على خطى مولانا في أفغانستان

 مسقط رأس الصوفي البارز جلال الدين الرومي مدينة بلخ شمال أفغانستان. Marian Brehmer reiste im Ramadan 2019 in Rumis Geburtsstadt Balch im Norden Afghanistans Foto Marian Brehmer
الصحفي الألماني ماريان بريمَر في رمضان 2019 سافر إلى مسقط رأس الصوفي البارز جلال الدين الرومي مدينة بلخ شمال أفغانستان. Foto Marian Brehmer

سافر الصحفي الألماني ماريان بريمَر في رمضان 2019 إلى مسقط رأس جلال الدين الرومي مدينة بلخ شمال أفغانستان متقفيًا آثار هذا المعلم الصوفي العظيم ويصف لموقع قنطرة الانطباعات التي تركتها لديه تلك الزيارة.

الكاتبة ، الكاتب: Marian Brehmer

عند مدخل مدينة بَلْخ الأفغانية نرى لافتة مكتوب عليها: "مرحبًا بكم في مدينة الرومي". كان ذلك في صباح أحد أيَّام الجمعة في رمضان 2019 كانت الشوارع تبدو فارغة ما عدا عدد قليل من التجَّار المرهقين الذين كانوا للتو يفتحون أبواب محلاتهم. إذًا فهذا هو المكان الذي يقال إنَّ المعلم العظيم الذي يعرفه الأفغان بلقبه الفخري العربي "مولانا" قد وُلِدَ فيه قبل ثمانيمائة وست عشرة سنة.

يعتبر مولانا جلال الدين الرومي في منطقة الهندوكوش شاعر أفغانستان الوطني وربَّما ابن أفغانستان الأكثر شهرة، على الرغم من الخلافات المتكرِّرة مع إيران وتركيا حول إرثه. وفي أفغانستان نُصبت له التماثيل وأُطلق اسمه على شوارع. وحتى وإن كانت الحرب المستعرة منذ عشرات السنين قد أخذت من الأفغان كلَّ شيء تقريبًا إلَّا أنَّهم ما يزالون يعتزُّون بالرومي.

منزل من الطين يقال إنه مسقط رأس جلال الدين الرومي في أفغانستان Lehmhaus angeblich Geburtsstätte Rumis - Rumis Geburtsstadt Balch im Norden Afghanistans Foto Marian Brehmer
على بعد بضعة كيلومترات خارج مدينة بَلْخ الأفغانية -الواقعة على بعد نصف ساعة بالسيارة إلى الغرب من مزار الشريف- يوجد الآن مبنى طيني قديم يعتقد الأفغان أنَّ جلال الدين الرومي قد وُلِد فيه، وحتى وإن كان هذا الاعتقاد يبدو غير معقول تاريخيًا إلَّا أنَّ هذا المسكن الطيني الآيل للسقوط يعتبر مشهدًا يزوره العديد من زوَّار الرومي الذين يأتون هنا لرؤيته، كما يكتب ماريان بريمَر. Foto Marian Brehmer

صعوبة الوصول إلى شعر الرومي

ولكن مع ذلك فمعظم الأفغان اليوم لم يعودوا قادرين على الوصول إلى شعر الرومي وذلك نظرًا إلى ارتفاع معدَّل الأمية الذي يصل إلى نحو ستين في المائة. وكذلك ضاعت إلى حد كبير تقاليد إلقاء الشعر ورواية القصص الشفوية. وهكذا فإنَّ قراءة أهم مؤلفات الرومي "المثنوي" -والتي كانت في السابق ممارسةً روحيةً مهمةً في الطرق الصوفية الأفغانية- أصبحت أقل انتشارًا بكثير مما هي عليه في إيران المجاورة، حيث تُعَدُّ أعمال الرومي من الكتب الأكثر مبيعًا.

وعلى بعد بضعة كيلومترات خارج بَلْخ -الواقعة على بعد نصف ساعة بالسيارة إلى الغرب من مزار الشريف- يوجد الآن مبنى طيني قديم يعتقد الأفغان أنَّ الرومي قد وُلِد فيه. حتى وإن كان هذا الاعتقاد يبدو غير معقول تاريخيًا إلَّا أنَّ هذا المسكن الطيني الآيل للسقوط يعتبر مشهدًا يزوره العديد من زوَّار الرومي الذين يأتون هنا لرؤيته.

"بجوار قرية زراعية يتفرَّع من الشارع درب رملي ويمر على ملعب مؤقَّت لكرة القدم يلعب فيه خمسة فتيان. ويقف الفتية من دون حراك ويتابعون بنظرهم السيارة التي أجلس فيها. والفتى الأصغر سنًا في المجموعة يعض بخجل حافة قميصه المتَّسخ كاشفًا عن سّرَّة بطنه.

ويبدو أن الكثير من الزوَّار لا يأتون إلى هذه الخرابة الطينية التي تحيطها حقول القمح وشجيرات جافة وأعمدة كهرباء ملتوية. وهذا المبنى الطيني الذي يقول الأفغان إنَّ الرومي قد وُلِد فيه يبدو مثل خلية نحل بحجم كبير. وتوجد على جوانبه أربع فتحات مقوَّسة. وتحت المِلاط أو الطين المتهدِّم لا يزال بالإمكان رؤية صفوف من الطوب اللبن ولكن قبة السقف منهارة كلها تقريبًا.

أتسلق إلى الداخل. الأرض المتشقِّقة مغطاة بالأشواك. والذباب ينتشر حول روث الماشية الطازج. ويتَّجه نظري نحو الأعلى. غيوم صغيرة تشبه الخِراف تتحرَّك عبر السماء الزرقاء. ولِلَحظةٍ أُطلق العنان لمخيِّلتي وأحاول أن أتخيَّل كيف عاش هنا جلال الدين محمد الرومي في صِغَرِه حين كان طفلًا صغيرًا.

ومن خلال تسميته جلال الدين، الذي يعني "عظمة الدين" فقد اختار له والداه اسمًا نبويًا تمامًا. وذلك لأنَّ الرومي قُدِّر له في يوم من الأيَّام أن يجعل دينه -الإسلام- يتألق بكلِّ جماله".

تلميذات في مدينة بَلْخ - أفغانستان. Schülerinnen in Balch - Afghanistan - Foto Marian Brehmer
طالبات في مدينة بَلْخ الأفغانية: "لقد بدت لي بلخ عندما زرتها كمجموعة مُغْبَرَّة من المنازل ذات الأسقف المسطحة ومركزها يتكوَّن من دَوَّار للسيارات يقع حوله بازار المدينة الذي كان يرتاده بشكل رئيسي رجال ملتحون ومعمَّمون. أمَّا النساء فكان يبدو أنَّهن شبه غائبات تمامًا عن مشهد مدينة بلخ حتى قبل استيلاء طالبان على السلطة"، كما يكتب ماريان بريمَر حول مسقط رأس الرومي في أفغانستان. Foto Marian Brehmer

كانت في السابق موقعًا ثقافيًا مهمًا

لقد كانت مدينة بَلْخ في الماضي -إلى جانب هرات وسمرقند ونيسابور- واحدة من أهم أربع مدن ثقافية في خراسان أي المنطقة التي أنتجت عددًا كبيرًا من الباحثين والمتصوِّفين المسلمين. وشهرة خراسان تكاد يُضرب بها المثل في التقاليد الصوفية.

وتعتقد عدا ذلك البوذية والمستكشفة الفرنسية ألكسندرا ديفيد نيل أنَّ مملكة شامبالا البوذية الأسطورية كانت موجودة في بَلْخ. والمؤكَّد على أية حال هو أنَّ بلخ كانت حتى الحملة المغولية المدمِّرة بقيادة جنكيز خان مركزًا مهمًا للبوذيين والزرادشتيين.

لقد بدت لي بلخ عندما زرتها كمجموعة مُغْبَرَّة من المنازل ذات الأسقف المسطحة ومركزها يتكوَّن من دَوَّار سيارات يقع حوله بازار المدينة الذي كان يرتاده بشكل رئيسي رجال ملتحون ومعمَّمون. أمَّا النساء فكان يبدو أنَّهن شبه غائبات تمامًا عن مشهد مدينة بلخ حتى قبل استيلاء طالبان على السلطة.

لقد حذَّرني أصدقائي الأفغان من أنَّ في بلخ يعيش الكثير من المتعاطفين مع طالبان وأنَّ الأجانب غير مرحَّب بهم هنا. وبعد مرور عامين، قدِّر لمدينة بلخ أن تسقط في أيدي الإسلاميين، وذلك قبل بضعة أسابيع من سقوط كابول ومزار الشريف.

"الساحة أمام المسجد الأخضر في بلخ مُهْمَلة. لو أنَّ هذا المبنى الذي يعود تاريخه إلى القرن الخامس عشر موجود في مكان آخر لكان من شأنه أن يجتذب الكثير من السيَّاح. آثار الحرب واضحة في كلِّ مكان: لقد انكسر الجزء العلوي من الإيوان، أي بوابة مدخل المسجد المُقوَّسة، ولم يتبقَّ سوى بعض الحروف -من الآيات القرآنية المزخرفة على بلاط أزرق- والتي كانت في الماضي تزيِّن الحواف. والمئذنة أيضًا لم يعد يرتفع منها إلَّا نصفها فقط. وهي تُذكِّر مثل جذع شجرة مقطوعة بالضرر الذي لا يمكن إصلاحه والذي أصاب التراث الثقافي الأفغاني.

يجلس تحت ظلِّ الإيوان على بطانية قطنية بيضاء رجلٌ في منتصف العمر ويرتدي قبعة صلاة ويضع يده فوق ركبته. ومكتوب فوق رأسه على الجدار المزيَّن بالفسيفساء "المُلْكُ لله".

وينهض فجأةً الرجل الذي كان يستريح، يطوي بطانيَّته ويتقدَّم نحوي ومن دون أن يُعرِّف بنفسه يبدأ مخاطبتي. وبسبب لهجته المحلية لا أستطيع أن أفهم سوى القليل مما يقوله. فالفارسية التي تعلمتها في طهران قبل ستة أعوام تبدو أخف من اللغة الدارية الأفغانية، وتتخللها كلمات مستعارة من الفرنسية، حتى وإنْ كانت اللغة هي نفسها مع وجود بعض الاختلافات الصغيرة في المفردات.

ولكنني تمكَّنت من التقاط بعض الجمل من حواره الذاتي. فقد قال الرجل مُوَبِّخًا: 'نحن مسلمون. ولكن لا يوجد إسلام هنا. أُنظر فقط إلى الحديقة هناك كيف يُحدِّق الرجال بالبنات. مع أنَّ المسلم يجب عليه أن يصوم في رمضان بعينه أيضًا! زِدْ على ذلك أنَّ الناس هنا ليس لدهم ما يأكلونه. وأنا أقول لك الناس في الغرب أكثر إسلامًا منا‘.

ابتسمتُ في نفسي وتمتمت متظاهرًا بالموافقة. ولكنني لست متأكدًا إن كان هذا الرجل الكثير الكلام قد عرف هويتي كغربي أم أنَّه اعتبرني سائحًا أفغانيًا. وكلماته تذكِّرني برثاء الصوفي أبو الحسن البوشنجي من القرن العاشر: "التصوُّف اليوم اسم بلا حقيقة وقد كان من قبل حقيقة بلا اسم".

رجُل عند المسجد الأخضر في مدينة بَلْخ الأفغانية Ein Mann sitzt vor einer Kalligraphie an der Grünen Moschee von Balch; Foto: Marian Brehmer
أمام المسجد الأخضر في مدينة بَلْخ الأفغانية: "تأكَّد انطباعي بأنَّه لم يعد يوجد أي أثر في بلخ من الروحانية والتفكير الحر الذي ميَّز إسلام جلال الدين الرومي، وذلك خلال صلاة الجمعة في المسجد الأخضر. فقد ألقى الإمام في خطبة الجمعة أمام المصلين خطابًا مشحونًا بالكراهية وهاجم أمريكا وصرخ بمعنى الكلمة في وجوه المؤمنين الذين يشعرون بالملل في مسجده. وكان يبدو أنَّهم يقيمون الصلاة بطريقة آلية وكانت الأجواء كلها في المسجد خالية من الروحانية". Foto Marian Brehmer

لا أثر للروحانية والتفكير الحر

لقد تأكَّد انطباعي بأنَّه لم يعد يوجد أي أثر في بلخ من الروحانية والتفكير الحر الذي ميَّز إسلام جلال الدين الرومي، وذلك خلال صلاة الجمعة في المسجد الأخضر. فقد ألقى الإمام في خطبة الجمعة أمام المصلين خطابًا مشحونًا بالكراهية وهاجم أمريكا وصرخ بمعنى الكلمة في وجوه المؤمنين الذين يشعرون بالملل في مسجده. وكان يبدو أنَّهم يقيمون الصلاة بطريقة آلية وكانت الأجواء كلها في المسجد خالية من الروحانية".

من المعروف أنَّ الرومي يندِّد في شعره مرارًا وتكرارًا بالأصولية والانقسامات الطائفية. ويُحذِّر من اختزال الدين في صورته الخارجية -سواء كان ذلك في الصلاة أو الصيام أو في اللغة اليومية- وهو يحذِّز بالتالي من نسيان معناه الحقيقي. ويقول مثلًا في المثنوي: "اُعْبُرْ خلف الصورة / تَجاهَلْ الأسماء نحو المعنى!".

"عندما يغادر مئات الأشخاص المسجد دفعةً واحدة يتزاحم الناس عند بوابة الخروج. وتجلس على الأرض مجموعة من نساء يرتدين البرقع الأزرق. أوَّل نساء رأيتهن في بَلْخ -مع أنَّني لا أستطيع رؤيتهن بشكل صحيح- يَمْدُدْنَ أيديهن من أجل تسوُّل الصدقات. ويوجد رجل عجوز يُوزِّع الخبز الأبيض على الناس. وينقضُّ مباشرة رهط من الأطفال على هذا الرجل العجوز ويبدؤون التعارك على الأرغفة. وبعد الخطبة الغريبة يزيد هذا المشهد الاضطراب أكثر في جوفي.

شعرت باضطراب داخلي فهربت إلى الحديقة المجاورة للمسجد. حيوية الأشجار ذات الأوراق الكثيفة لها تأثير الشفاء من التنافر المصنوع من قِبَل الإنسان. وهنا أجد من جديد هواءً للتنفُّس وأجلس على العشب وأشاهد ما يحدث من حولي. ثمَّة زوجان شابان يستريحان في الظل. وصبي يقود دراجة أكبر من حجمه بكثير.

وفجأة انزلقت من تحته العجلة الخلفية. وسقط الصبي ليبقى للحظة ممدَّدًا تحت دراجته الثقيلة. ومن دون أن يذرف حتى لو دمعة واحدة يُبعِدُ الدراجة عنه ويمسك بساقه التي تؤلمه. ثم يعاود الجلوس على مقعد الدراجة وينطلق في دورة أخرى.

وتوجد في وسط الحديقة منطقة للعب الأطفال تتكوَّن من أرجوحة وهيكل للتسلق. يتأرجح صبيان على قضيب حديدي صَدِئ. وهناك مجموعة من الأطفال قاموا بابتكار لعبتهم الخاصة. ربطت ثلاث فتيات -يرتدين ملابس ألوانها زاهية وصبي صغير وجميعهم حفاة القدمين- وشاحين ببعضهما، وكلُّ طفل أمسك بأحد الأطراف الأربعة.

فسيفساء صورة جلال الدين الرومي فوق أكشاك السوق في مزار الشريف - أفغانستان. Rumi-Mosaik über Basarständen in Masar-i-Sharif; Foto: Marian Brehmer
يعتبر مولانا جلال الدين الرومي في منطقة الهندوكوش شاعر أفغانستان الوطني وربَّما ابن أفغانستان الأكثر شهرة، على الرغم من الخلافات المتكرِّرة مع إيران وتركيا حول إرثه. وفي أفغانستان نُصبت له التماثيل وأطلق اسمه على شوارع. وحتى وإن كانت الحرب المستعرة منذ عشرات السنين قد أخذت من الأفغان كلَّ شيء تقريبًا إلَّا أنَّهم ما يزالون يعتزُّون بالرومي. Foto Marian Brehmer

ثم بدؤوا الدوران في دوائر. وتدور لعبة الدوَّامة المرتجلة هذه بشكل أسرع وأسرع حتى يفقد الطفل الصغير توازنه بعد عدة دورات ويسقط منقلبًا على ظهره فوق العشب. وتتابع الفتيات الدوران عدة مرات ولكن هذه اللعبة الرباعية لم تعد متوازنة.

ثم يبدأ كلُّ شيء من جديد وسط صيحات الفرح والضحك حتى يسقط أحدهم. وعلى وجوه الفتيات الجميلة براءة صافية. وهؤلاء الأطفال لا يفقدون رغبتهم في اللعب وهم حاضرون تمامًا هنا والآن يستمتعون بحالة المرح البريئة التي لا يملكها سوى الأطفال.

وأنا كالمشدوه بالكأد أستطيع رفع عيني عن هذا المشهد المرح. وأحاول للحظة تصوُّر شكل المستقبل الذي ينتظر هؤلاء الأطفال هنا في بلخ. ولعل هذا الطفل الصغير سيأخد من بيئته عاداتها وتقاليدها الذكورية بعد عدة سنين. ولكن أين ستكون الفتيات حينها؟ وهل يستطعن الحفاظ على فرحتهن في الحياة عندما يصبحن شابات؟ ومَنْ أنا أصلًا حتى أجيب على هذه الأسئلة؟

وأعود بنفسي إلى هذه اللحظة وأدع قلبي يتأثَّر بطاقة الأطفال؛ إنْ كان جلال الدين الرومي ما يزال موجودًا في مكان ما في بلخ فهو هنا معهم".

 

 

ماريان بريمَر

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

Qantara.de/ar

 

جميع الاقتباسات مأخوذة من كتاب ماريان بريمَر الصادر بالألمانية سنة 2022 عن دار هيردَر بعنوان "الكنز تحت الأنقاض: رحلاتي مع الرومي إلى ينابيع الحكمة"، وهو كتاب حول رحلات روحية يتحدَّث حول لقاءات مع الصوفيين والمريدين والحكماء في أفغانستان وإيران وسوريا وتركيا.

 

درس ماريان بريمَر الدراسات الإيرانية وهو كاتب مستقل يُركِّز على موضوع التصوُّف الإسلامي.