ما حدث ليس بحرب نمطية بين جيشين بعتاد وذخيرة بل إنه شعب مدني أعزل وقع تحت سطوة نيران جيش بلاده المدجج بالسلاح. محمد بدوي مصطفى يروي عن السوري عبد الله مرير ما شهده من واقع بتفاصيله وشجونه وأبعاده.
الرجوع إلى مطبعجي لر (مدينة المطابع في تركيا): سافرت إلى ألمانيا بعد أن اتفقت مع الأخ طلال بالمطبعة وعدت بعد أسبوع إلى إسطنبول لإكمال ترتيبات طباعة الكتب. كانت اللقيا في هذه المرّة أكثر حميمية وحفتها نفحة من صداقة واحترام متبادل، أيّ أنها لم تكن كما كانت عليه في المرّة الأولى.
جئت مع صديقي الجميل وشريكي الأستَاذ علاء الدين فوزي الباريسيّ الذي يشاركنا العمل في مدينتنا الجديدة إسطنبول. جلست وقضيت كل فرائض ونوافل الاتفاق كبيرها وصغيرها وعندما أردت الذهاب وجدت كتاب سارة سيدة الخنادق في نفس الركن الذي رأيته به نسختي التي أخذتها من الصديق طلال المرّة السابقة.
تفتحت أسارير وجهي، وكنت أعلم أنّه قرأ المقال الأول وأثنى عليه. ضحكت وقلت له: هل سلطنت على الرواية بعد أن قرأت مقالي؟ فأجابني بابتسامة هادئة لطيفة كعادته. أومأ إليّ بإجابة لم أستطع أن أفسرها. إن كان الإيجاب أم النفي.
على كل وجدت سارة التي صارت تتبعني في كل لمحة ونفس مرّة أخرى تتوسط الموائد وتراقب العمال بالمطبعة وكأنها اعتلت عرشها هناك وصارت جزءًا لا يتجزأ منه.
في ختام اللقاء قلت للأخ طلال، فرّحنا بهدية منكم! فنظر إليّ باستعجاب، وبادرني برده السريع، "تكرم عينك". نظر يمناه ويسراه في تفحص لما يمكن أن يجدّه لكي ليهديه لهذا الرجل المصرّ. باغته فورها وقلت: لا أريد شيئًا ... هبني سارة والسلام.
فأجاب: عندك سلفًا، قلت له، هي وحيدة في الفندق، لابد من سارة أخرى تؤنس وحدتها. ضحك وقهقه في بهائه ذاك وسلمني سارة وخرجت من المطبعة "ظفورًا مبسومًا". قلت أحادث سارة، شفتي سوف تذهبين لأختك بالهوتيل وسوف تفعلان بي ما فعلتما بصديقي عبد الله!
الشكل النمطي للحروب القومية والإقليمية في عصور ما قبل الميلاد برزت من خلال الإلياذة والأوديسا لهوميروس وطروادة وحتى في فترة ما قبل الحداثة، وأغلب الروايات صيغت بطريقة بطولات وهمية وأسطورية، أو على شكل ملاحم وطنية وشخصيات أسطورية.
ثم تغير هذا النمط عقب الثورة الفرنسية 1789، ثم اتخذ هذا المذهب من الأدب نمطاً واقعياً مناهضاً لأشكال الحرب في الحرب العالمية الأولى والثانية. كما تناول الأديب تولستوي في روايته الجرب والسلام، رواية الدون الهادئ للروائي الروسي ميخائيل شولوخوف، ورواية وداعاً للسلاح لهيمنغواي، ورواية كل شيء هادئ على الجبهة الغربية لإيريك ماريا ريمارك. إلخ
سارة سيدةُ الخنادق تعكس اتجاهي في أدب الحرب لأتناول الإنسان البسيط المدني الأعزل بأحلامه الغضة، وتفاصيل بيئته وعذوبة أمانيه، أمام آلة البطش والدمار التي تستبيح نمط حياته الوادعة على أرضه وبين جيرانه.
كما هو في حال الطفل إلياس في حواره إلى الجد برنارد، حيث يتساءل بفطرة الأطفال وسلام نواياه التي تغفو دوماً إلى وسادته مثل خيالٍ لأماني يتوقع أن يحملها له غده، ولكن الخذلان والانكسار ينالان من فطرته، ويستبيح جند الجنوب آماله ويأتيان على إنهاء حياة أخته الصغرى ويتسببان في رحيل أبيه:
"لِماذا لَمْ يستجبْ رَبُّنَا لِدُعائِي وتوسُّلاتِي حِينَها؟ لِماذَا يُترَكُ الأشرارُ يَسلبُونَ مِنَّا مَنْ نُحِبُّ؟ لِماذَا يكونُ هناكَ شَرٌّ فِي الحياةِ؟ على أحدِهِمْ أنْ يضعَ حَدَّاً لِكُلِّ هذا الألمِ الّذي يعبَثُ فِي سماءِ الجنوبِ. أمَّا أنا فَمَا يزالُ صُراخُ النِّسوةِ والأطفالِ الخَائفينَ يتردَّدُ صَداهُ في صَحوِي ونَومِي، وها أنا وأمِّي أَمسيْنَا وَحيْدَيْنِ نهيمُ فِي الِقفَارِ والفَيافِي."
دائماً ما تتردد العبارة النمطية: الحب في زمن الحرب. ولكن في تلك العلاقة الفتية الخجولة بين الفتى آدم، ورفيقة صباه ناديا، كانت الحرب هي الدخيلة عليهم مثل كابوسٍ فظٍ، أمعَنَ في دمار المهج الغضة، ليتحول الفتى من آدم من عاشقٍ خجول، إلى كائنٍ تستعر جذوة الانتقام في قلبه لمقتل أبيه، حيث يتخذ الكاتب هنا مجازاً "الحرب في زمن الحب" كما في الحوار التالي بين آدم وناديا:
كما عبَّرَ عنه الكاتب في / مونولوغ / حوارٍ ذاتي لـ سارة، وهي مثل جميع الأمهات، والفتيات إذا ما تأملنَّ مرآة المساء، وبعثرن الأقراط على شرفة حلم آت. أو ربما هي البلاد، أو زورقان من عشقٍ، يتثاءبان في غنجٍ بين ضفتين، ولكن كان لآلام الجنوب وأشجانه شأن آخر، حيث فعل ما فعل، واستباح مرآة سارة:
سارة تحدِّثُ نفسَهَا قائلةً: «سارة؛ سارة؛ المعذرةُ مِنْكِ يا سارة! أيَّةُ نادمةٍ أنا على ما اقترفَتْ يداي يا سارة! آهِ كَمْ مَزَّقْتُ فِيكِ حُلُمَ الوصولِ يا سارة! فَلْتَغفرِي لي فأنا لا أملكُ على عذاباتِي شيئاً، ولا الأقدارَ. لَمْ يتبقَّ مِنِّي سِوى بِضعةِ صَلواتٍ تُؤنِسُ ما تمزَّقَ بِي مِنْ مُهَجٍ. لقدْ مَرَّغْتُ ضَفائِرَكِ بالدَّمعِ؛ بالنَّشيجِ. فَلْتَغْفِرِي لِي سارة! أجولُ بِكِ القِفارَ والوِهادَ، وعبثاً مِنْ جُحرٍ يرنو إليهِ رأسُكِ الواهنِ ترحالاً لا مُؤنساً لَهُ.
وهنا يتحدث المحارب القديم الجد برنارد، حيث يعود الديار جريحاً، ليحيا جراحات فقدانه لعائلته القروية البسيطة:
"ألقَيتُ عليهم التُّرابَ الرَّطِبَ والصَّلاةَ، ثمَّ تابَعنا المَسيرَ إلى الأمامِ، اُنظُري بُنيَّتي سارة، اُنظُري؛ لقد حَصَلتُ على قِلادَةٍ ذاتِ نجومٍ برَّاقَةٍ! عُدْتُ الدِّيارَ؛ حيثُ إيملي تَحتَضرُ، حَمَلتُهَا إلى حيثُ نورُ شَمسٍ أخيرٍ، وأغلَقتُ عَينَيْها، بالقُربِ منْ شَجرةِ السِّنديانِ هناكَ وارَيتُها الثَّرى.
اعتمد الكاتب في كتابة النص لغة السرد التسلسلية للأحداث على شكل صور حية يتفاعل معها القارئ:
هي عدة عوامل قد أضفت طابع الوصف والترنيمة بقافية في صياغة الحوار والنص في أسلوب كتابتي، منها البيئة التي ترعرعت فيها وكانت على ضفاف نهر الفرات التي تمتد من مسقط رأسي مدينة الميادين إلى ديرالزور المحافظة.
منذ الطفولة مع الرفقة نقضي يومنا على الطوف الخشبي في النهر وبين أشجار الرمان، كان من المعتاد سماع أغاني الصيادين وهم يرمون شباكهم في النهر من على زوارق المساء عند المغيب حيث يعبث النسيم بأشجار الصفصاف ويتمايل البردي في موجات النهر ويلهو البط بين سيقان القصب، لغة الوصف تلك وجدتها ملائمة لنقل صورة للقارئ لما يعتري الأحاسيس من تقلبات ما بين أوقاتٍ من أسىً تارةً، وفرح تارة أخرى بإيقاعٍ متناغم سهل الوتيرة:
كان لتلك اللغة إيقاع أعلى ومضطرب عندما يتعلق الأمر في نقل صورةٍ ملموسة أو مادية، حيث أمشي في الأزقة الشاحبة فوق الركام وحطام بيوت الطين. هنا أشتم رائحة البارود الحامض، ويتمرغ جبيني بكل ذلك الرماد الذي يجوب المكان:
"عَبْرَ الزُّقاقِ تُقْبِلُ سارَة تَحْمِلُ على ظَهرِها أَباها الكَهْلَ الَّذي فَقَدَ سَمْعَهُ ولم يَعُدْ يَقْوَى على المَسيْرِ، بَيْنَما تَمشي أُمُّهَا إلى جانِبِها تَتْلُو صَلَواتٍ وآهاتٍ، وبِالكَادِ تَلْتَمِسُ سارَة طَريْقَهَا فَوقَ الحِجَارَةِ النَّخِرَةِ، تَكَادُ تَقَعُ أَرضَاً وَهيَ تَشُقُّ طَريْقَهَا حَافِيَةً، حَيْثُ لم يَتَسَنَّ لَها البَحْثُ عَنْ نَعلِها الَّذي عَلِقَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، تَحُثُّ الخُطَى على جَنَبَاتِ الزُّقَاقِ، وَتَلُوذُ تَارَةً خَلْفَ بَقَايَا حُطَامِ الجُدرانِ العَتِيْقَةِ لِتَحْتَمِي مِنْ رَشَقَاتِ الرَّصَاصِ... سارة على وَشَكِ الوُصُولِ إلى بَيْتِها الَّذي يَقعُ في زاويةِ الزُّقاقِ. تَجُرُّ سارَة جَسَدَي والِدَيْهَا إلى فَناءِ المَزرَعَةِ المَهجورَةِ لِتَحمِلَهُم عَرباتُ المَوتِ إلى فُراقٍ طَويلٍ، ومَا أَنْ وارَتِ التُّرابَ عَلَيهِما وعَلى اِبْنَتِها الصَّغيرَةِ حتّى عادت مَساءً تَحمِلُ صَلاةً منْ نَشيجٍ وكِسَرَاً من الخُبزِ."
بينما في زنازين المعبد الجنوبي، تأبى تلك اللغة إلا أن تتحدث مضطربة بتوصيفٍ مباشر لتستكين إلى استعارة:
"يُقبِلُ جُندي المَعبَدُ، يَفتحُ بابَ الدِّهليزِ ثمَّ يَخرُجُ وهو يَسْحَلُ مِنْ خَلفِهِ جَسَدَ آَدَمَيٍّ ما يَزالُ بِإمكانِهِ الرَّفسُ والاِرتِعاشُ! إنَّهُ مُعلَّقٌ ما بَينَ ظِلِّ حَيَاةٍ واحتِضارٍ مُمِلٍّ طَويلٍ، يَستَمرُّ الجُنديُّ في سَحلِهِ على طولِ المَمَرِّ المُظلِمِ العَفِنِ! الجَسَدُ الآَدَميُّ يَخُطُّ وَراءَهُ سَيْلاً مِنْ دَمٍ وديدانٍ، كُلُّ ما فيهِ مُهَشَّمٌ، لا تَكادُ تَتَميَّزُ مَلامِحُهُ، هو ليسَ سِوى ما تَبَقَّى مِنْ ظِلِّ روحٍ مُتَأرجِحَةٍ، هو ما تَبَقَّى مِنَ الصَّرخَةِ الأولى والأخيرةِ، هو اِنكِسارٌ في خاصِرَةِ الجَنوبِ".
غالباً ما تقوم السجون في إلقاء جثث من يقضون تحت التعذيب في حفر جماعية:
"عمر وبلال يَنظُرونَ إلى الحُفرَةِ الشَّاسِعَةِ العَميقَةِ الَّتي تَطوفُ فَوقَها أسْرابُ الذُّبابِ وتَقفِزُ فَوقَها الكِلابُ الشَّارِدَةُ. يَتَقيَّؤونَ على غَفْلَةٍ، ثمَّ يَقِفونَ يُحَدِّقونَ فيها دُونَ حِرَاك،
يُباشِرونَ بِتَفريغِ العَربةِ في هَلَعٍ وخَوفٍ، وهم يَنظُرونَ إلى آدم خِلْسَةً حيثُ يَبدُو بِلا مَلامِحَ تكادُ تُذكَرُ وهو يُلقي بالأكياسِ في الحُفرَةِ! وقد أصابَهُم الذُّعرَ، حيثُ لم يكنْ يَترَدَّدُ في شَتْمِهِم إذا ما قامَ أحدُهُم بالبُكاءِ والعَويلِ، ها هو يَرْكُلُ الجُرذانَ إذا ما اِقتَرَبَتْ مِنْ البنطلون ويُطلِقُ عَليها سَيْلاً مِنَ السِّبابِ والشَّتائِمِ، ويَبْصُقُ على الذُّبابِ الَّذي يَحومُ حَولَهُ".
حيث أن زمان الرواية افتراضي بين الفترة الممتدة مابين 1850-1900 والمكان هو بلاد الجنوب وبلاد الشمال، اقتضى أن يكون مدلول الرواية رمزي يعكس مضمون عام قد حدث ويحدث الآن في بعض البلاد. فكانت المشاهد تبدو صاخبة لوهلة، ثم ما تلبث أن تستكين كحمم النيران التي تتساقط على الأزقة، ثم تنبلج عن هدوء يغشاه الدخان، والبارود الممزوج بالغبار والأنين.
هذا هو الإيقاع الغالب على النص، والحوار، والمونولوغ الداخلي. ويبدو ذلك جلياً في كل أطوار مراحل الرواية، حيث هذا الإيقاع يكسر رتابة الاسترسال الممل، ويجعل القارئ يسير في غمار اضطراب رحلة الحرب:
"حِمَمُ النِّيْرَانِ تَتَسَاقَطُ فَوْقَ البُيوتِ الطِّيْنِيَّةِ الهَشَّةِ، ثُمَّ تَتَّبِعُها أَعَاصِيْرُ مِنَ الدُّخَانِ وَالتُّرَابِ الشَّاحِبِ، ولا يَكادُ يُسْمَعُ سِوَى صُراخٍ يَتَداعَى بَينَ الحُطَامِ لصِبْيَةٍ هَلِعين أو نَشيجُ ثَكْلَى تُزيْلُ الحِجارَةَ مِنَ فوقِ بَقايا أَجسادِ عَائِلَتِها. عَبْرَ الزُّقاقِ تُقْبِلُ سارَة تَحْمِلُ على ظَهرِها أَباها الكَهْلَ الَّذي فَقَدَ سَمْعَهُ ولم يَعُدْ يَقْوَى على المَسيْرِ، بَيْنَما تَمشي أُمُّهَا إلى جانِبِها تَتْلُو صَلَواتٍ وآهاتٍ، وبِالكَادِ تَلْتَمِسُ سارَة طَريْقَهَا فَوقَ الحِجَارَةِ النَّخِرَةِ، تَكَادُ تَقَعُ أَرضَاً وَهيَ تَشُقُّ طَريْقَهَا حَافِيَةً، حَيْثُ لم يَتَسَنَّ لَها البَحْثُ عَنْ نَعلِها الَّذي عَلِقَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، تَحُثُّ الخُطَى على جَنَبَاتِ الزُّقَاقِ، وَتَلُوذُ تَارَةً خَلْفَ بَقَايَا حُطَامِ الجُدرانِ العَتِيْقَةِ لِتَحْتَمِي مِنْ رَشَقَاتِ الرَّصَاصِ... سارة على وَشَكِ الوُصُولِ إلى بَيْتِها الَّذي يَقعُ في زاويةِ الزُّقاقِ".
"بِالكَادِ بِضعَةُ فَراسِخٍ منْ هُنَا، يوجَدُ هُناكَ فَضاءاتٌ منْ حَدائِقَ وأَنهارٍ، أَحاديثُ لِأُناسٍ يُشبِهُونَنَا تَحتَ فَوانِيسِ زَوايَا الطُّرُقَاتِ، وابْتِسامٌ على مَوائِدِ الأُمسيَاتِ، ليسَ بالبَعيدِ مِنْ هُنا فَتَياتٌ يَخْتَلِسْنَ النَّظَرَ إلى فِسْتانٍ يَختَالُ أَلوانَاً، يَغويْهُنَّ على جَادَّةِ الأَسواقِ ويَغمُرْنَ الطَّريقَ بالضَّحِكِ المُتَمَرِّدِ المُبهِجِ، كيفَ يحدُثُ أنْ يَكونَ هُناكَ صَوتٌ لِموسيقى يَتَسَلَّلُ مِنَ النَّوافِذِ المُتَأَلِّقَةِ نُوراً وَأَغانٍ في لَيلٍ رَخيمِ الأُمنياتِ، وكيفَ يَحدُثُ أنْ نَكونَ نَحنُ داخِلَ فُقاعَةٍ مِلؤُها غَيوم مِنْ بارودٍ آَسِنٍ وحِمَمٌ مِنْ خَوفٍ مُقيمٍ! كيفَ يَحدُثُ أَنْ تَكونَ غايَةُ أُمنياتِنا هيَ الرَّحيلُ قَبلَ الوُصولِ؟".
لم يفوِّت الكاتب الإشارة إلى تلك الفئة الرمادية، أو من يدَّعون الحيادية في زمن الحرب. تلك الفئة لطالما كانت تظهر بشكلٍ جلي، حيث تقتات على مآسي الضحايا والمعذَّبين، وغالباً ما يدورون حول فلكهم الأناني السمج على هيئة قطيعٍ، حيث غالباً ما يكونون منبوذين من الآدمية. يظهر ذلك في شخصية نوال وهي المرأة المتبجحة بهيئة ما تضعه من حليٍ وثيابٍ. أو حديثها الوضيع عن المدينة والريف. مثال ذلك في الحوار بين نوال الرمادية، وسارة:
"أنا لم تحملْنِي عرباتٌ مخمليَّةٌ ولا مُزركشةٌ، فأنا لا يليقُ بي يا نوالُ! أنا الّتي اعتدْتُ النَّحيبَ والصَّلاةَ خلفَ عرباتِ الموتِ. أنا الّتي لمْ أحظى بعدُ بِطِلاءِ الأظافرِ، فأصابعِي ليسَتْ سِوى حفَّارةَ القبورِ".
تجيبُها نوال قائلةً:
هي الأم التي يتنفس من طيبتها ابنها إلياس الذي تمضي به السنون وهو مازال متشبثاً بطرف إزارها في رحلتهم نحو تلال بلاد الشمال. سارة هي قنديل مساءٍ يتوهج مهجٍ في كوخ الجد برنارد المحارب القديم الذي لم يبقَ لديه سوى حفيده ألكسي الذي يرى فيها طيفاً ساحراً من وجه أمه التي قد فارقته طفلاً صغيراً.
"ـــ بُنَيَّ ألكسي! هَلُمَّ نَسكُبُ بعضاً منَ الشَّاي السَّاخنِ لِضُيوفِنا؛ لا بُدَّ أنَّ رياحَ الخَريفِ البارِدَةَ قد اِستَنزَفَتْ كُلَّ ما هو دافِئٌ في هذهِ الأجسادِ النَّحيلَةِ، فلا شيءَ يَبقى دافئاً في ليالي أيلول سِوَى الحُزنِ المُقيمِ في الذَّاكِرَةِ ومِصباحِ نافذَةِ اِنتِظارِنا العَجوزِ".
ماتزال سارة تجر محراثها في حقول الشمال، ويمثل أمامها وجه الواشي الأعرج خائن الجنوب القاتل، ولا يفارق مسامعها صوت النائحات والمعذبات في أقبية الجنوب.
وآن الأوان أن تغادر سارة كوخ الجد برنارد لتمضي وابنها إلياس نحو مدن الشمال.. بينما الفتى ألكسي تصيبه لوعة على فراقها وهو الذي اعتاد أن يشدو معها إذا ما عادوا من حراثة الحقل والتفوا حول قناديل المساء.
بين كل ما تحتويه الرواية من مباشرة وواقعية، من شخصيات وأحداث، آثرت أن يكون لشخصية الفتية مارتان وناتانأن يقومان بأدوارٍ تميل للسريالية الخيالية، حيث من يحيا تحت ركام الجنوب، كان يمني النفس ليسمع أحد صدى آلامه، ولو كان خيالاً.
لم أكن أتخيل يوماً بأن تضل طريقها فوهة المدفعية لتستدير نحوي، نحو الجنوب! أي حربٍ تلك! فأنت لديك رصاصة، وأنا لا أملك سوى خيبة وانكسار.. أي حرب تلك! أنا الأن ألهث عبر الأزقة المتهالكة فلا أرى من الفقراء من ينازعك عرشك أو يضاهيك نياشين من بارودٍ ورصاص!
خريطة الرحلة كانت ماثلة على جدار مكتبي لسنوات، والشخصيات قد اتخذت طابعها ومسارها، حتى أمسى الجدار وكأن حياة قد دبت به، ولم يكن ليهدأ حيث تعتريه الأحداث ويعلوه صخب الأحداث تارة، وأخرى الحوار الذي لا ينتهي بين الشخصيات، ولم يكن لذلك الاضطراب أن ينتهي إلا عندما ينخفض الإيقاع للحديث عن الربيع، والفرات ومواسم الحصاد.
سارة سيدة الخنادق، هي لمن لم يحظَ برائحة الدخان الرطب تحت الركام، أو لمن لم يأتِ إلى مسامعه ذلك الأنين اليائس الخجول الذي لم يترك صدىً في كل هذا الصخب من الأنانية المتزلفة في هذا العالم.
هي عن رصاصة مضت باردةً خلسةً في خيال فتىً غض المهج، ومضى نحو الضفة الأخرى أنيقاً، بلا طقوس وداع.