"في الغرب لا علم لنا بتنوع الإسلام"

رقصة السما الروحانية - الطريقة المولوية في زيورخ - سويسرا. Ein Sema im Mevlevi-Orden in Zürich; Foto: privat
كيف يمكن عيش تعاليم جلال الدين الرومي الصوفية في سياق الثقافة الأوروبية؟ Foto: privat

كيف يمكن عيش تعاليم المفكر الصوفي البارز جلال الدين الرومي في سياق الثقافة الأوروبية؟ الصحفي الألماني ماريان بريمر أجرى حوارا لموقع قنطرة مع المهندس السويسري بيتر حسين كونز وهو شيخ الطريقة المولوية في سويسرا منذ 24 عاما.

الكاتب، الكاتبة : Marian Brehmer

سيد كونز، يصادف هذا العام 2023 الذكرى الـ 750 لوفاة جلال الدين الرومي. فمن هو مولانا بالنسبة لك؟

بيتر حسين كونز: عليك أن تحب القرآن الكريم وكذلك الكتب المقدسة الأخرى والأنبياء وعظماء الصوفيين والصوفيات حتى تتمكن من فهمهم. إن مقولات مولانا لها صدى عميق في نفسي. أنا أحبه وهو مرجعي الأول في فهمي للإسلام. يقال إن بليز باسكال قال: "يجب عليك أن تدرك الأشياء الدنيوية بالعقل حتى تتمكن من حبها، أما الأشياء الإلهية فيجب أن تحبها بالقلب حتى تتمكن من إدراكها." هذا ما قادتني إليه تجربتي أيضا. وهذا ما صاغه مولانا بكلماته الخاصة بالفعل في الكثير من المواضع في أعماله منذ القرن الثالث عشر.

 

لقد نشأتَ في بيئة بروتستانتية. فما الذي وجدته في الصوفية وكنت تفتقده في الكنيسة؟

كونز: وُهِبْتُ منذ مولدي حب الخفايا والتدين. لا أستطيع أن أقول لماذا. حتى عندما كنتُ شابا، كنت باحثًا عما هو خفي وتساءلتُ عن معنى الوجود وعن كينونتي. وقال لي قسيسي إنه يجب علي أن أصبح قسًا أيضًا. ولكن طريقي كان مختلفًا، حتى وإن قادني هذا الطريق في النهاية إلى وظيفة تعليم.

مهندس ومعلم صوفي

خلال دراستي كي أصبح مهندسًا كهربائيًا عشتُ فترة من العاصفة والاندفاع مع أفكار الاتجاه السلمي [المناهض للحروب] ونقد لإضفاء الطابع المؤسسي على تعاليم يسوع.

تركت الكنيسة وتوجهت إلى فلسفات وأديان مختلفة للشرق الأقصى. ومن خلال علاقة حب تعرفت على الإسلام، الذي لم أكن أعرفه من قبل حتى وقتها، ووجدت هناك توليفة لمستني، مكونة من وعي الشرق الأقصى بالوحدانية وصور التوحيد الإنجيلية التي كنت مرتبطا بها.

ولم أعرف الجانب الصوفي للإسلام إلا بعد مرور عشر سنوات، ولكن في البداية بالشكل المخفف للعصر الجديد. ثم استغرق الأمر عشر سنوات أخرى حتى وجدت غايتي الحالية في الطريقة المولوية.

هناك أشخاص يجدون طريقهم الروحي فجأة بين يوم وليلة من خلال تجربة جارفة. ولكني على العكس من ذلك وجدت وطني الروحي من خلال البحث والتحليل بخطوات صغيرة ولكن ثابتة.

لكنني لا أستطيع أن أفترض أن وصولي إلى ذلك عن طريق تبصرة أو تجربة خاصة أخرى.

المعلم الصوفي السويسري بيتر حسين كونز Der Schweizer Sufi-Meister Peter Hueseyin Cunz; Foto: Stefan Maurer
"في الغرب نحن على دراية في المقام الأول بالإسلام السياسي ذي الطابع السني أو الشيعي، والذي يتم تناوله بشكل بارز في وسائل الإعلام"، كما يقول المعلم الصوفي السويسري بيتر حسين كونز، ولكن "ليس لدينا سوى معرفة قليلة عن التنوع الهائل في التفسيرات التي يسمح بها القرآن. فهناك عدد لا يحصى من الطرق الصوفية التي تتبنى أسلوبها الخاص في ممارسة العقيدة الإسلامية." ويرى كونز أن هذا لا يرجع فقط إلى الغرب، ولكن أيضًا إلى "العمى العقلي المستعصي لعلماء المسلمين الذين ينظرون باستمرار في المرآة الخلفية ولا يجرؤون على اقتراح تجديدات في الخطاب الإسلامي". Foto: Stefan Maurer

كيف أصبحتَ شيخًا في الطريقة المولوية؟ وماذا يعني هذا اللقب بالنسبة لكم شخصيًا؟

كونز: تم ترسيمي شيخا في الطريقة في عام 1999 بعد عدة سنوات من التدريب والالتزام تحت رعاية شيخي حسين توب أفندي. بالنسبة لي يعني هذا التكريم تحمل مسؤولية كل ما أقوم به في هذا المنصب. أشعر أن الله يختبرني باستمرار، ليرى إنْ كنتُ أنحِّي نفسي وأنانيتي جانبا دائما وإنْ كنت أتبع الأخلاقيات والقيم السائدة في ثقافتنا.

تحقيق الذات الفردية يأتي في المرتبة الأولى

مصطلحات مثل "الاستسلام" أو "الخضوع" لأحد المشايخ تواجه هنا في هذه البلاد غالبًا عدم فهم. فما هو دور المعلم الروحي في القرن الحادي والعشرين؟

كونز: أتفهم عدم فهم هذا لسببين. أولاً، كثير من حالات سوء استعمال هذه السلطة أصبحت معروفة، وثانياً، نحن هنا في الغرب مرسَّخ عندنا ثقافة ديمقراطية فردية. فتحقيق الذات الفردية، والوعي بقيمة الذات، وكذلك الاعتزاز بالنفس وتحقيق الرفاهية الشخصية هي الأولوية القصوى للنساء والرجال، وهذا يشمل أيضا الجانب الروحي.

يكفي أن نتأمل العروض الروحية التي لا تحصى لدى الجيل الجديد لندرك أنه عند استخدام مصطلح "الروحانية" يكاد لا يكون هناك تفرقة بين علم النفس والعاطفة وأوهام الخيال والدين التقليدي. المهم هو أن تشعر بالتميز والراحة أثناء ذلك.

وبما أن ذاتية الإنسان اليوم وغداً لا تختلف عما كانت عليه قبل آلاف السنين، فإن المعلم الروحي أو المعلمة الروحية في القرن الحادي والعشرين لن يعلم أي شيء جديد. الأمر يتعلق بالسيطرة على الروح الغريزية والعواطف والأفكار بحيث تنشأ بداخلنا مساحة للأشياء الخفية. لكن الشكل الخارجي وحده هو الذي يجب أن يتكيف مع الثقافة والمعرفة الخاصة بالعصر.

 

كيف جمعت بين مهنتك ومهمتك خلال هذه السنوات؟ وما العلاقة بين عملك كمهندس كهرباء وبين مهمتك كشيخ في "الهندسة الروحية"؟

كونز: شخصيتي كمهندس ساعدتني على التحلي بالموضوعية في الأمور الروحية. هناك ما يدفعني إلى الحاجة إلى التمييز الدقيق بين الدين والثقافة والتفسير البشري، وهو أمر مهم أيضًا في الإسلام. فالعادات والقواعد الإسلامية الراسخة هي في المقام الأول نتائج سياسات ثيوقراطية لسلطة دينية ضمن ثقافة العصور الوسطى.

وهي لا تأتي بشكل مباشر من القرآن الشامل والمناسب لكل الأزمنة. خلال مسيرتي المهنية حتى تقاعدي في سن 65 عامًا، لم يكن لدي الوقت الكافي لدوري كشيخ في الطريقة المولوية إلا خلال المساء وعطلات نهاية الأسبوع. ثم أصبحت هذه المهمة عملي الرئيسي منذ ما يقرب من عشر سنوات.

ضريحٌ صوفيٌّ. Lektüre an einem Sufi-Schrein; Foto: Marian Brehmer
الثقافة الصوفية خارج العالم الإسلامي؟ يقول بيتر حسين كونز إن "الكثير من الأشياء التي تعتبر بديهية -غير قابلة للمساس بها في الإسلام الشرقي- مرفوضة عندنا باعتبارها لا تطاق. ولقد قمت أنا وزملائي في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية بالتفاوض مع قيادة الطريقة بشأن تطويع قواعد الطريقة من أجل تقبلها في الغرب. عندنا (في الطريقة المولوية) يتمتع الرجال والنساء بحقوق متساوية في كل شيء. نحن نحتفل ونمارس الرقص الصوفي المعروف بـِ "سما" أو "سماع"، وهو طقس خاص بالدراويش أشبه برقص دائري، يُمارَس على نحو مختلط؛ وليس لدينا أي قواعد لباس محددة للحياة اليومية". Foto: Marian Brehmer

تقاليد عمرها قرون وواقع حياتي غربي

لدى الطريقة المولوية تقاليد يمتد عمرها لقرون، نمت في الأناضول والنطاق الثقافي للإمبراطورية العثمانية. فما هي التحديات التي واجهتها أنت في تطويع هذه التقاليد مع الواقع الحياتي للناس في سويسرا؟

كونز: نعم، تشكلت الطريقة المولوية وانتشرت في ظل سياسة وحضارة الإمبراطورية العثمانية. ويتمسك نظرائي في تركيا في الأغلب بفهم سني أصولي للإسلام، وهو الفهم الذي لا يحظى بصدى كبير بين الناس في سويسرا وفي الغرب بشكل عام.

إن الكثير من الأشياء التي تعتبر بديهية وغير قابلة للمساس بها في الإسلام الشرقي هي مرفوضة عندنا باعتبارها لا تطاق. ولقد قمت أنا وزملائي في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية بالتفاوض مع قيادة الطريقة بشأن تطويع قواعد الطريقة من أجل تقبلها في الغرب. عندنا (في الطريقة) يتمتع الرجال والنساء بحقوق متساوية في كل شيء. نحن نحتفل ونمارس الرقص الصوفي المعروف بـِ "سما" أو "سماع"، وهو طقس خاص بالدراويش أشبه برقص دائري، يمارس على نحو مختلط؛ وليس لدينا أي قواعد لباس محددة للحياة اليومية.

ومع ذلك فإننا نتمسك بالتقاليد في أنشطة الطقوس. فللطقوس قوتها الخاصة التي لا نريد أن نفقدها من خلال تخفيفها. وفي ظل الثقافة الفردية للغرب، من الضروري إعادة اكتشاف قيمة وقوة الطقوس الدينية الموجودة.

كان مولانا جلال الدين الرومي راسخًا ثقافيًا وعقائديًا في الإسلام السني. وتتطلب تعاليمه أن ينتمي المرء إلى دين تقليدي يمكن من خلاله ممارسة التواضع والالتزام تجاه الله والاستسلام له، ولكن أيضًا الانفصال عن الشكليات في لحظات السمو الروحي. لا أستطيع أن أجد أي نظير للعقلية الغربية لدى مولانا، على الرغم من أن كثيرين من المفتونين بقصائده، يعتقدون أن مولانا مفكر حر.

"التصور الغربي للإسلام يكاد لم يتحسن"

في رأيك، كيف تطورت صورة الإسلام على مر السنين التي قضيتها في الانشغال بهذا الدين؟

كونز: في الغرب نحن على دراية في المقام الأول بالإسلام السياسي ذي الطابع السني أو الشيعي، والذي يتم تناوله بشكل بارز في وسائل الإعلام. ولكن ليس لدينا أدنى فكرة عن التنوع الهائل في التفسيرات التي يسمح بها القرآن. هناك عدد لا يحصى من الطرق الصوفية التي تحافظ على أسلوبها الخاص في ممارسة العقيدة الإسلامية.

وبرغم أن الصوفية أصبحت أكثر شهرة في الغرب خلال العقود القليلة الماضية لم يتحسن التصور الغربي للإسلام إلا قليلاً. وهذا لا يرتبط فقط بسطحية الفهم الغربي، وإنما يتعلق أيضًا بالعمى العقلي المستعصي لرجال الدين المسلمين، الذين ينظرون باستمرار في المرآة الخلفية ولا يجرؤون على اقتراح تجديدات في الخطاب الإسلامي. 

 

تغير المناخ، الحرب في أوكرانيا...: نحن نعيش في أوقات مضطربة وغامضة. فما هي رسائل مولانا التي تعتبرها محورية بالنسبة للناس اليوم؟

كونز: في اعتقادي أن المشكلة الأكبر المرتبطة بتغير المناخ ستكون الارتفاع المتوقع في مستويات سطح البحر، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى هجرات كاملة للشعوب، وما يترتب على ذلك من عواقب سياسية واجتماعية ذميمة. الحروب وهجرات الشعوب ليست جديدة، فقد كان هذا موجودًا دائمًا.

نشأ مولانا نفسه في أوقات مضطربة وغامضة. واضطر والده إلى الفرار مع عائلته من هجوم المغول. كما واجه أيضا أوقاتًا عصيبة داخل الأسرة عندما عارض أحد أبنائه -وبشدة- معلمه وصديقه شمس التبريزي. لكن كل هذا لم يضعف إلهامه.

Here you can access external content. Click to view.

نعم، أزمة المناخ تخيفنا؛ كما أن العدد الكبير من طالبي اللجوء يخيفنا. ونحن في حالة خوف بسبب التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا التي أدت إلى الحرب الحالية في أوكرانيا، ولكن أيضا بسبب المنافسة الشرسة بين الولايات المتحدة والصين.

خوف من ماذا؟ بالطبع خوف من الخسارة المادية أيا كان نوعها. وهذا هو الخوف الإنساني بالتحديد هو الذي تحاول التعاليم الصوفية التغلب عليه. لقد وعظ مولانا بذلك مراراً وتكراراً: الأمر لا يتعلق بالتنصل من المسؤولية الاجتماعية أو السياسية، وإنما يتعلق بالتخلي عن التشبث بذاتنا نحن، التي تشعر بالخوف وحب الأنا.

يمكننا ممارسة هذا في كل موقف في الحياة. والتغييرات الخارجية المعلنة هي رسائل من أجل تغيير ضروري داخل أنفسنا. ومن خاف من التغيير فسيبقى عالقًا في وضع الأزمة وليس لديه فرصة للنمو الروحي.

 

 

حاوره: ماريان بريمر

ترجمة: صلاح شرارة

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

Qantara.de/ar

 

درس ماريان بريمر الدراسات الإيرانية وهو كاتب مستقل يركز على التصوف الإسلامي. وهو أيضا مؤلف كتاب "الكنز تحت الأنقاض: رحلاتي مع الرومي إلى منابع الحكمة" (دار نشر هردر، 2022)، والكتاب عبارة عن رحلة روحية تروي لقاءات مع الصوفيين والباحثين والحكماء في أفغانستان وإيران وسوريا وتركيا.

Here you can access external content. Click to view.