"من أجل الشعب والأرض والتوراة"

المجموعات الدينية في إسرائيل تزداد قوة، هناك تيار ينضوي تحته اليهود المتمسكون بالتقاليد على نحو متشدد، وتيار يضم غلاة اليمين من المستوطنين. عالم السياسة شتيفان هاغيمان يبين في كتابه الجديد بأن المجموعتين أصبحتا تكافحان من أجل تحقيق هدف مشترك لهما. بآته هينريشس قرأت الكتاب وتقدمه لنا.

يهودي متشدد أمام حائط المبكى في القدس، الصورة: أ ب
يهودي متشدد أمام حائط المبكى في القدس

​​المجموعات الدينية في إسرائيل تزداد قوة وهي تتألف من تيارين كبيرين، تيار ينضوي تحته اليهود المتمسكون بالتقاليد على نحو متشدد، وتيار يضم غلاة اليمين من المستوطنين. عالم السياسة شتيفان هاغيمان يبين في كتابه الجديد بأن المجموعتين أصبحتا تكافحان من أجل تحقيق هدف مشترك لهما. بآته هينريشس قرأت الكتاب وتقدمه لنا.

لم تلعب المجموعات والأحزاب الدينية دورا جوهريا في غضون العقدين الأولين من تاريخ إنشاء الدولة الإسرائيلية. فقد أكسبت دولة إسرائيل على نفسها عام 1948 تعريف الانتماء اليهودي والديموقراطي. لكن مؤسسي الدولة الصهيونيين فسروا الانتماء اليهودي على أنه يعكس حركة علمانية وقومية في المقام الأول وتوجها دينيا في المقام الثاني فقط. يقول هاغيمان هنا إن الصهيونية أصبحت تعني دينا بالمفهوم المدني، دينا "يرى في الأمة وليس في الرب محور الاهتمام".

الدين والقومية

أما الخط الديني فإنه يتألف في صلبه من تيارين اثنين:
أولا اليهود المتمسكون بالتقاليد على نحو متشدد وهم ينضوون تحت راية التقاليد المتشددة التي يدين بها اليهود الشرقيون المقيمون في الشتات اليهودي. وهم يهتدون بمفهوم "شتيتل" النابع من شرق أوروبا والذي يعني محيط الحياة المقتصر على اليهود الأتقياء وحدهم، حيث أنهم واصلوا هذا النمط من الحياة داخل إسرائيل ليكون ذلك بمثابة غيتو اختياري لهم.

لا يؤدي اليهود المتمسكون بالتقاليد على نحو متشدد الخدمة العسكرية ويصرفون جل حياتهم في دراسة التلمود. وهم يعكسون من خلال هذا النمط الحياتي كل ما ينبذه الصهيونيون مع العلم بأنهم بدورهم يرفضون الصهيونية انطلاقا من قناعتهم بأن منبع الخلاص هو الرب وحده وليست الدولة باعتبار أن الإنسان لا الرب هو الذي يؤسسها. في هذا السياق يستخدم هاغيمان تعبير "التشدد الديني المتمثل بالابتعاد عن الحياة الدنيوية".

التيار الثاني

أما التشدد الديني الذي يحمل رسالة سماوية في ثناياه فهو التيار الثاني من الخط الديني ويسمى هنا "التشدد الديني الهادف إلى السيطرة على العالم". أنصار هذا التيار ناشطون سياسيا ويتبنون أفكارا قومية متطرفة. إنهم يعتبرون اليهود "شعب الله المختار" ويدينون فقط بالوصايا الإلهية مما يعني أنهم لا يكترثون بالقوانين الأخلاقية الصادرة عن أمم غيرهم.

حقق أصحاب النزعة القومية الدينية أول طفرة لهم بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1967. فكان بمقدورهم بحكم الرؤى الدينية القائمة لديهم أن يعطوا تبريرا للادعاء بحقهم في حيازة "الأراضي المقدسة"، فيما لم يكن بوسع الصهيونيين العلمانيين أن يبرروا ذلك من منطلق أخلاقي. وقد حققوا ذروة نشاطهم عام 1974 من خلال تأسيس حركة المستوطنين الراديكالية المسماة "غوش إيمونيم".

ارتفع نفوذ هذه المجموعة إلى قدر كبير عندما أصبح حزب الليكود اليميني لأول مرة أقوى الأحزاب السياسية في إسرائيل عام 1977 مما جعل مناحيم بيغين يتولى منصب رئيس الحكومة. نتيجة لذلك تحولت المجموعات الدينية بصورة متزايدة من موقعها الذي كان حتى الآن هامشيا إلى محور المجتمع. ونجم عن ذلك أنها غيّرت المجتمع لكنها تغيّرت هي أيضا.

"طاقات تحديثية"

يرى مؤلف الكتاب بأنه ليس من الصحيح الاعتقاد بعدم قابلية الحركات المتشددة على التحوّل على وجه عام كما تزعم هي بنفسها. ويضيف بأن هذه الحركات هي جزء من الحداثة نظرا لأنها تتجاوب معها بقدر ما أنها تتجاوب مع المحيط السياسي والثقافي لدعاة الحداثة. وفي هذا السياق تنطلق منها "طاقات تحديثية" جديرة بالاهتمام.

عمد اليهود المتمسكون بالتقاليد على نحو متشدد إلى الاعتراف منذ وقت طويل وإن على نحو عملي بالدولة التي رفضوا بشكل رسمي تأسيسها حتى الآن. المعروف أنهم يعتمدون على هذه الدولة التي تتحمل على سبيل المثال تكاليف مدارسهم الدينية. وهم يتحينون المزيد من الفرص لتقوية نفوذهم كلما قويت البنى الدينية للمجتمع.

الممثل السياسي لليهود المتمسكين بالتقاليد على نحو متشدد هو حزب شاس الذي يتواجد أنصاره داخل فئات اليهود الشرقيين الفقراء في الأغلب. وهو يلجأ إلى تفسير الصراعات الاجتماعية والاقتصادية على أنها من أنماط الفروق القائمة حيال التوجه الثقافي نفسه.

هذا النهج يطيب للمتطرفين من غلاة اليمين استخدامه بهدف تعبئة أنصار جدد لهم. نتيجة لذلك يصبح المتمسكون بالتقاليد الدينية على نحو متشدد أكثر نشاطا وأشد تعلقا بالنزعة القومية مما يجعلهم يقتربون من التيار القومي المتشدد الحامل رسالة سماوية في ثناياه.

التركيز على الجانب الروحي

لا يقتصر نشاط "غوش إيمونيم" على تكثيف نفوذه السياسي فحسب بل يسعى بصورة متزايدة إلى تكريس "التجديد الروحاني". من خلال ذلك تقوم هذه الحركة بمحاولة تصفية الصهيونية من النزعة العلمانية وتعبئتها بالروح الدينية.

كلا هذين التيارين الدينيين ينطلقان من مفهوم "أرض إسرائيل" بمفهوم الكتب المقدسة وليس بالمفهوم الحديث للدولة. لهذا فمن النكسات الكبرى التي مني بها كلا غلاة اليمين في صفوف المستوطنين والجماعات المتمسكة بالتقاليد على نحو متشدد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة.

كان هذان الطرفان من بين الفئات المعارضة للانسحاب من قطاع غزة، ولم تكن أسباب ذلك أيديولوجية فقط، بل مرتبطة أيضا بعوامل اجتماعية واقتصادية. حيث أن هناك منفعة لدى الفقراء وأصحاب الدخل المحدود (علما بأن أغلبيتهم العظمي تنتمي إلى اليهود الشرقيين) من حالة الاحتلال، إذ تتوفر لهم من خلال ذلك على سبيل المثال المساكن الزهيدة في السعر داخل المستوطنات. هذا يعني أن الانسحاب من غزة شكّل لهم نمطا من أنماط استهداف مصالحهم.

بناء على الرؤى القائمة لدى هذه الفئات فإن هذا الخطر الذي يستهدفهم منبعه الطبقة الوسطى العلمانية المنحدرة من أصول غربية. أفراد هذه الطبقة المنحدرون من أصول أوروبية ينتمون إلى الفئات المتعلمة وهم المستفيدون من الانتعاش الاقتصادي كما أن أغلبيتهم تحبذ إبرام السلام مع الفلسطينيين لكونه كفيلا بالانعكاس إيجابيا على الأوضاع الاقتصادية.

هناك موقع مواجهة حيال هذه الفئات من قبل تحالف مبرم بين المستوطنين والفقراء بغض النظر عن الخلفية العرقية لأتباع هذا التحالف.

يستنتج الكاتب بأن الصراع الذي كان قائما في الماضي بين الجماعات المتمسكة بالتقاليد على نحو متشدد وبين التيار الذي يحمل رسالة سماوية في ثناياه قد ولى الأدبار، فقد أصبحت القواسم المشتركة بين الطرفين تفوق نقاط الخلاف.

شتيفان هاغيمان يدلل على كل ذلك بالتفصيل وبمدخل علمي دقيق ممتنعا عن طرح استنتاجات أبعد مما هو مرئي . لكن القارئ الممعن في التفكير يمكنه أن يستخلص من الحقائق الواردة في الكتاب مدى كبر حجم الطاقات المعادية للديموقراطية داخل المجتمع الإسرائيلي.

بيآته هينريشس
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2006

قنطرة

شرعية الضحية
لقد كنا طيلة الوقت نلعب الشطرنج مع أنفسنا، من دون أن ندع الطرف الآخر يتكلّم معنا بكلمة، وذلك لأنه "لا يوجد أحد يمكن التحدّث معه" ولأنهم "لا يفقهون على كلّ الأحوال إلاّ لغة العنف"...