أفلام "الفحشاء" في غزة...أهي رجس من عمل الشيطان؟

في وسط أنقاض مدينة غزة يُقام في كل عام مهرجان سينمائي، هو مهرجان كرامة لأفلام حقوق الإنسان. شارك في تأسيس هذا المهرجان منتج الأفلام خليل المزين، الذي تعمَّد المخاطرة في تحمُّل كراهية شرطة آداب حماس من أجل إقامة هذا المهرجان. الصحفي الألماني بيتر مونش يسلط الضوء على مهرجان كرامة السينمائي في غزة.

الكاتبة ، الكاتب: Peter Münch

السجادة الحمراء موجودة في داخل غرفة خاصة، ​​على الأرجح أنَّه قد تم تخصيصها لهذه السجادة. وخليل المزين مكتبه موجود بالجوار، يفتح الباب ويجلس - وهو يحمل الكمبيوتر المحمول في يده - مباشرة في وسط السجادة الحمراء فوق نسيجها الصوفي.

 "طولها مائة وعشرون مترًا"، مثلما يقول بكلِّ فخر واعتزاز. فعلى هذه السجادة -التي لا يتم مدُّها ولا يتم تنظيفها في غرفة غير مفروشة في الطابق الخامس عشر من مبنى مكاتب بالٍ، والموضوعة على الأرضية- يُعلِّقُ خليل المزين الكثير من الأمل: في أن تصبح الحياة من جديد أسهل، وأن تنفتح الأبواب من جديد إلى العالم الخارجي - أو على الأقل الأمل في أن توجد من جديد وعن قريب دار سينما في قطاع غزة.

  وخليل المزين رجل يحمل رسالة. عمره اثنان وخمسون عامًا، يرتدي الجينز وحذاءً رياضيًا، وغالبًا ما تكون نظاراته مرفوعة، بحيث أنَّها تُتَوِّج رأسه الأصلع. ودائمًا يحمل في يده سيجارة، وخلاف ذلك فهو مفعم بالطاقة والنشاط. لقد درس في الماضي الإخراج السينمائي في روسيا، حيث كان فلسطينيًا في مدينة سانت بطرسبُرغ.

 من دون السينما لا توجد ثقافة

 واليوم يعمل في مدينة غزة مديرًا لشركة إنتاج أفلام. ولكنه قبل كلِّ شيء جلب السجادة الحمراء إلى غزة. و"السجادة الحمراء" هو اسم المهرجان السينمائي، الذي يقوم بتنظيمه. وهذا المهرجان ليس إلاَّ البداية فقط. وحول ذلك يقول: "حلمي هو أن أعيد إحياء السينما في قطاع غزة، فمن دون السينما لا توجد ثقافة".

 إنَّ مَنْ أراد أن يعرف كم يبعد هذا الحلم عن الواقع، يمكنه أن يبدأ بجولة صغيرة إلى آثار الماضي. والمحطة الأولى هي سينما النصر الكائنة في منتصف شارع عمر المختار، وهو شارع التسوُّق الرئيسي في مدينة غزة. وبناء هذه السينما ضخم يتكوَّن من طابقين، حيث كان يجلس في الطابق السفلي جمهور الشباب بصوتهم المرتفع، ومن فوق كانت تشاهد الأفلام في الدرجة الأولى العائلات والجمهور اللطيف.

 واليوم لم يعد يُذكِّر بالأيَّام الخوالي وبالأفلام القادمة من مصر أو بوليوود سوى اسم السينما المكتوب باللون الأزرق فوق الرواق. كشك التذاكر مسدود، والجدران التي كانت في السابق بيضاء اللون أصبحت الآن سوداء مُتَفَحِّمة منذ حادث الحريق المتعمَّد، الذي فرض إغلاق السينما في منتصف التسعينيات.

وفي تلك الفترة كانت توجد عشر دور سينما في قطاع غزة، وقد تم إغلاق جميع دور السينما العشرة في وقت واحد تقريبًا، وذلك تحت ضغط الإسلاميين الذين كانت تزداد قوَّتهم. وقد اعتبروا السينما مكانًا للمعصية والفحشاء - وذلك بسبب الأفلام من ناحية، ومن ناحية أخرى أيضًا بسبب الظلام أثناء العروض، التي لم تكن تراعي العادات والتقاليد المتشدِّدة.

Das Nasr-Kino in Gaza City; Foto: DW/H. Balousha
Seit Jahrzehnten verwaist und dem Zerfall preisgegeben: Das Nasr-Kino mitten auf der Umar al-Mukhtar-Straße, der Haupteinkaufsmeile von Gaza. Es ist ein wuchtiger, zweistöckiger Bau, unten saß lautstark das Jungvolk, von oben schauten die Familien und feineren Herrschaften in der ersten Klasse zu.

 لا يزال بوسع المرء أن يشعر كيف كان الوضع في تلك الفترة، عندما يتسلل من خلال ثقب صغير في المدخل المغطى بشبك حديدي إلى سينما عامر القديمة. وسقف هذه السينما منهار، وحيث كانت صفوف المقاعد، تنبت الأعشاب، ولكن على الأرضية لا يزال من الممكن العثور على بعض القطع من زمن آخر: مثل بكرات الأفلام وأشرطة الكاسيت الباهتة، وزجاجات البيرة الخضراء من ماركة "رولينغ روك"، وكذلك عدد غير قليل من القوارير البلاستيكية، التي كان يصنع منها الزوَّار شيشة لتدخين الحشيش.

 الثقافة الغربية كرجس من عمل الشيطان

 ويا لها من فترة طويلة، فبصرف النظر عن عدم وجود دور السينما لم تعد توجد بطبيعة الحال الآن أية مخدِّرات ولا بيرة في قطاع غزة، على الأقل بشكل رسمي. إذ إنَّ إسلاميي حركة حماس الحاكمين قطاع غزة اليوم يحاربون بحزم وثبات التغريب وفساد الأخلاق - ويرسلون من خلال ذلك عن طيب خاطر أيضًا إشارات واضحة.

 على سبيل المثال سينما خان يونس التي كان اسمها في السابق "الحرية"، تم تحويلها من دون تردَّد إلى مركز إسلامي، مكتوب اليوم فوق مدخلها "دار الكتاب والسُّنة". وهكذا يتم قلب الرموز في صراع الثقافات، وكذلك يساعد الوقتُ حركةَ حماس. يبلغ عدد سكَّان قطاع غزة نحو مليوني نسمة، يعتبر أكثر من نصفهم تحت سنِّ الثامنة عشرة - وبالتالي فهم لم يشاهدوا في وطنهم المحاصر من قبل إسرائيل ومصر عرضًا لفيلم في دار سينما.

 وهؤلاء الشباب يشاهدون الأفلام على أكثر تقدير من خلال التلفاز أو على جهاز الكمبيوتر. وكذلك هم لا يعرفون سحر الشاشة الكبيرة، وما لا يعرفه المرء لا يفتقده أيضًا. ولكن مع ذلك فإنَّ خليل المزين في سنّ لا يزال يمكِّنه من أن يتذكَّر دور السينما القديمة، وعلى الأقل إنَّ الأمل لديه آخر ما يموت. لقد كان عمره ثمانية أعوام عندما ذهب أوَّل مرة إلى السينما ووجد حبه الكبير للسينما.

وحول ذلك يقول: "لقد كنت وكأنَّني أنظر من خلال نافذة ورأيت العالم. ومنذ ذلك الحين أصبحت مدمنًا على السينما". لم يكن أبوه في البداية متحمِّسًا كثيرًا، وغالبًا ما كان يجبره على البقاء في البيت، وحتى أنَّه ذات مرة ​​أخرجه بالضرب من السينما. ولكن كلّ ذلك لم يساعده. "لقد قمت بجمع القمامة من أجل الحصول على المال لشراء تذاكر"، مثلما يقول خليل المزين: "وفي وقت لاحق عملت في السينما وكنت أنظِّف المراحيض من أجل مشاهدة الأفلام".

 وتمامًا مثلما لم يكن يدع والده يثنيه عن رغبته، لا يدع خليل المزين اليوم حركة حماس تخيفه. فمن بين الأفلام الثلاثة التي أخرجها بنفسه حتى الآن، لم يتم السماح بعرض فلمين في قطاع غزة. "في هذين الفيلمين توجد مشاهد مع نساء لا يتم قبولها من قبل حركة حماس"، مثلما يقول: "أمَّا الفيلم الثالث فقد قمت بتهريبه من الرقابة، ولو لم أفعل ذلك لكانوا منعوه أيضًا".

"حماسوُود بدلاً من هوليوود"

 ومع ذلك فإنَّ الإسلاميين لا يعارضون الأفلام بصورة عامة - بل يعارضون فقط تلك الأفلام التي لا يمكنهم مراقبتها. فبعد فترة قصيرة من سيطرة حماس على السلطة في قطاع غزة في عام 2007، تحدَّث وزير داخلية حكومة حماس في ذلك الحين حتى عن "فنٍّ سينمائي إسلامي" خاص بحركة حماس، لا يحتوي بطبيعة الحال على "أي شيء قبيح" وهدفه قبل كلِّ شيء هو "التركيز على المقاومة ضدَّ إسرائيل" .

 وقد كان الشعار "حماسوود بدلاً من هوليوود"، عندما تم في عام 2009 عرض فيلم تمثيلي يدور حول أحد رجال المقاومة الشجعان، وحتى أنَّ القيادي في حركة حماس، محمود الزهار، قد كتب بنفسه السيناريو لهذا الفيلم. وكان مشروع الفيلم التالي حول اختطاف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في قطاع غزة. ولكن الجدول الزمني لهذا الفيلم قد تعثَّر بسبب حرب عام 2014.

 وهذه الحرب المدمِّرة، التي استمرت خمسين يومًا، أعطت في آخر المطاف أيضًا لخليل المزين الدافع لإعادة فتح نافذة على العالم - ولتنظيم مهرجان سينمائي. لقد تم افتتاح هذا المهرجان عن قصد بالتوازي مع مهرجان كان السينمائي في شهر أيَّار/مايو 2015، غير أنَّ المكان والظروف لم يكن من الممكن أن تكون أبعد عن إقليم كوت دازور - حيث يقام مهرجان كان. وذلك لأنَّ خليل المزين قد مدَّ السجادة الحمراء في وسط الدمار، في وسط أنقاض حي الشجاعية، حيث كانت الحرب على أشدها ولم يتبقَّ هناك أي بيت لم يطلْهُ الدمار.

 وجاء الأهالي سائرين فوق هذه السجادة الحمراء للعرض الأوَّل - بأحذية بالية ومغبرَّة بغبار الأنقاض، وعلى العكَّازات وكذلك على كراسي المقعدين المتحرِّكة. وحول ذلك يقول خليل المزين: "هكذا كانت لدينا الرسالة كاملة في نظرة واحدة: فنحن لم نعد نريد الحرب".

 سينما في الهواء الطلق

 وبين الأنقاض وفي الهواء الطلق كانت الكراسي مصفوفة من أجل الضيوف، وقد تم عرض عشرين فيلمًا على مدى عدة أيَّام. "لقد كان ذلك مثل المعجزة"، مثلما يقول خليل المزين: "إذ إنَّنا توقعنا حضور ألفي ضيف، ولكن جاءنا اثنا عشر ألفًا". وحتى حماس كانت في البداية راضية، لأنَّ هذا المهرجان السينمائي لفت انتباه العالم الخارجي إلى الدمار في قطاع غزة. ولكن عندما كان خليل المزين يخطط في هذا العام لمواصلة المهرجان، عارضه الإسلاميون بقوة.

 لقد بدأ الأمر عندما كان يريد خليل المزين أن يُقيم المهرجان السينمائي بشكل مفتوح للجميع في ميناء مدينة غزة. وبدورها منعت حماس المهرجان بحجج واهية مثل التحذير من احتمال قيام تنظيم "الدولة الإسلامية" بهجوم على مثل هذا المكان المكشوف. "لقد كانت هذه معركة"، بحسب قول خليل المزين: "كانوا يريدون تدمير الفكرة وكان يجب عليَّ أن أحضر للاستجواب كلَّ يوم تقريبًا".

Logo KARAMA-GAZA HUMAN RIGHTS FILM FESTIVAL 2016
als Erfolgsstory: 30 Filme in fünf Tagen. Beiträge von Palästinensern, aus arabischen Nachbarländern, aus Europa und den USA - alle zum Thema Menschenrechte. Der Titel der Veranstaltung lautete: "Wir brauchen Luft zum Atmen"

 وخليل المزين رجل انفعالي للغاية، ومَنْ يراه وهو يتحدَّث عن مهرجانه السينمائي، قد يظن أنَّ هذه التحقيقات لم تكن مريحة دائمًا بالنسبة لرجال حماس أيضًا. وضمن هذا السياق يقول بحدة: "أنا لا أخافهم. يمكنهم أن يعتقلوني، ويمكنهم أن يقتلوني، وهذا بالنسبة لي سيَّان. فعلى أية حال نحن جميعنا أمواتٌ في غزة".

 لا أحد يتحدَّث هكذا في دولة حماس - على الأقل من دون معاقبته، ولكن خليل المزين بات يتمتَّع الآن ببعض الحماية من خلال شعبيته الدولية أيضًا، التي جلبها له مهرجانه في عام 2015. وعلى أية حال لقد تفاجأ في النهاية من أنَّه لم يتعرَّض للضرب. وفي الواقع لقد أقيم المهرجان مرة أخرى - وبالتزامن مع مهرجان كان السينمائي. ولكن في داخل مركز ثقافي.

 وبالطبع كانت هناك شروط كثيرة: إذ كان يجب أن يتم عرض جميع الأفلام على الرقابة، وحذف جميع المشاهد المسيئة من الأفلام. وكان يجب أن يجلس الرجال والنساء بشكل منفصل، وفي الممر بينهم كان يقف رجال شرطة آداب حماس. وعلاوة على ذلك لم يُسمح بإطفاء الضوء داخل القاعة، الأمر الذي أثَّر بشكل كبير على جودة عرض الأفلام.

 "بِدْنَا نِتْنَفَّس" (نريد أن نتنفَّس)

 ولكن الأهم من كلِّ ذلك: أنَّه كان حدثًا سينمائيًا كبيرًا، عُرض فيه ثلاثون فيلمًا خلال خمسة أيَّام. مساهمات من فلسطينيين، من الدول العربية المجاورة ومن أوروبا والولايات المتَّحدة الأمريكية - وجميعها حول موضوع حقوق الإنسان. لقد كان عنوان هذا الحدث: "بِدْنَا نتنفَّس" (أي نريد أن نتنفَّس)، وعند افتتاح المهرجان ألقى خليل المزين كلمة، جاء فيها: "كنت أود عرض الأفلام في الهواء الطلق أو في سينما النصر القديمة، ولكن لم يسمح لي بذلك"، مثلما هتف للجمهور في العرض الأوَّل: "مرحبًا حماس، لقد تعبنا، ونريد أن نتنفَّس الحرية".

 وقد بسط السجادة الحمراء انطلاقًا من المركز الثقافي نزولاً من الدرج إلى الشارع. "يجب أن يكون المهرجان أنيقًا بقدر الإمكان"، مثلما يقول. حيث جاء الضيوف وهم في أجمل ملابسهم، وكانوا يلتقطون الصور الشخصية على السجادة.

"على الرغم من كلِّ الصعوبات، التي خلقتها حماس، لكن المهرجان كان في النهاية ناجحًا جدًا"، مثلما يلخِّص ذلك خليل المزين: "لقد كان هذا حدثًا أسعد غزة". والآن أعيدت السجادة الحمراء إلى الغرفة المجاورة لمكتبه. ولكن في عام 2017، مثلما يعلن عن ذلك الآن، سيتم بسط السجادة الحمراء مرة أخرى في قطاع غزة.

 

بيتر مونش

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: زود دويتشه تسايتونغ / موقع قنطرة 

ar.Qantara.de 2016