عائشة المانع: قصة أول سيدة قادت السيارة في الرياض

الطلاب السعوديون في لبنان. تبدو المؤلفة والناشطة عائشة المانع إلى يمن الصورة بالنظارة السوداء
الطلاب السعوديون في لبنان. تبدو المؤلفة والناشطة عائشة المانع إلى يمين الصورة بالنظارة السوداء. الصورة: جداول للنشر والترجمة والتوزيع

ظلت سير النساء السعوديات مهمشة على صعيد كتابة تاريخ الحركة النسوية في الشرق الأوسط، إذ لطالما تركزت القراءات على سيرة النسويات في القاهرة وبيروت أو دمشق، في حين تكشف لنا سيرة المانع أننا أمام قصة منسية ومثيرة عن قصص النساء ومحاولاتهن للتغيير في العالم العربي.

الكاتبة ، الكاتب: Mohamad Alrabiuo

على امتداد عقود طويلة مُنِعت النساء السعوديات من قيادة السيارة، وقد بقي هذا الحظر قائما حتى عام 2017، عندما أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز قرارا يسمح بحصول النساء على رخصة القيادة. لكن خلال سنوات قصيرة، أخذت النساء في السعودية بسيارتهن الفارهة يزاحمن الرجال في شوارع مدينة الرياض على مستوى المناورة، والتفحيط أحيانا.

هذا المشهد، الذي بات جزءا عاديا من حياة عاصمة المملكة العربية السعودية، لم يكن أمرا يسيرا في فترات سابقة، إذ شهدت السعودية خلال التسعينيات عدة محاولات نسائية لتجاوز هذا الحظر، وقد ارتبطت هذه المحاولات بأسماء بعض النساء وفي مقدمتهن الاكاديمية السعودية عائشة المانع (ولدت سنة 1942)، والتي قادت سيارتها في عام 1990 من مدينة الخبر نحو الرياض. كما شاركت لاحقا فيما عرف بيوم 6 نوفمبر في العام ذاته، عندما قامت 47 سيدة بقيادة عدة سيارات في شوارع المدينة، مما أثار ردود فعل سلبية عديدة من قبل السلطات ورجال الدين. 

بقيت الأسئلة تدور حول الأسباب التي دفعت عائشة لقيادة السيارة في الرياض ذاك اليوم، وما خلفية هذه السيدة، ومن أين جاءت بهذه الشجاعة؟

وتبدو الإجابة اليوم أكثر وضوحا مع إصدار المانع لسيرتها الذاتية بعنوان "حد الذاكرة"، والتي تناولت فيها تفاصيل عن طفولتها ودراستها في أميركا وقيادة السيارة في التسعينيات وما بعد. 

غلاف كتاب "حدَّ الذاكرة" للدكتورة عائشة المانع
كتاب " حدَّ الذاكرة" هو السيرة الحياتية، التي سردتها الناشطة السعودية عائشة المانع بكل تفاصيلها، من مولدها بالخُبر وإلى تحقيقها لحلم والدها بإنشاء كلية محمد المانع للعلوم الطبية، وتأسيسها "وقف رفيف العلمي" مرورا بكل التحولات التي عاصرتها وعايشتها المؤلفة. الصورة: الطلاب السعوديون في لبنان. تبدو المؤلفة والناشطة عائشة المانع إلى يمن الصورة بالنظارة السوداء. الصورة: جداول للنشر والترجمة والتوزيع

دراجة عائشة

أمضى والدها (محمد المانع) اثنا عشر عاما من طفولته في الهند خلال بدايات القرن العشرين. درس خلالها في إحدى المدارس الانكليزية، وعاد في العشرينيات وعمل مع الملك عبد العزيز آل سعود (1877_1957) مترجما. كما ساعد في الترجمة للتجار القادمين من الهند، إضافة إلى أنه أدار النقاش بين الملك والمستشرق ليبولند، والذي عرف في الغرب باسم محمد أسد بعد اعتناقه الإسلام.

في منتصف الثلاثينيات، انتقل الأب المانع للعمل مع شركة "كاليفورنيا العربية للزيت/ أرامكو لاحقا"، والتي أخذت بالتنقيب عن النفط في المنطقة الشرقية في البلاد، وأسّس لاحقا شركة مقاولات عامة في المدينة. أخذت شركة النفط تدخل تفاصيل كبيرة على حياة مدينة الخبر، في محاولة لجعلها تشبه مدينة مانهاتهن الأميركية. وفي هذه المدينة الحالمة ستكبر الطفلة عائشة. وبالرغم من هذه التطورات الحضرية، إلا أن تعليم الفتيات ظل مقتصرا على البيوت الصغيرة والأهل. 

في أحد الأيام، وبينما كانت عائشة تلعب مع الأطفال في حيهم، أخذها والدها ومضى بها إلى مطار قريب من مدينتهم، وهناك أعلمها بأنها ستسافر للدراسة في مصر. أمسك بيديها وهو يقول: "يا عائشة لا أريدك أن تكوني مثل أمك وجدتك، أريدك أن تتعلمي وأن تعلمي بنات بلدك". بقيت هذه العبارة ترافق عائشة طوال السنوات. وفي مصر كان القرار أن تدرس في كلية البنات الإنكليزية (مدرسة النصر لاحقا) بالإسكندرية.

وخلافا لما درجت عليه العادة لاحقا في كتابات بعض المثقفين العرب، أو ما بعد الكولونياليين مثل ادوارد سعيد، والذين كتبوا أحيانا بشكل سلبي عن المدارس الأجنبية التي درسوا فيها في مصر، تبدو عائشة وهي تتذكر تلك اللحظات أكثر إيجابية. فهي تشعر بالامتنان لتلك السنوات التي شكلت كما تذكر شخصيتها، وأتاحت لها التعرف في عمر صغير على أشياء كثيرة مثل تعلم ركوب الدراجة. بدأت تقود الدراجة بمهارة، الأمر الذي لم يكن متاحا آنذاك في مدينتها في السعودية. ربما لم يخطر في بالها، أن هذه الدراجة ستتحول لاحقا إلى سيارة تقودها في شوارع مدينة الرياض. 

عائشة المانع الطفلة مع والدها أول وصولهم إلى القاهرة.
عائشة المانع الطفلة مع والدها محمد المانع أول وصولهم إلى القاهرة. الصورة: جداول للنشر والترجمة والتوزيع

نادلة قادمة من بلاد النفط!

انتقلت عائشة إلى العاصمة اللبنانية بيروت، لكنها لم تمكث طويلاً. اذ قررت لاحقا إكمال دراستها في أميركا. وشهدت السعودية في فترة الستينيات والسبعينيات إرسال عدد كبير من الطلاب للدراسة في أميركا، ويبدو أن الابتعاث لم يقتصر فحسب على الذكور، بل شمل عددا من النساء مثل الأنثربولوجية المعروفة ثريا التركي.

 درست السوسيولوجيا، خلافا لأحلام والدها بأن تكمل في الطب. بدت لها الجامعات في أميركا السبعينيات مسرحا للكثير من الأحداث والاحتجاجات المندّدة بالفصل العنصري والمستنكرة للحرب الأميركية في فيتنام. والملفت هنا، أن هذه الفتاة القادمة من بلاد النفط، قبلت أن تعمل كنادلة تمسح الطاولات بسبب عدم وجود تمويل كاف، وتعسر أحوال عائلتها. 

درست المانع في مرحلة الماجستير درجة التدين في المجتمع السعودي، ووجدت يومها أنّ موضوع الحجاب في الخمسينيات كان أكثر انفتاحا وتقدما في مصر، وبعض المناطق السعودية، مقارنة بالستينيات، بعد هيمنة الصحوة الإسلامية على مرافق الحياة، لهذا لم تخش من أن تذكر من أنّ الحجاب هو ممارسة اجتماعية لا شعيرة دينية. 

ظلت المانع مقتنعة بهذا الفهم لتاريخ الحجاب، وهذا ما نلاحظه في صورها الشخصية المنشورة في السيرة، إذ نراها في غلاف سيرتها تظهر وهي ترتدي حجابا بسيطا احتراما للتقاليد المحلية السعودية، في حين ضمت السيرة في الداخل عشرات الصور والتي تظهر خلالها بدون غطاء أو حجاب.

 أكملت المانع لاحقا دراستها في جامعة كولورادو الأمريكية العريقة حول تنمية المجتمعات، وعادت لاحقا إلى بلادها، إلا أنّ القوانين والعادات ونفوذ المؤسسة الدينية حال في مرات عديدة دون تحقيق بعض خططها. 

جنديات أميركيات في السعودية

في شهر أغسطس من عام 1990، عاشت السعودية والخليج العربي عموما حالة توتر واستنفار بعيد الغزو العراقي للكويت. وقد أرسلت القوات الأميركية عدداً من جنودها إلى بعض المدن السعودية تجنبا لأي مفاجآت جديدة. 

في هذه الفترة، بقيت عائشة تستعين بسائق خاص للانتقال بين مكان وآخر. وبينما كانت في أحد الأيام جالسة خلف السائق على طريق الخبر  -الرياض، أخذت تراقب أرتال الآليات الحربية الأميركية تعبر الطريق، وبعضها تقودها جنديات أجنبيات. وهنا قفزت إلى ذهنها فكرة قيادة السيارة، والتي تعلمتها أثناء وجودها في الخارج. وعلى الفور طلبت من سائقها السيريلانكي الجلوس في المقعد الخلفي، والذي بدا مندهشا مما يجري. ركبت عائشة خلف مقود سيارتها اللينكولن البيضاء وانطلقت باتجاه الرياض. 

عند دخولها للمدينة أخذت العيون تتابعها، وبدا المشهد كما لو كانت مخلوقا فضائيا، وتابعت القيادة إلى أن وصلت لمقر عملها. وهناك أخبرت صديقاتها عن إحساسها وشعورها بالفرح والزهو بما فعلته.

بعد عدة أيام من هذا الحادث، اجتمعت عائشة مع 46 سيدة أخرى في إحدى بيوت الرياض، وتناول الحديث قصة صعوبات التنقل في مدينة الرياض آنذاك، في ظل هروب السائقين الأجانب. كنا يعتقدن أنّ الحرب قد تندلع مما يعني اضطرار الرجال للانتقال إلى الحدود. هذه الأفكار، وإن بدت مبالغة رومانسية قليلاً، كانت كافية لدفعهن إلى الدعوة والاتفاق على ضرورة إرسال رسالة تتمثل بحقهن في قيادة السيارة أسوة بالمجندات الاميركيات أو النساء الكويتيات اللواتي سمح لهن بقيادة السيارة بعد هروبهن مع عائلاتهن للسعودية. وجاءت الرسالة مع 6 نوفمبر عندما ركبن سياراتهن وأخذن يتجولن في المدينة.

ولم يمر وقت حتى كانت سيارات الشرطة تلاحقهن الواحدة تلو الأخرى، ونقلن بعدها إلى أحد مراكز الشرطة، وأطلق سراحهن في نفس اليوم. وبالرغم من مرور ثلاثة عقود وأكثر على هذه الحادثة، لا تزال المشاركات بأحداث تلك المسيرة يحتفلن سنويا بأول محاولة لقيادة النساء السعوديات للسيارات في مدينة الرياض.

 

محمد تركي الربيعو

حقوق النشر: قنطرة 2024

 

 

Here you can access external content. Click to view.