ميشائيل بارنبويم، وهو، أي الوالد، قائد أوركسترا وعازف بيانو- افتتح هذه المؤسسة عام 2015، حتى تكون استمرارًا للمهمة التي طوّرها مع المُنظِّر الفلسطيني الأمريكي الراحل إدوارد سعيد، عبر جوقة الديوان الغربي الشرقي، وهي مجموعة تتكون من شباب موسيقيين، عرب وإسرائيليين.

المنهج الدراسي داخل هذه الأكاديمية يهتم بشكل كبير بالعلوم الإنسانية. فإلى جانب تدريبهم على عزف الموسيقي يتعلم الطلاب هنا الفلسفة والتاريخ أيضا، وهو منهج مستوحى من اعتقاد سعيد بأن "الإنسانية هي المقاومة الوحيدة -أو حتى الأخيرة- التي نملكها ضد الممارسات اللاإنسانية وغير العادلة التي تشوه التاريخ البشري".

تجمع هذه الأكاديمية اليوم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بالإضافة إلى موسيقيين شباب من إيران ولبنان وسوريا. وتؤكد مديرة الأكاديمية ريغولا راب أن حوالي ربع الطلاب الثمانين في الأكاديمية هم من خارج الشرق الأوسط، وهو ما يخلق فضاءً لمجموعة من المواهب الشابة "من 27 دولة".
 

خلق مساحة آمنة

لكن عندما بدأ الفصل الدراسي الجديد وجد الطلاب أنهم بحاجة إلى تجاوز الدروس المقررة لأجل مناقشة ما يجري. توضح راب قائلةً: "هناك الكثير من المشاعر.. يوجد حزن وغضب.. ثمة الكثير من الخوف"، وتضيف: "الخوف على أسرهم وأصدقائهم، ومنازلهم، وكذلك على مستقبلهم، كل شيء يتطور يوماً بعد يوم".

نظم الطلاب سريعاً اجتماعات حتى يتمكنوا من تبادل وجهات نظرهم بانتظام. كما أنشأت المدرسة حصصاً خاصة بالدعم النفسي، ووفَّرت اختصاصيين يقدمون جلسات دعم للطلاب باللغتين العبرية والعربية.

يقول بارينبويم إن الطلاب اليهود الإسرائيليين: "يشعرون من جانبهم بالقلق إزاء تزايد معاداة السامية في برلين". ويضيف في الوقت نفسه أن الطلاب الفلسطينيين يواجهون كذلك وضعاً خاصاً في ألمانيا، إذ "يشعرون بأنهم لا يستطعيون التعبير عن أنفسهم، ولا يستطيعون التجمع معًا".

يشير بارينبويم إلى الحظر الذي فرضته برلين على مجموعة من المظاهرات الداعمة للفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة. وتخشى السلطات في العاصمة الألمانية من جهتها أن تتضمن المسيرات شعارات معادية للسامية أو تحريضاً على معاداة إسرائيل.

لهذا الغرض ترى الأكاديمية ضرورة أن توّفر مكاناً آمناً للطلاب حتى "يمكنهم الاستمرار في التعبير عن أنفسهم بثقة وحرية، وأن يثقوا بأن لديهم فضاءً يمكنهم أن يكونوا فيه معاً".

اتحاد الطلاب وإدارة الأكاديمية اتفقا على أن تكون الأكاديمية مساحة آمنة للطلاب. وكإجراء للحفاظ على هذا الأمان، قرروا عدم دعوة وسائل الإعلام للمشاركة في هذه الاجتماعات، كما تم الاتفاق على تجنب إجراء الطلاب مقابلاتٍ مع الصحافة.
 

أصدقاء من أجل الحرية: الموسيقار دانييل بارينبويم والمفكر إدوارد سعيد. Friends for freedom: Edward Said (left) and Daniel Barenboim (right)
الموسيقار اليهودي دانييل بارينبويم طوّر أكاديمية بارينبويم-سعيد مع المنظِّر الفلسطيني الأمريكي الراحل إدوارد سعيد، عبر جوقة الديوان الغربي الشرقي، وهي مجموعة تتكون من شباب موسيقيين، عرب وإسرائيليين. (Foto: Fundación Barenboim-Said)

الموسيقى توحّد الطلاب

يفسر الطلاب الأحداث بشكل مختلف، يشير بارينبويم إلى أن الطلاب الفلسطينيين يميلون إلى رؤية أن ما جرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 كجزء من سياق تاريخي أكبر، ولكن بالنسبة للإسرائيليين، فإن هذه الهجمات الإرهابية لحماس غيّرت كل شيء. ويبرز بارينبويم أن هذا مجرد مثال يبين كيف تختلف وجهات النظر حول الأحداث نفسها، ولكن "مع ذلك أعتقد أننا جميعا متفقون على أننا نريد البقاء هنا"، بحسب قوله.

ما يوّحد الطلاب هنا هي الموسيقى. تؤكد راب أن المعزوفات التي يتدربون عليها تتيح لهم التركيز على شيء واحد، شيء يمكنهم العمل عليه معاً" وتقول: "أعتقد أن عملنا اليومي أدى إلى شكل من أشكال التماسك".

قال الطلاب في بيان مشترك في برنامج حفلهم يوم 23 أكتوبر / تشرين الأول 2023، بعد افتتاحه بدقيقة صمت، "من الصعب جدًا على الكثير منا أن يعزفوا في حفل موسيقي الآن. ولكن حتى في هذه الأوقات الصعبة، سنواصل السير على خطى مؤسسي الأكاديمية، دانييل بارينبويم وإدوارد سعيد".
 

أكاديمية بارينبويم-سعيد الموسيقية توحد فلسطينيين وإسرائيليين في برلين Standing ovation at the end of a concert
المنهج الدراسي داخل أكاديمية بارينبويم-سعيد يهتم بشكل كبير على العلوم الإنسانية. فإلى جانب تدريب الطلاب على الموسيقي يتعلمون هنا أيضا الفلسفة والتاريخ، وهو منهج مستوحى من اعتقاد سعيد بأن "الإنسانية هي المقاومة الوحيدة -أو حتى الأخيرة- التي نملكها ضد الممارسات اللاإنسانية وغير العادلة التي تشوه التاريخ البشري". (Foto: Stefan Maria Rother)

يجب اتباع هذه المُثل كما يرى  بارينبويم، الآن أكثر من أي وقت مضى. وقد كتب في بيان قبل الحفل "رسالتنا للسلام يجب أن تكون أعلى صوتاً من أي وقت مضى. الخطر الأكبر هو
أن كل الأشخاص الذين يرغبون بشدة في السلام سيغرقون في أيدي المتشديين ودوامة العنف".

وأضاف: "يجب على كلا الجانبين الاعتراف بأعدائهم كبشر ومحاولة التعاطف مع وجهة نظرهم وآلامهم وضائقتهم. ويجب على الإسرائيليين أيضًا أن يقبلوا أن احتلال فلسطين لا يتوافق مع ذلك".

وكما يشير بارينبويم فهناك أماكن قليلة في جميع أنحاء العالم، منها برلين أو ألمانيا، حيث يعمل الفلسطينيون والإسرائيليون معاً بشكل وثيق كما هو الحال في أكاديمية بارينبويم-سعيد. ويضيف: "أكيد أن هذا الحفل لن يجلب السلام، ولا أحد يعتقد هذا الأمر. لكنها طريقة بديلة للتفكير في كيف يمكن للناس أن يعيشوا معاً في منطقة ما، وهو نهج لا يتضمن القنابل والأسلحة، بل التعاون والحوار واستماع بعضنا إلى بعض".

إليزابيت غرينير
ترجمة: ع.ا
حقوق النشر: دويتشه فيلة 2023

 

 



Qantara.de/ar