المكتبة الخالدية في القدس: سيرة مدينة

صدرت مؤخرا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية والمكتبة الخالدية، الطبعة الثانية من كتاب "المكتبة الخالدية في القدس 1720 – 2001" بالعربية والطبعة الأولى من الكتاب باللغة الإنجليزية، للمؤلف البروفيسور وليد الخالدي.
صدرت مؤخرا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية والمكتبة الخالدية، الطبعة الثانية من كتاب "المكتبة الخالدية في القدس 1720 – 2001" بالعربية والطبعة الأولى من الكتاب باللغة الإنجليزية، للمؤلف البروفيسور وليد الخالدي.

المكتبة الخالدية هي مكتبة إسلامية مهمة في مدينة القدس. تحتوي المكتبة على مخطوطات مهمة ونادرة، وتحوي أكبر مجموعة للمخطوطات الخاصة في العالم.

الكاتبة ، الكاتب:  محمد تركي الربيعو

 في سياق الاهتمام بتاريخ وصور المدن، عادة ما ركز عدد من المهتمين في هذا المجال على قراءة بعض الأماكن والتطورات التي عرفتها، بوصفها تعكس التغير الأوسع الذي عرفته المدينة وما حولها عبر عدة عقود، ولذلك غدا المكان وسيرته ليس مجرد مجال مادي، بل يحمل في كل زاوية منه قصة وسيرة المجتمع والاقتصاد والحرب، وكل ما يدور حوله من أحداث.

وربما هذه النتيجة، ستدفع بعدد من الروائيين والمؤرخين في السنوات الأخيرة إلى التركيز على كتابة روايات وكتب تتعلق مثلاً بتاريخ أحد الفنادق، أو العمارات «عمارة يعقوبيان» وما عرفته من تطورات وتغيرات عبر الزمن، أو دراسة بعض المطاعم، وما شهدته من تقلبات أو انتقال بعض فروعها لأماكن أخرى كدليل على تغير اقتصاديات المدينة العربية في سنوات ما بعد الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.

وربما من الدراسات الطريفة والمهمة أيضا في هذا الشأن، الكتاب الذي ألفه المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي «المكتبة الخالدية في القدس» وتناول فيه تاريخ هذا المكان، منذ نشوئه، مرورا بما عرفته مدينة القدس، التي بنيت فيها هذه المكتبة، من تغيرات ديموغرافية وأشكال متعددة من الاحتلال الاستعماري، ما نجمت عنه آثار عديدة في هذه المكتبة ومخطوطاتها، قبل أن تتحول مع مرور الزمن إلى واحدة من أهم الأماكن في مدينة القدس، التي تحاول حفظ ذاكرتها ورائحة أهلها وقصصهم.

 

المكتبة الخالدية في القدس من أهم مكتبات فلسطين

 

وفي كتاب الخالدي، الذي أعيدت طباعته للمرة الثانية مؤخراً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، سنكتشف مع كل تحول في المكتبة، تاريخا اجتماعيا وثقافيا موازيا، نتعرف من خلاله على أوضاع المدينة وأهلها والأفكار التي كانوا يتداولونها.

تقع المكتبة في قلب القدس القديمة على مسافة مئة متر من الحرم الشريف وتطل على حي البراق وحي المغاربة السابق، وقد عمل على تأسيسها أفراد من عائلة الخالدي الفلسطينية، التي، كما تذكر بعض الروايات، تنتسب في الأساس، إلى الصحابي خالد بن الوليد، ومما هو متواتر عن أخبار العائلة أن أفرادها هجروا القدس قبيل سقوطها على أيدي الإفرنج، ولجأوا إلى دير عثمان بالقرب من قرية مردة في نابلس، ليعودوا إليها بعيد فتحها على يد صلاح الدين بكنية الديري ثم الخالدي.

 

صدرت مؤخرا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية والمكتبة الخالدية، الطبعة الثانية من كتاب "المكتبة الخالدية في القدس 1720 – 2001" بالعربية والطبعة الأولى من الكتاب باللغة الإنجليزية، للمؤلف البروفيسور وليد الخالدي.
المكتبة الخالدية في القدس: صدرت مؤخرا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية والمكتبة الخالدية، الطبعة الثانية من كتاب "المكتبة الخالدية في القدس 1720 – 2001" بالعربية والطبعة الأولى من الكتاب باللغة الإنجليزية، للمؤلف البروفيسور وليد الخالدي.

 

طالع أيضا:

حوار مع المؤرخ طريف الخالدي: تاريخ العرب من تحت

فلسطين مطلع القرن العشرين - صور الباحث الألماني غوستاف دالمان لمعشوقته القدس

 

 

في العقود الأولى من الوجود العثماني في المدينة، برز دور العائلة أكثر في الحياة الدينية، من خلال تعاقب العلماء من الخالديين على قضاء الحنفية في القدس، فكان شهاب الدين أحمد وابنه محمود، وبدءاً من القرن السابع عشر الميلادي تولى الكثير من فقهاء العائلة منصب رئاسة الكتابة في المحكمة الشرعية في القدس، فضلا عن نيابة القضاء في حال غياب القاضي التركي المعين من إسطنبول، وقد بقي هذا المنصب شبه محصور بالعائلة طوال القرون الثلاثة الأخيرة من العهد العثماني، إلى أواخر القرن التاسع عشر ميلادي، كما بقي علماء العائلة منحازين للطرف العثماني خلال الهجوم الفرنسي على مصر، وانضموا مبكراً إلى حركة الإصلاح العثمانية، فكان منهم مصطفى بن موسى (توفي 1845) الذي تولى القضاء في إسطنبول من المقربين إلى السلطان محمود الثاني، وفي نهاية القرن التاسع عشر.

ومع افتتاح مدارس أجنبية وزيادة الإرساليات التعليمية والتبشيرية الأوروبية إلى المنطقة، أخذ بعض أفراد العائلة كغيرهم من أبناء القدس يتأثرون بالأجواء الجديدة، ما دفعهم إلى ترك المدارس الدينية والفقهية، والانتقال إلى التعلم والخدمة في المجالات المدنية الجديدة. وهكذا أرسل يوسف ضياء الدين بن محمد علي (توفي 1906) إلى الكلية البروتستانتية في مالطة، وعين في ما بعد أول رئيس لبلدية القدس 1867 1873 وبعدها تولى أخوه ياسين بن محمد علي رئاسة البلدية، كما عين عضوا في المجلس العمومي لبيروت.

وممن برز من العائلة في هذه الفترة أيضا روحي بن ياسين (1864ـ1913) الذي تلقى دروسه الأولى في المسجد الأقصى، قبل أن يلتقي بحزب الاتحاد والترقي ويصبح من المقربين لجمال الدين الأفغاني، وعين مدرسا في جمعية نشر اللغات الأجنبية في باريس، وقد نشر أبحاثا قيمة حول الأدب والتطورات السياسية في تلك الفترة، كما كتب مخطوطا عن الصهيونية، لم يكتمل، تحدث فيه عن قيام الحركة في القرن العشرين، وعلاقة اليهود بفلسطين وبالعرب على مرّ العصور، ثم ختم دراسته بفصل قائم على البحث الميداني عن جميع المستعمرات التي جرى انشاؤها، وفي ظل هذه الأسرة، وما عرفته من تقلبات، ستنشأ مكتبة الخالدي، التي كان لأفرادها الدور الأكبر في تكوينها والإشراف عليها.

ستبدأ أولى محاولات أو بذور هذه المكتبة مع الشيخ أبو الرضا طه بن صالح في 1656 الذي أسس وقفا وضع فيه كل مكتبته لخدمة العلماء، كما يقول، وقد عدد في هذا الوقف عناوين مكتبته وبلغت خمسين مجلدا، ثم جاء بعده محمد صنع الله الكبير (توفي 1726) ليؤسس لوقفية أخرى حررت في عام 1720، وجمع فيها نحو 560 كتابا، والتي ضمت في الأغلب كتبا حول الفقه والأصول والفرائض، وقد شرط صنع الله على الناظر على وقفه «ألا يعير لمتجوه (أي لذي جاه) ولا لذي شوكة.. إلا لمن احتاجه من العلماء لمراجعة مسألة من كتاب، فيظهر له الكتاب ويطالع المسألة بحضور الناظر، وإذا دعت الضرورة لأحد من العلماء أن يستعير كتابا فيأخذ منه الناظر رهنا ولا تزداد العارية (أي الإعارة) على شهر».

ومما يلاحظ هنا أنّ توريث هذا الحجم من الكتب لم يكن بالأمر السهل، خاصة أن المطابع في تلك الفترة لم يكن لها دور بعد، وهو ما جعل من الحصول على الكتب شيئا مكلفاً ، ولذلك فإن وجود الكتب في البيوت العثمانية، لم يكن متوفرا في الأغلب إلا لدى العائلات الميسورة والعلمية، وفي حال توفرت كان غالبا ما يورد في تركة المتوفي ما امتلكه من كتب ليجري تقاسمها بين الورثة كشيء مادي ومعنوي.

وقد جاء ابن صاحب هذه الوقفية (محمد بن صنع الله) المتوفى سنة 1790 ليسير في الاتجاه ذاته من خلال وقف كتبه البالغ عددها 260 كتاباً، ومنذ ذلك اليوم والأولاد والأحفاد يتوارثون مكتبة جدهم إلى أن جاء روحي بن ياسين ليقرر جمعها ووضعها في مكان واحد بين عامي 1885 ـ 1886، لكنه لن يتمكن من إكمال هذه الفكرة ليأتي بعده الحاج راغب بن محمد علي الخالدي، ليقرر بناء المكتبة في تربة الأمير حسام الدين بركة خان وأولاده من أمراء المصريين، ولأنّ بناءها تطلب تكاليف عالية، فقد أوصت خانم بنت السيد موسى أفندي الخالدي قبل وفاتها من مالها بمبلغ لعمار تلك الخرابة وضمها إلى التربة وجعلها مكتبة.

ولا شك أن ما فعلته السيدة خانم هو جزء من تقاليد واسعة عرفتها مدينة القدس، على صعيد أوقاف النساء ودورهن في بناء المجال العام.

 

محمد تركي الربيعو

حقوق النشر: محمد تركي الربيعو 2022

محمد تركي الربيعو كاتب وباحث سوري مختص باحث سوري متخصص بالدراسات الأنثربولوجية.

 

 

إقرأ/ي أيضًا: المزيد من مقالات موقع قنطرة

الإسلام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: هل بدأ الشباب يدير ظهره للدين؟

ملف خاص من موقع قنطرة حول التاريخ الاسلامي

محمد أركون: الوعي التاريخي مفقود في ثقافتنا العربية المعاصرة

انفتاح العقل العربي الإسلامي على الحضارات المجاورة والبعيدة

مكتبة قنطرة: خير جليس في الزمان كتاب

حين حلم المأمون بأرسطو