لماذا نطلق الرصاص على أقلام الرصاص؟

أثارت جريمة قتل المدرس صامويل باتي موجة حزن في فرنسا، وتجمع الآلاف في عموم البلاد تكريما للضحية.
أثارت جريمة قتل المدرس صامويل باتي موجة حزن في فرنسا، وتجمع الآلاف في عموم البلاد تكريما للضحية.

ذبح مدرس في الشارع والتنكيل به في وسائل التواصل الاجتماعي، إطلاق النار على رأس الناشطة الباكستانية ملالا يوسفزي، حادثة تشارلي ايبدو وسبي الإيزيديات ووصمة النون للمسيحيين دفاعاً عن الله وحبا في رسوله. رغم البعد الجغرافي والزماني بين هذه الأحداث، إلا أنها تشير إلى أن محاكمة الفكر بالنفي والحكم على غير المتجانس بالإعدام والقتل على الهوية هي أعراض أزمة فكرية منتشرة في العالم الإسلامي. تعليق مي المهدي لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: مي المهدي

لم يكد يخمد جدل حول حادثة عنف يقوم بها متطرفون باسم الدين الإسلامي، حتي يشتعل في بقعة أخرى موقداُ بذلك المزيد من الحرائق. حوادث تفردت في شناعتها: من استهداف للمدنيين في المطاعم والحانات والشوارع والهجوم على مقار الصحف دفاعاً عن قدسية النبي محمد، التي لا يجب أن تمس حتى من غير المسلمين، تفجير المساجد والمزارات الدينية والآثار التاريخية، تكفير وتصفية الآخر، الاقتتال بين معسكري الشيعة والسنة، جرائم قتل النساء الأقرباء وسبي النساء، القتل لهدف القتل والخلود الأبدي.

هذه بعض أعراض "أزمة العالم الإسلامي" و"الانفصالية الإسلامية" في المجتمعات الغربية، المصطلح الذي استخدمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه يوم الجمعة في الثاني من أكتوبر في ليه موروه بضواحي باريس.

المتابع لجرائم العنف والكراهية باسم الإسلام، سيجد أن العالم الإسلامي يعاني من أزمة حقيقة في الداخل وأن هذه الأزمة الفكرية لم تقتصر على العالم الإسلامي، بل انتقلت عدواها إلى بعض أبناء الجاليات المسلمة في أوروبا.

لكن ماكرون لم يشخصّ فقط النزعات الإسلاموية الانفصالية المعروفة بتطرفها، بل تطرق أيضاً إلى أزمة العالم الإسلامي، الذي ما يزال غارقاً في قضايا التكفير وأحقية الخلافة والحجاب وطول اللحية وتعدد الزوجات ودور الدين ورجاله في منظومة الدولة ومؤسساتها.

الدول التي تعاني أصلا من الشلل بسبب هيمنة الأسر الحاكمة والطائفية والقبلية والجيش على أجهزة الدولة واستغلال الدين كأداة للشرعية الديمقراطية الغائبة في ظل فشل مرير للحراك المدني في الاتفاق حول بديهيات الدولة المدنية الحديثة وحقوق المواطنة والكرامة الإنسانية ودور الدين في الدولة وفي خضم صراع بين النخب السياسية والدينية حول الفهم الصحيح للإسلام.

في حوار المصالح، فإن الدول الغربية وشركاتها العملاقة لا تجد ضرراً في التعاطي مع هذا العالم "المتخلف"، طالما أن ينابيع نفطه وخزائن جيوشه تفيض بالمليارات عليها، لكن عندما يمتد الخطر إلى داخل مجتمعاتها، يتحول خطر "الإرهاب" المتردد على شاشة التلفاز إلى شبح حقيقي، يجب التصدي له.

 

"إنه شهيد الحرية".. #أئمة #مساجد في #فرنسا يعلنون تضامنهم



مع المدرس الفرنسي الذي ذُبح بعد عرضه رسوماً كاريكاتورية للنبي محمد. pic.twitter.com/7cEDq6EYzI

— DW عربية (@dw_arabic) October 20, 2020

 

"حرية الرأي أقدس من المقدسات"

وهذا ما فعله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه حول مشروع قانون قادم لمكافحة النزعات الانفصالية في فرنسا وبعد أيام فقط من طعن شخصين أمام المقر السابق لمجلة "شارلي إبيدو" الساخرة. رئيس فرنسا أشار إلى "التصدي للنزعة الإسلامية الراديكالية" الساعية إلى "إقامة نظام مواز" و"إنكار الجمهورية".

حديث ماكرون عن خطر انعزال أشخاص في مجتمعات إسلامية يأتي بعد سلسلة هجمات استهدفت مدنيين بسبب رسم كاريكاتيري تفنى في تعميمه المسطح في عكس تصوره للدين الإسلامي لدرجة أبسط من أن يتم الحديث عنه.

لكن السؤال الأهم في هذا الجدل المحتدم حول رسم ساخر: ما هو مدى تسامح شخص نشأ في بلد علماني ومتعدد الهويات الدينية والثقافية مع من يختلف معه في الرأي وما مدى حجم التعاطف أو القبول مع حجة القتل بسبب الاختلاف في الرأي وحجم شعبية نفي الآخر وإلغاء تصوراته والاندفاع نحو فرض التجانس الفكري والثقافي ولو عبر التهديد والإرهاب بأنواعه.

صور بعض طلاب المدارس الفرنسية، التي رفضت الوقوف حداداً على ضحايا تشارلي إيبدو في عام 2015 وموقف الأهالي في التنديد بالمدرس الفرنسي وشجب سلوكه على شبكة الانترنت، يكشف وجود تعارض واضح بين قيم المجتمع وقيمهم الدينية. في هذا السياق كشف استطلاع أجراه المعهد الفرنسي للرأي العام أن 40% من المسلمين في فرنسا يضعون قناعاتهم الدينية فوق قوانين الجمهورية وتصل هذه النسبة إلى 75% بين الشباب الأقل من 25 عاماً.

 

 

"الانقسام المجتمعي حول الدين والدولة في فرنسا يتجلى في حادثة تشارلي ايبدو"

يتجلى هذا الانقسام المجتمعي حول الدين والدولة في حادثة تشارلي ايبدو، التي تبقى علامة فارقة في هذا الخطاب المتجدد، لأنها تجسد ببساطة الفجوة الثقافية بين فكر يعتمد على النقد وعدم وجود حقيقة ثابتة من منطلق أسس مجتمع علماني، قاعدته العلم وليس الدين. وذلك في مقابل ثقافة لمجتمع قائم على الإيمان بالمقدسات والغيبيات، التي لا تقبل النقد ولا التشكيك.

سواء اتفق البعض أو اختلف على مفهوم الفن وآفاقه وحدوده والخطوط الحمراء، التي قد يتعين أخذها بعين الاعتبار في رسوم تشارلي إيبدو الكاريكاتيرية. فإن محاكمة الفكر بالنفي والإعدام والقتل على الهوية تبقى في هذه اللحظة الراهنة أزمة فكرية في العالم الإسلامي بامتياز.

نهضة الدول العلمانية في الغرب قامت على الثورة على الدين بين محاولات تجديده وتهميشه تماماً والمسيح بالنسبة لرسامي ورسامات الكاريكاتير ليس أكثر قدسية من أي شخصية عامة، لأن الدين بالنسبة للفكر الغربي السائد هو فكرة والفكر قابل للنقد، والنقد بدوره هو أساس الفكر ذاته (العقل النقدي)، الذي هو أقدس من أي مقدسات.

ولربما كان اختلاف الفهم لأحقية النقد ونفي القدسية عن الموروثات والمسلمات هو أساس الجدلية في النقاش بين الغرب والشرق ونواة الصراع بين المذاهب والقوى المختلفة في العالم الإسلامي.

لذا بدلاً من مواجهة الذات ومحاولة فهم، ما الذي يدفع أشخاص تربوا ونشأوا في مجتمع متعدد، على قتل شخص آخر بتهمة مخالفة الرأي والفكر، جاءت ردود الفعل منددة ورافضة، سواء على المستوى الشعبي أو السياسي.إجماع في الدول الإسلامية على رفض مواقف ماكرون

ويبقى من المفارقات أن النخب الدينية والسياسية في العالم الإسلامي اتفقت هذه المرة على موقف موحد وهو رفض نقد ماكرون وشجبه. لكن سردية هذه النخب كان يمكن أن تتمتع بنوع من المصداقية، لو كانت لها مواقف سابقة من قضايا قمع الأقليات الدينية والعرقية والأطراف السياسية في داخل حدود أوطانها.

هناك تساؤلات تثير حيرتي ولا يمكنني الإجابة عليها لا من منطلق العلم ولا العقيدة: لماذا ننزعج من رسم كاريكاتيري أكثر من المناظر الصارخة لجبال القمامة ومياه الصرف الصحي الغارقة فيها أوطاننا؟

وماذا يضيرنا من موضة العراة في الغرب البعيد ولا نتأزم من الرجال والنساء، الذين عراهم الفقر واللهث وراء الخبر الحاف في بلادنا.

 

يقول الرئيس ماكرون إن القانون الفرنسي يجيز توجيه النقد والإساءة والرسوم الكاريكاتورية للأديان. وهذا موقف متطرف ويفسر منحى خطابه ضد الإسلام وليس التطرف تحديدا. وهو موقف يفتقد للحكمة ويشجع التيارات المتطرفة بكافة أطيافها. https://t.co/Htvo6xDrNM

— خالد الدخيل (@kdriyadh) October 24, 2020

 

لماذا تستفزنا صورة النبي محمد ولا تستفزنا صور سبي الإيزيديات باسم الإسلام ولماذا لم يخرج شيوخ الفتوى لتحريم السبي في القرن الواحد والعشرين ولأخذ مواقف حاسمة من حد الردة وغيرها من قضايا أكثر إلحاحاً من مجرد رسم ساخر؟

لماذا ننزعج من سعي دولة علمانية للقضاء على محاكم التفتيش الفردية تحت شعار الدين والدفاع عن الله ورسوله ولماذا لا ننظر تحت أقدامنا ونبدأ بتنقيح تراثنا من أي لغط حول شرعية قتل الكافر وتغيير المنكر باليد  ونقوم بتطهيره  من قضايا شاذة كحكم وطء الدجاجة في الفقه المالكي (كما درسته في المرحلة الإعدادية).

لماذا لا نبدأ بمراجعة كتب الفقه من أحكام الجهاد في سياق مفاهيم الدولة الحديثة وسيادتها ووضع تاريخ الغزوات في سياق التاريخ وليس الدين. على مقدار أهمية بعض هذه القضايا في سياقها التاريخي قبل ألف عام، فإنها لم تعد ترتبط بروح هذا العصر الذي أصبح أكثر تعقيداً وتشابكاً وتنوعاً بوتيرة تغيير لم تعرفها البشرية من قبل.

"الإسلام لم يفتح العالم فقط، بل انفتح على العالم"

في هذا العالم المتغير فإن المسلم أحوج ما يكون إلى فهم هويته وكيفية التعايش في مجتمع متعدد الهويات والتعاطي مع قضايا أخلاقية وفلسفية لم توجد قبل 1500 عام. الهوية كانت من النقاط البارزة الأخرى التي هيمنت على سردية الجدال الدائر حول نسخة الإسلام الصحيح وأحقية دولة علمانية بترسيخ قيم الحرية والمساواة لدى مواطنيها ومواطناتها. حديث ماكرون عن هوية "الإسلام الفرنسي" كانت مدعاة للسخرية والتنديد: فهذا طبعاً لم يرق لأطراف عدة تسعى إلى هيمنة إسلام بعينه "كالإسلام التركي" أو "الإسلام الوهابي" أو "إسلام المؤسسة الأزهرية" أو الإسلام الشيعي أو السني في نظرة شاملة والقائمة تطول.

من ينظر إلى التاريخ الإسلامي يجد أن هناك عدد من المذاهب والفرق والحركات الفلسفية كأهل السنة والجماعة والرافضة والجبرية والقدرية والمعتزلة والشيعة والعلوية ويتأكد من عدم وجود إسلام واحد وأن مصدر الصراع بين المسلمين هو محاولة فرض وهيمنة إسلام بعينه بدعم القوى الحاكمة.

كما أن تاريخ العالم الإسلامي لم يعرف دولة إسلامية واحدة، بل كانت هناك سلالات حاكمة توالت أو قامت بالتوازي بدءا من الأمويين ومروراً ببلاد فارس والهند وحتى الأناضول والمغرب العربي والأندلس ونهاية بالخلافة العثمانية. كان هناك إسلام فارسي وإسباني واسيوي ومغاربي ومصري وتركي، ويمكن اليوم الحديث عن إسلام فرنسي، من مصلحته منع قيام ذئاب منفردة ومنسلخة من المجتمع بفرض قوانينها الخاصة وقتل مدنيين بسبب رسم كاريكاتيري عديم الذوق وخال ٍ من أي حساسية ثقافية.

إسلام الجزيرة العربية خرج وغزا العالم، لكنه لم يبق إسلاماً قبلياً جهوياً، لأن المسلمين لم يفتحوا العالم، بل انفتحوا على العالم. ربما يمكن أن نسأل أنفسنا، لماذا لم تتأسس حضارة إسلامية في الجزيرة العربية، بل في مصر والشام والمغرب وأقاصي آسيا وجنوب أوروبا، ربما لأن مساهمات هذه الثقافات والحضارات القديمة كانت دعائم نشأة هذه الدول القائمة على التنوع الثقافي والتعددية والاستفادة من الإرث الحضاري المتواصل للبشرية.

مدرس التاريخ والجغرافيا المغدور صامويل باتي
عتبر محمد موسوي رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، المحاور الرئيسي للسلطات الفرنسية العامة، الاثنين 10/26 أن المسلمين "ليسوا مضطهدين" في فرنسا، في وقت تتكثّف التظاهرات والدعوات لمقاطعة المنتجات الفرنسية في الشرق الأوسط بعد تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد.

العين بالعين والكاريكاتير بالكاريكاتير

بدلا من الصراخ على إرث الاستعمارية والتنديد بصعود الجناح اليميني ومحاولة التشتيت عبر الإشارة إلى ظواهر اجتماعية تعيب الآخر، كالعداء للإسلام والعنصرية، دعونا نتأمل في مقدار الحقيقة في هذا النقد ونفتح باب القضايا الأخرى التي لا تقل إلحاحاً في سياق آخر.

دعونا نسأل لماذا أصبح القتل على الهوية الدينية حكراً على عالمنا الإسلامي، لماذا أصبح عددا من أبناء الجالية المسلمة في أوروبا ضحايا التهميش والفقر في الأحياء الباريسية، ولما لم يخرج مثلا أبناء جاليات أخرى كالفيتنامية بسكين لقتل من يختلف معهم في الرأي، لماذا نحن؟

مشكلة التطرف الإسلامي جزء من واقعنا ومنتشرة في عدة مجتمعات ولن يمكننا علاجها عندما نرمي بالحجارة على أي مستشرق أو شرقي يدعو إلى التغيير. ولن تختفي بمجرد إشارتنا بأصابع الاتهام إلى انتشار التطرف اليميني في أوروبا وظاهرة العنصرية والإسلاموفوبيا.

العنف بدافع ديني ظاهرة أوسع من أن نحصرها في سبب واحد. لكننا حتى الآن نتعاطى معها مثل مجموعة من العمي تواجه فيلاً ويحاول كل شخص التعرف على هويته عبر تحسس جزء من جسده، فيقول من يمسك الخرطوم إنه ثعبان ومن يمسك أنيابه بأنه ثور.

العنف الديني هو أعمق وأقدم من سردياتنا المتجزئة ولن نحلها في مقال وأخشى أنها لن تحل في هذه المئوية. لكن مفتاح الحل بيدنا والبداية بأنفسنا، بالتوقف عن البحث عن دوافع الجاني ومبرراته وبتسمية القتل باسمه وبالتعاطف واحترام الضحايا بغض النظر عن الهوية الدينية أو العرقية أو الثقافية.

الحل يبدأ بقناعتنا بأن عرش الله لن يهتز في السماء بسبب رسم ساخر وأن صورة الرسول محمد لن تتشوه بل صورة مئات الآلاف من أبناء الجالية المسلمة.

الحل يبدأ بتكييف رد فعلنا في سياق المجتمعات، التي نعيش فيها وقوانينها، أي ببساطة شديدة بالرد على تشارلي إيبدو برسم كاريكاتيري، فالعين بالعين والكاريكاتير بالكاريكاتير.. بالقلم الرصاص وليس طلقات الرصاص.

إيمانويل ماكرون، وإن دارت الشكوك حول توقيت رسائله على أبواب الانتخابات الرئاسية الفرنسية وحساباته السياسية ورغم إشكالية التراث الاستعماري الفرانكفوني والنظرة الدونية من الشمال إلى الجنوب ومع الأخذ في الاعتبار الصراع الجيوسياسي الدائر الآن في مياه البحر المتوسط مع تركيا "ابن الناتو العاق" ،  إلا أنه وضع يده على جرح انفصالنا عن الواقع والماضي والمستقبل.  

سواء اتفق البعض أو اختلف مع نقد الرئيس الفرنسي، إلا أن رد فعلنا يؤكد صحة رأي ماكرون ويفضح جوهر مشكلتنا وإخفاقنا في إيجاد صيغة مشتركة للتعايش السلمي: فنحن نرفض أي تصورات تغاير موروثاتنا وقناعاتنا سواء الدينية أو السياسية. ونعيش منعزلون في مجتمع موازٍ لا مجال فيه للنقد وقبول الآخر ورأيه، لأننا ببساطة "شعوب الله المختارة" وأرض المقدسات، التي اُصطفيت بالأنبياء وبقتلهم والتقاتل على إرثهم.    

 

مي المهدي

حقوق النشر: قنطرة 2020

مي المهدي صحفية ومدربة إعلامية تقيم في سويسرا. بعد دراستها آداب اللغة الألمانية والعلوم الإسلامية في جامعة الأزهر بالقاهرة، حصلت على درجة البكالوريوس والماجستير في العلوم السياسية من جامعة برلين الحرة. عملت من قبل في عدد من المؤسسات الاعلامية مثل دويتشه فيلّه والجزيرة وبي بي سي.

 

 

[embed:render:embedded:node:42059]