نهاية ثقافة الترحيب بالمهاجرين في ألمانيا

في عام 2015 تدفق الكثير من الأشخاص في ألمانيا على محطات القطار للترحيب بلاجئين سوريين Two men carry a red banner reading "Refugees Welcome" through a crowd of people Foto: Jens Meyer/AP Photo/picture alliance
ارتداد ألمانيا عن ثقافة الترحيب بالمهاجرين: في عام 2015 تدفق الكثير من الأشخاص على محطات القطار للترحيب بلاجئين سوريين، وبعد سنوات من ارتفاع معدلات الهجرة لم يتبقَّ الكثير من ثقافة الترحيب باللاجئين. ‏Foto: Jens Meyer/AP Photo/picture alliance

يرى الصحفي الألماني ميشائيل برونينغ في تحليله التالي أن هجوم حماس على إسرائيل -وما نتج عنه من حرب في غزة وتصاعد معاداة السامية- أدى إلى زيادة تشدد المزاج العام في ألمانيا بشأن موضوع الهجرة.

الكاتب، الكاتبة : Michael Bröning

أوضح المستشار أولاف شولتس في مقابلة مع مجلة دير شبيغل الأسبوعية أن "أعدادا كبيرة جداً تأتي" إلى ألمانيا، وأكدت نظرة المستشار الألماني الجادة الظاهرة على صورة الغلاف أهمية تصريحه بأنه "يجب علينا أخيراً أن نقوم على نطاق واسع بترحيل أولئك الذين ليس لديهم حق البقاء في ألمانيا".

ومثل هذه الرسالة -التي تحتاج إلى توضيح من رئيس ائتلاف إشارة المرور الألماني- تُعتبر نقطة تحول في النقاش السياسي الداخلي حول الهجرة. ومع ذلك -ومن جوانب كثيرة- تعتبر لغة شولتس القوية تعبيرا عن تحول سياسي عميق ومتفاقم منذ فترة طويلة.

في يونيو / حزيران 2023 تجاوز شولتس الأصوات المعارضة داخل تحالفه وساعد في تنفيذ اتفاق شامل بشأن الهجرة لإعادة تقييم إجراءات اللجوء في الاتحاد الأوروبي، وتتيح القواعد الجديدة المخطط لها للاتحاد الأوروبي إقامة مراكز لإجراءات اللجوء على حدوده الخارجية، وفي خطابه أمام البرلمان الألماني -البوندستاغ- أعلن شولتس أن إعادة هيكلة نظام الهجرة الأوروبي -"المختل تمامًا"- تعتبر إنجازًا "تاريخيًا".
 
ومؤخرا قدمت حكومة شولتس مشروع قانون من المفترض أن يؤدي إلى تسهيل عمليات الترحيل، وذلك من خلال تمديد الفترة الزمنية القصوى للاحتجاز قبل الترحيل، وتبسيط إجراءات الترحيل للمجرمين المدانين، بالإضافة إلى إدخال نقاط تفتيش مؤقتة عند الحدود داخل الاتحاد الأوروبي للحد من الهجرة غير النظامية.
 
وعلاوة على ذلك فقد نأى شولتس بنفسه عن قرار تقديم الدعم المالي للمنظمات غير الحكومية، التي تقوم بعمليات البحث والإنقاذ في البحر المتوسط، مؤكدا أن هذه الأموال تمت الموافقة عليها من قبل البرلمان وليس من قبل حكومته.

Here you can access external content. Click to view.

تحول في الرأي العام

هذا الارتداد الكبير عن ثقافة الترحيب التي أشيد بها كثيرا في عام 2015، عندما اندفعت حشود الألمان إلى محطات القطارات ليُرحبوا باللاجئين السوريين، يرجع في المقام الأول إلى معدلات الهجرة الكبيرة في السنوات الأخيرة.

فمنذ فترة طويلة وألمانيا هي الوجهة الرئيسية لطالبي اللجوء في الاتحاد الأوروبي. إذ ارتفع عدد الأشخاص الذين يبحثون عن حماية إنسانية في ألمانيا من عام 2021 إلى عام 2022 بمقدار 1,14 مليون شخص. وتعتبر هذه واحدة من أعلى الزيادات السنوية منذ عام 2007، عندما بدأ مكتب الإحصاء الاتحادي في جمع هذه البيانات.

ويتواصل هذا الاتجاه هذا العام أيضًا بالتزامن مع الركود الاقتصادي الذي يلوح في الأفق والموارد المنهكة على المستوى المحلي، مؤديا إلى تحول واضح في الرأي العام في ألمانيا.
 
وتمتد المخاوف المتعلقة بالهجرة الآن عبر جميع المعسكرات السياسية: 44 في المائة من الألمان يرون أن هذا الموضوع هو الأهم الذي يواجه البلاد.
 
 

الائتلاف واقع تحت ضغوط

شولتس -الواقع بالفعل تحت ضغوط من اليمين- يجد نفسه الآن أمام تحدٍ سياسي إضافي: ففي نهاية أكتوبر / تشرين الأول 2023 أعلنت الزعيمة السياسية اليسارية السابقة سارة فاغِنكنيشت عن نيتها تأسيس حزب جديد. وُلِدت سارة فاغِنكنيشت ونشأت في ألمانيا الشرقية، وكانت لفترة طويلة شخصية مركزية في حزب اليسار في مرحلة ما بعد الشيوعية، وتشتهر بتركيزها على ناخبي وناخبات الطبقة العاملة وانتقادها للمساعدات العسكرية لأوكرانيا ودعواتها الصاخبة للحد من الهجرة.

في عام 2021 قامت سارة فاغنكنيشت -التي تظهر كثيرا في برامج حوارية ألمانية وتتحدث ببراعة وبأسلوب بليغ- بنشر هجوم شامل في شكل كتاب ضد الليبراليين اليساريين الذين وصفتهم بأنهم "معجبون بأنفسهم"، والذي أصبح فورًا من أكثر الكتب مبيعًا. ووفقًا لاستطلاعات رأي حديثة يفكر ما يصل إلى 27 في المائة من الناخبين الألمان في دعم حزبها الجديد.

وعلى هذه الخلفية فإن تحول مسار شولتس اللغوي الخطابي فيما يتعلق بالهجرة يشبه بحثا يائسا عن مكابح الطوارئ. فالتقاعس عن التحرك من شأنه أن يكلفه غالياً، لكن الأمر نفسه ينطبق على (القيام بـ) تدابير فعالة. ومن المؤكد أن لهجته القاسية تثير غضب حزب الخضر -شريكه الائتلافي- الذي يفتخر بترحيبه بالمهاجرين.

بالإضافة إلى ذلك يواجه شولتس أيضًا انتقادات متزايدة من داخل صفوفه، فقد أعلن شباب الحزب الاشتراكي الديمقراطي معارضتهم لتشديد قوانين الهجرة، قائلين إنه "لا فائدة من ترديد أغنية اليمين". علاوة على ذلك فإن مقاومة المجتمع المدني والقادة الدينيين ووسائل الإعلام التقدمية أدت في الماضي إلى أن اتخاذ موقف أكثر صرامة بشأن الهجرة كان أمرا به خطورة من الناحية السياسية.

الاستقطاب بدلا من التوافق السياسي

وفي الوقت الحالي ومع تصاعد وتيرة الصراع في الشرق الأوسط فإن الظروف قد تغيرت بالنسبة لهذا النقاش. فمن خلال لعبة معقدة من الأحداث دفعت الحرب في غزة الكثير من الألمان إلى تساؤلات حول سياسة الهجرة، التي كانت مقدسة من قبل. وكانت النتيجة أن أفسح الاستقطاب المجال أمام توافق سياسي.

فمقتل أكثر من 1000 مدني إسرائيلي على يد حماس سبب رعبًا عميقًا لدى قطاعات كبيرة في الرأي العام الألماني. ومع ذلك -كانت هناك صدمة بالنسبة للكثيرين أيضًا- عندما تحتم عليهم أن يروا أن إحساسهم لم يشاركهم فيه الجميع على نطاق واسع.

فجزء معتبر من المهاجرين في ألمانيا، كثير منهم لهم صلات عائلية في الشرق الأوسط ويعيشون في أحياء محرومة، كانت لديهم تقييمات وتعبيرات تعاطف مختلفة بشكل جذري.

فمنذ مذبحة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 سجلت الرابطة الاتحادية لمراكز البحوث والمعلومات المتعلقة بمعاداة السامية أكثر من 200 حادث معادٍ للسامية في ألمانيا، بما في ذلك حريق متعمد في معبد يهودي. وفي حي نويكولْن في برلين اكتسبت مجموعة إسلامية سمعة محزنة عندما وزعت الحلوى في الشارع احتفالاً بوحشية حركة حماس.

بالنسبة لكثير من الألمان فإن زيادة مظاهر معاداة السامية تضرب في جوهر هويتهم بعد الهولوكوست (المحرقة)، لاسيما فكرة "لن يحدث أبدا مرة أخرى" أو بالألمانية "Nie wieder". وفي الوقت نفسه تستخدم معاداة السامية كدليل لا يُنكر بشكل واضح على تحديات الاندماج. وقد قام الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير بالتعبير عن المزاج العام عندما نبه الجمهور إلى أن "كل من يعيش هنا يجب أن يعرف أوشفيتس وأن يدرك المسؤولية التي تنشأ عن ذلك بالنسبة لبلادنا".

Here you can access external content. Click to view.

وعلى نحو مفاجئ -وليس بالضرورة على نحو متباين بتدرُّج- أدى الاستياء إزاء سلوك قِلة من الناس إلى إضفاء الشرعية على الانقلاب في سياسة الهجرة والذي قد يؤثر على آلاف أخرى من الناس.

ومن غير الواضح إنْ كان هذا التوافق سيستمر أم لا، أو إنْ كانت هذه التغييرات الجذرية في الخطاب والتدابير ستكون كافية لتهدئة الرأي العام القلق. ولكن من الواضح في الوقت الحالي أن ثقافة الترحيب بالمهاجرين في ألمانيا أصبحت ضحية غير متوقعة للحرب بين إسرائيل وحماس.
 

ميشائيل برونينغ
ترجمة: صلاح شرارة 
حقوق النشر: بروجيكت سينديكت / موقع قنطرة 2023
Qantara.de/ar
 

ميشائيل برونينغ هو محلل سياسي وصحفي. ظهر آخر كتاب له بعنوان "Vom Ende der Freiheit"، بالعربية: "عن نهاية الحرية" (صدر عن دار نشر دِيتْس في عام 2021)، كما أنه عضو في لجنة القيم الأساسية للحزب الاشتراكي الألماني.