قصة رحالة يهودي أعلن إسلامه

ليوبولد فايس ولد في عائلة يهودية ثم اعتنق الإسلام لينتهي بترجمة القرآن إلى اللغة الأنكليزية؛ حياة تنقل دائم ماتزال مثار إعجاب إلى اليوم. جوزيف هانيمان يقدم هنا هذه الشخصية.

ليوبولد فايس بلباس عربي تقليدي، الصورة: www.theorientalist.info
إعتنق الإسلام تحت إسم محمد أسد وبدأ برتدي اللباس العربي ويتكلم العربية بدلاً من الألمانية

​​هل كان حالما مغامرا، أم متدينا متحمسا؟ في كل الأحوال فإن هذا الرجل ما يزال يثير الانتباه بمسار حياته الخيالي. ولد ليوبولد فايس يهوديا سنة 1900 وترعرع في فيينا، ثم غدا في ما بعد مساعدا للمخرج السينمائي فريدرش مورناو ببرلين، قبل أن يقوم برحلة عبر بلدان المشرق من القاهرة إلى طهران كمبعوث لصحيفة "فرانكفوتر تسايتونغ".

بعدها اعتنق الديانة الإسلامية وغير إسمه ولغته ولباسه، وكان ممن شارك في وضع الأسس النظرية لتأسيس دولة باكستان التي غدا ممثلها لدى الأمم المتحدة في ما بعد. شخصية ليوبولد فايس، محمد أسد فيما بعد، تعكس في مسارها مجمل أحداث القرن المنصرم.

"ليوبولد فايس المسمى أيضا محمد أسد؛ من غاليسيا إلى الجزيرة العربية 1900-1927" هو عنوان الدراسة المفصلة لغنتر فيندهاغر الصادرة عن دار"بوهلاو" بفيينا، والذي اقتصر كاتبه فيه على الفترة الأولى من حياته؛ أي حتى لحظة تحوله إلى الديانة الإسلامية.

"يهودي مناصر للإسلام"، هو عنوان كتاب صدر في فرنسا للكاتبة فلورنس هايمان عن دار ستوك الفرنسية للنشر. وقد سلط هذا الكتاب الضوء على الحقبة الأخيرة أيضا من حياة ليوبولد فايس حتى وفاته سنة 1992، معتمدا في جزء منه على وثائق من أرشيف مدينة القدس.

كان بإمكان حفيد الحاخام الأورثوذوكسي بنيامين أرجيا فايس تشيرنوفيتش، وابن المحامي اللمبرغي كيفا فايس أن يواصل، بكل بساطة، المسار العلماني لعائلته.

كما كان من الممكن له بعد انتقال أبويه إلى فيينا سنة 1914 أن يواصل طريق التنقل هذه التي كانت ستقوده عبر حطام مملكة الدانوب وخلال سنوات الازدهار التي عقبت الحرب العالمية الأولى، في هجرة طوعية إلى فلسطين أو في رحلة طائشة إلى أميركا أو نحو موت داخل محارق هتلر، كما حدث لأبيه وأخواته.

لكن هذا الشاب، وبعد دراسة غير متحمسة بشعبة الفلسفة، قد فضل على كل ذلك أن يظل متنقلا بين مقاهي الأدباء بفيينا ثم برلين من بعدها، والعمل من حين لآخر إلى جانب السينمائي مورناو.

بعدها بدأ يعمل في معالجة برقيات الأنباء لدى وكالة رودولف دامرت للأنباء، وهي فرع لوكالة "يونايتد براس أوف أميركا" ، قبل أن أن يتوفق أخيرا للتحول إلى صحفي محترف على حوار خاص أجراه مع زوجة الكاتب الروسي مكسيم غوركي سنة 1921.

بحثا عما هو أسمى

سنوات الانطلاقة الاقتصادية لفترة ما بين الحربين التي كانت مركزة على التطور التقني والرفاه المادي قد أثارت في ذلك الشاب شعورا بالاغتراب، أو هكذا كان الأمر على الأقل كما يصف ذلك هو نفسه في مذكراته التي صدرت سنة 1954 تحت عنوان "الطريق إلى مكة".

كان ليوبولد فايس يعتبر ذلك الوضع الذي يعبر عنه هرمن بروخ بـ"فراغ القيم" كإحدى الأعراض المميزة لمجتمع لم يعد له من هاجس سوى البحث عن وسائل الراحة والرفاه. أما هو فكان يبحث عما هو أسمى.

و كان قد تمكن في سنين طفولته بفضل معرفة متينة باللغة العبرية من قراءة الكتب المقدسة، لكنه أضاع الصلة بالديانات من بعدها داخل بيت عائلته الذي أصبحت الدنيا همَّه الأول.

ومع ذلك فإنه لم يكن من الصعب على الشاب في ما بعد أن يشعر بالميل إلى الاتجاه الفكري لمارتن بوبر أو أويجن هوفليش، ذلك الاتجاه الذي يعيد التراث اليهودي إلى الموروث الشرقي متخطيا في ذلك الثقافة الأوروبية.

وقد أشعلت أحلام الشرق الجميلة التي سادت الأوساط الأدبية في برلين جذوة اهتمامه هذا. حيث راجت فكرة الصحراء كانعكاس لصورة غير رجعية منفتحة على العالم مناهضة للحداثة في التصور الأوروبي منذ إليزابيث إيبرهارد وت.هـ.لورنس.

لم يفوّت فايس على أية حال وهو في الثانية والعشرين من عمره الدعوة التي وجهها له عمه دوريان فايغنباوم المقيم في القدس لزيارته هناك.

حيث اصطدم في الشرق الأوسط بالأوضاع المتوترة أثناء الحقبة الاستعمارية التي لحقت انهيار الامبراطورية العثمانية، حيث تتنازع بريطانيا وفرنسا اقتسام مناطق النفوذ، وحيث بدأ الوافدون من اليهود المهاجرين اثارة حفيظة السكان الفلسطينيين.

وكان ليوبولد فايس قد وقف منذ البداية موقف الرافض للفكرة الصهيونية. وكانت فكرة تأسيس دولة يهودية على النمط الأوروبي تبدو له مشبوهة فهي أقرب إلى فكرة تخدم مصالح السيطرة الأوروبية أكثر من أي شيء آخر، وهي فكرة يصعب على الشعب العربي أن يقبلها.

إضافة إلى أن فكرة تأسيس دولة يهودية في فلسطين كانت تمثل في نظره انحرافا مشوها للتراث اليهودي. كما أنه غادر أوروبا الحديثة وفي نفسه شعور بالاغتراب ليجد لدى المهاجرين اليهود نفس الهوس الأوربي بالقيم المادية- الذي لم يحدث له إلا أن انتقل إلى عالم المشرق.

بينما بدا له في مقابل ذلك أن العرب بثقافة حياتهم التي لا تزال محافظة على طابعها الساميّ "هم السكان الحقيقيون لهذه البلاد"، كما عبر عن ذلك فيما بعد في مذكراته.

دوّن ليوبولد فايس كمراسل خاص لصحيفة "فرنكفورتر تزايتونغ" مثل هذه الملاحظات وغيرها، وقد أرسل تلك المقالات إلى أهم الصحف الألمانية آنذاك، التي رفضتها جميعا عدا "فرنكفورتر تزايتونغ".
ثم عرضت عليه هذه الأخيرة عقد مراسل خاص لإنجاز سلسلة من التقارير الصحفية وكتاب صدر سنة 1924 عن دار "سوسييتيتس فرلاغ" تحت عنوان "مشرق مجرد من الرومنطيقية؛ من يوميات رحلة".

في إطارمهمته الصحفية هذه سافر ليوبولد فايس إلى القاهرة وعمان، ثم إلى بيروت و دمشق خفية ومشيا على القدمين، لأن الإدارة الفرنسية رفضت منحه كنمساوي تأشيرة للدخول.

كانت مقالاته ملتزمة جريئة في تحاليلها وراقية في أسلوبها، لكنها انتقادية تجاه الحركة الصهيونية بطريقة جعلت إدارة التحرير في فرنكفورت ترى نفسها مجبرة على التباين مع موقف كاتبها.

ومع ذلك فقد استطاع هذا الأخير لدى عودته إلى ألمانيا خريف سنة 1923 أن يعاين عن كثب إلى أي مدى كانت مقالاته ناجحة. ثم عرض عليه رئيس التحرير هاينرش سيمون رحلة أخرى، فارتحل مجددا صحبة زوجته الرسامة البرلينية إلزا شيمان وابنها هاينرش من مصر عبر بغداد وأفغانستان باتجاه إيران.

حيث أقام لمدة سنة ونصف وتمكن، ليس دون تحفظ، من متابعة صعود رضا خان مؤسس السلالة الحاكمة الذي اعتقد أنه رأى فيه مؤسس دولة قومية لائكية على النمط التركي الكمالي.

اعتناق الإسلام

لدى عودته إلى ألمانيا قدم فايس، الذي غدا في هذه الأثناء كاتبا ذا شهرة، استقالته من العمل في صحيفة "فرنكفورتر تزايتونغ"، وتحت إسم محمد أسد اعتنق الإسلام بمعية زوجته وابنه بالتبني، ثم انطلق في شهر يناير 1927 في رحلته المشرقية الثالثة.

منذ تلك اللحظة ارتدى المسلم الجديد اللباس المشرقي وبدأ يتكلم العربية عوضا عن الألمانية. وكانت وجهة رحلته الأساسية في هذه المرة مكة.

هناك فقد زوجته إثر وفاة مفاجئة وعمّق معرفته بالقرآن، وسرعان ما انضم إلى مجلس المستشارين لدى الملك عبد العزيز بن سعود. وقد بدا للأسد الساعى وراء الحقيقة أنه قد لمح في المذهب الوهابي المتحجر بشائر التجديد الإسلامي المرتجى من منطلق العودة إلى الروح الأصيلة للإسلام،

إلى أن خاب أمله فيه وابتعد عنه مغادرا البلاد مع زوجته الجديدة، إحدى بنات الشيوخ، وابنهما المشترك طلال. وعبر كراتشي واصل رحلته باتجاه مناطق البنجاب.

لم يكن تحول ليوبولد فايس إلى الإسلام مع ذلك مجرد نوع من القطيعة المتعصبة مع ماضيه الخاص، ذلك ما سيثبته تصرفه على إثر إلحاق النمسا بالرايخ الألماني. فلما بلغه نبأ الوضع العسير لعائلته سافر إلى فيينا سنة 1939 ومنها إلى لندن بغية السعي إلى الحصول على تأشيرة سفر لكل من أبيه وحماته وأخته.

لكن كل مساعيه باءت بالفشل. بل إنه تم إيقافه هو نفسه كمواطن نمساوي حال عودته إلى الهند، حيث ألقت به السلطات البريطانية في معتقل لم يغادره حتى سنة 1945. ثم جاءت مساهمته في وضع مخطط تأسيس دولة باكستان الجديدة لتغدو تلك الفترة إحدى فترات حياته الأكثر ثراء.

سفير لباكستان

مثلت باكستان بالنسبة إليه مشروع دولة مثالي بمنأى عن كل أنواع الأفكار القومية؛ مشروع لا يقوم على قاعدة الانتماء الإثني والعشائري أو على قاعدة حدود ترابية ثابتة، بل على الاختيار الطوعي للمرجعية الإسلامية؛ نوع من جمهورية ذات قداسة مستعادة وبما يناسب ذلك من وطنية دستورية.

لكن لم يكن هناك سوى القليل من المقترحات التي صاغها محمد أسد، الذي سيعدّ من هنا فصاعدا متدينا شديد الحماس، قد وجد مكانه داخل الدستور الباكستاني. إلا أنه سيلخص أفكاره تلك في ما بعد في كتاب بعنوان "مبادئ الدولة والحكم في الإسلام".

ومنذ سنة 1952 شغل لمدة سنتين خطة سفير لباكستان لدى منظمة الأمم المتحدة بنيويورك. وعندما رفضت السلطات الباكستانية بعد عودته من أميركا زواجه الثالث من المرأة البولونية التي جاءت معه وقد اعتنقت الإسلام، استقال من جميع وظائفه وتفرغ من جديد للكتابة.

احترام الثقافة اليهودية

آخر المشاريع الكبرى لمحمد أسد كانت ترجمة إنكليزية جديدة للقرآن قد حظيت في البداية بدعم الرابطة الإسلامية العالمية، لكنها سرعان ما قابلت انتقادات بسبب تفسيراتها الحرة، ولم تنشر في السعودية سنة 1974 إلا بعد أن خضعت للتشذيب.

بعد بضعة سنوات قضاها في سويسرا سيقيم محمد أسد في طنجة حيث واصل نشاط التأليف والنشر والتعبير عن مواقفه من الأحداث العالمية. لكنه سيظل ينتظر التجديد المرتجى داخل العالم الإسلامي دون أن يراه.

وكان الخميني في نظره شخصية أسوأ من سابقه في الحكم؛ شاه إيران. وبقدر ما كانت انتقاداته لدولة إسرائيل كثيرة، بقدر ما كان احترامه كبيرا للثقافة والديانة اليهودية التي كانت لا تقل عالمية في نظره عن الإسلام إلا بقليل.

كان أسد يمضي مراسلاته الخاصة مع أفراد عائلته في بعض الأحيان بإسم "بولدي" كما في مامضى، وخلال بعض لقاءاته بابنه طلال في لندن كان يحب أن يروي له نكاتا بلهجة يهود شرق أوربا.

بعد وفاته سنة 1992 تم دفنه في المقبرة الإسلامية بغرناطة. وقد وجد في هذه النقطة الواقعة في الطرف الغربي الأقصى من أوروبا ما يتناسب أكثر من أي موقع آخر مع تصوره المثالي للمشرق، حتى وإن كانت لا تمثل بالنسبة له سوى ذكرى ماض بعيد، عوضا عن رؤية مستقبلية.

بقلم جوزيف هانيمان
ترجمة علي مصباح
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2005
صدر المقال في صحيفة فرانكفورتر ألغيماينة