كورونا والصين: من يهدد الديمقراطية؟

مساعدات طبية صينية إلى دول في مختلف أنحاء العالم: أرسلت بكين أطباء وأدوية وأجهزة إلى صربيا وإيطاليا وإيران والعراق وعشرات الدول الأخرى التي تعاني من تفشي فيروس كورونا.
مساعدات طبية صينية إلى دول في مختلف أنحاء العالم: أرسلت بكين أطباء وأدوية وأجهزة إلى صربيا وإيطاليا وإيران والعراق وعشرات الدول الأخرى التي تعاني من تفشي فيروس كورونا.

الإقرار بنجاح السلطات الصينية في كبح جماح فيروس كورونا المستجد أو توجيه النقد لسياسات الحكومات الغربية في التعامل معه لا يعني الاحتفاء بالسلطوية الصينية أو تبخيس أداء الديمقراطيات الغربية في مواجهة هذا الجائحة الدولية. تحليل شادي بطرس لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: شادي لويس

المقارنة بين الإجراءات الصينية في مواجهة وكورونا، وبين مثيلتها في الغرب، حاضرة دائما، ولو ضمنا، في أي حديث عن الوباء وخطط مواجهته. لا يتعلق الأمر فقط بنجاح الصين في حصار الوباء (على الأقل بحسب البيانات الرسمية)، أو بإشارة الرئيس الأمريكي الدائمة له ب"الفيروس الصيني". الأمر يعود إلى ما هو أبعد من هذا. فالحكومات الغربية القلقة من صعود الصين، كما ترى فيها منافسا اقتصاديا وخطرا عسكريا متزايدا، فإن الكثيرين ينظرون معها لنظام حكم الحزب الواحد هناك كتهديد لمنطق الحكم الديمقراطي، في الغرب كما في كل مكان آخر.  

لا تعدم "المعجزة الصينية" معجبين مخلصين في المنطقة العربية وفي غيرها، فانتزاع مئات الملايين من البشر من الفقر المدقع في ظرف عقود، والنمو الاقتصادي والتكنولوجي المذهل في نفس الفترة القصيرة، مقترنا بصعود إلى موقع الند أمام القوى الاستعمارية القديمة، جعلت الصين نموذجا ملهما، يعد بإمكانية لحاق بقية شعوب الجنوب بها، وتعويض الفارق المهول بينهم وبين أسيادهم السابقين في الشمال.

ويأتي الانبهار بالتجربة الصينية مقترنا بالثناء على فاعلية نظام الحزب الواحد والحكم السلطوي والشمولي. لكن، وفي الوقت ذاته، وبالنسبة لقطاعات فاعلة من سكان المنطقة ممن يعانون من أنظمة الحكم الديكتاتورية تمثل الصين نموذجاً مرعباً، لا بسبب سلطويتها فقط، بل بالأحرى بسبب نجاح تلك السلطوية.

ويرى هؤلاء في الصين داعما للأنظمة الديكتاتورية في بلادهم، بشكل مباشر، ولا حاجة للإشارة إلى موقف الدبلوماسية الصينية من الصراع في سوريا على سبيل المثال (للأسف لا يبدو سجل الدول الغربية في دعم الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة أفضل كثيرا بأي حال).

وفضلا عن ذلك فإن أنظمة المنطقة العربية القمعية طالما وجدت في النجاح الصيني أداة أيدلوجية فعالة للترويج لسياستها الباطشة بوصفها سبيل مجرب للتقدم، وبالأخص في مواجهة "المؤامرات الغربية". وأيضا، من الرائج تصوير المشروعات الصينية في دول الجنوب، وقروضها، بالأخص في أفريقيا، كتمهيد للاستيلاء على موارد الدول المدينة واستعماراها بشكل مباشر أو غير مباشر (وفي الحقيقة لا يوجد ما يثبت فرقا كبيرا بين القروض الصينية وبين مثيلتها الغربية في علاقة الاستدانة والهيمنة). 

بعد تمكنها من احتواء فيروس كورونا أرسلت الصين عشرات الفرق الطبية لمساعدة عشرات الدول في مكافحة الفيروس
على الرغم من السلطات الصينية أرادت السيطرة على المعلومات حول تفشي الفيروس وانتشار وباء كورونا (كوفيد - 19)، وإسكات أي أصوات تختلف عن روايتها، بدأت الصين بعد نجاحها في كبح جماح "كورونا" بتطبيق استراتيجية جديدة تقوم من خلالها بتقديم مساعدات طبية إلى دول تعاني من تفشي الفيروس القاتل.

اهتزاز صورة الصين بعد انتشار فيروس كورونا وانتشار صور نمطية عن ثقافة الشعوب "الصفراء"

كان من شأن التفشي المفاجئ لفيروس كورونا، وما تبعه من إجراءات، أن يجعل من الجائحة محوراً لتكثيف ذلك الجدل، والصدام بين رؤيتين مختلفتين للعالم. من البداية لحق بصورة الصين ضررا عميقا، وكثيرا من التشوية غير المنصف في معظمه. فظهور الفيروس في مقاطعة ووهان كان كافيا لتعزيز صور تحقيرية، بشأن العادات "القذرة" للصينين ومطبخهم الغرائبي والمقزز، فالوباء انتقل من الحيوانات إلي البشر، بسبب إقبال الصينيين على أكل الخفافيش.

تبدو تلك الرواية منتشرة ومصدقة على نطاق واسع، وبشكل يدعو للأسف. وكانت وسائل الإعلام الغربية ركزت على فرضية أن ظهور المرض مرتبط باختلاط "استثنائي" بين البشر والحيوانات في الأسواق الصينية.

وفي ذلك السياق، يجدر الإشارة إلى أن معظم ما يعرفه الناطقين بالعربية عن الصين يأتي عبر مصادر غربية. لكن التنميطات المتعلقة بالصين، لا تقتصر فقط على الخيالات الاستشراقية عن ثقافة الشعوب "الصفراء"، بل تمتد إلى تنميط آخر يتعلق بالاستبداد. ولا ترتبط تلك الصورة بحكم الحزب الشيوعي فقط، بل تعود تاريخيا إلى "ثورة البوكسر" وما قبلها، فالمجتمع الصيني في المخيلة الغربية، مثله مثل بقية المجتمع الشرقية، يتميز بميل طبيعي للجمود والاستبداد، بحسب ثنائية رائجة، تنقسم فيها المجتمعات إلى فردية (غربية بالضرورة)، ومجتمعات جماعية تنتفي فيها المبادرة الشخصية والإبداع والحريات.

صرامة صينية في التعامل مع الفيروس...وتخبط غربي

لا يمكن الادعاء بأن وصمة الاستبداد ملفقة بالكامل، فالنظام الصيني نظام شمولي وقمعي بالتأكيد. إلا أن تلك الوصمة قد دفعت للمبالغة في ادعاء تكتم السلطات الصينية على انتشار الوباء لوقت طويل. ولا يبدو أن هناك دليلا قويا على ذلك، ولا مصلحة أيضا للصين فيه، فالسلطات الصينية أبلغت منظمة الصحة العالمية في اليوم الأخير من شهر ديسمبر من العام الماضي بتسجيلها 41 إصابة فيروسية مجهولة، وفي خلال أسبوع، أي في السابع من يناير من العام الحالي نجحت السلطات الصينية في تحديد نوع الإصابة بفيروس "كورونا" المستجد، وسجلت أول وفاة بالفيروس، بعد خمسة أيام من ذلك، أي في الحادي عشر من يناير.

وبعد أقل من أسبوعين، وضعت السلطات الصينية مقاطعة "ووهان" تحت العزل الصحي، لتكون أكبر عملية للعزل في التاريخ، تشمل أكثر من 50 مليون نسمة. وكانت كل تلك الإجراءات معلنة وبتنسيق مع منظمة الصحة العالمية. وباستثناء الحادثة الفردية للطبيب الصيني، لي وينليانع، الذي تم توبيخه بسبب نشر معلومات عن انتشار فيروس مجهول على وسائل التواصل الاجتماعي، في مؤقت مبكر من شهر ديسمبر، فلا يوجد أي بيانات أخرى تعزز تأخر الصين عن الكشف عن الوباء. بل وعلى العكس أثنى العديد من الخبراء الغربيين على ردة الفعل الصينية السريعة والفعالة على انتشار الوباء، وتعاونها المثمر مع منظمة الصحة العالمية.

 

[embed:render:embedded:node:39528]

 

على الجانب الآخر، وبينما قامت الصين "بشراء الوقت" لبقية دول العالم، فشلت الحكومات الغربية في إدراك جدية الوضع في الوقت المناسب، بل وأصرت بعضها على الإنكار لوقت طويل، في الولايات المتحدة على سبيل المثال، أصر الرئيس الأمريكي ترمب على التهوين من شأن العدوى، والسخرية من دعوات اتخاذ إجراءات أكثر جدية، لأسابيع، ناصحا المواطنين بغسيل الأيدي فقط، بل وحتى مع وصول العدوى إلي البيت الأبيض نفسه، وبعد الإعلان عن إصابة عددا من المسؤولين الأمريكيين والأجانب الذين التقاهم الرئيس ترامب، رفض إجراء الاختبار لمدة يومين على الأقل، ربما من باب العناد.

في بريطانيا أيضا، أعلن رئيس الوزراء بوريس جونسون عن خطته المثيرة للجدل، المعتمدة على فرضية "مناعة القطيع"، والتي شكك في أساسها العلمي الكثير من الخبراء، داعيا المواطنين للاستعداد لتوديع أحبائهم، وهو الخطة التي تراجع عنها لاحقا.

وطال التخبط العديد من الحكومات الغربية، واستغل بعض السياسيين الجائحة لشن حروب إيدلوجية ضد خصومهم ومنافسيهم، أو تعميق شعور الكراهية والخوف ضد الأجانب والمهاجرين، بدلا من اتخاذ خطوات جدية، وكان من نتيجة ذلك تحول أوروبا إلى بؤرة الوباء الرئيسية، وارتفاع أعداد ونسب الوفيات، وبالأخص في إيطاليا وإسبانيا إلى أرقام مخيفة، وغير مسبوقة.

كانت الصين، ومعها، كوريا الجنوبية وتايوان واليابان، مؤهلة للتعامل مع الوباء الجديد، فانتشار وباء سارس في جنوب شرق آسيا بين عامي 2002 و2003، قد منح الأجهزة الصحية في بلاد تلك المنطقة خبرة فريدة في التعامل مع وباء واسع الانتشار، ووقتا كافيا لأعداد آليات وخطط مستقبلية لمواجهة ظروف مشابهة في المستقبل. تمتعت الصين أيضا بعمق ديموغرافي لا يتوفر لغيرها، فعدد سكان يتخطى المليار نسمة، جعل من السهل فرض العزل الصحي على مقاطعة ووهان، التي لا يتجاوز تعدادها خمسة بالمئة من عدد السكان الإجمالي.

 

 

في أوروبا وأمريكا الشمالية، ساهمت عقود من السلام ودولة الرفاه، بعد الحرب العالمية الثانية، في شعور عام بالأمان والثقة في موارد الدولة وتوفر شبكة دائمة من الحماية الاجتماعية، وكان لذلك الشعور المفهوم والمبرر مختلطا بإحساس بالتفوق والمناعة (أي أن الأوبئة والأمراض المتفشية تضرب أماكن أخرى من العالم)، كان لذلك الخليط أن يفضي لنتائج خطيرة في لحظة الأزمة.

فعلى سبيل المثال، تجاهل المواطنون في إيطاليا توجهات الحكومة الاسترشادية المتكررة، المتعلقة بتحاشي التجمعات والزيارات العائلية، واستمر بعضهم في تجاهلها حتى بعد فرضها بقوة القانون. كما ساهمت بضعة عقود من سياسات التقشف الحكومي، وتخفيض الإنفاق العام والخصخصة في جعل المؤسسات العامة، التي أضحت تعاني من شح الموارد في الظروف العادية، غير مؤهلة لمواجهة جائحة شديدة الشراسة. 

أولوية الاقتصاد

لكن العامل الأكثر خطورة بين كل هذا، كان أولويات الكثير من الحكومات الغربية، التي بدت في المراحل الأولى معنية بالاقتصاد، وتأخرت في تعطيل العمل لأسابيع بهذا الدافع، وركز بعضها جهودها على ضخ مليارات الدولارات لتعويض خسائر سوق الأوراق المالية، فيما كان القطاع الصحي يشتكي من نقص التجهيزات الأساسية ومعدات الحماية للعاملين.

ومع تفاقم أزمة الوباء، يبدو أن اهتمام بعض المسؤولين الغربيين مازال منصباً على الاقتصاد، ففي 24 من مارس، على سبيل المثال، صرح مسؤول كبير بولاية تكساس عن إن كبار السن على استعداد أن يضحوا بأنفسهم على أن يضروا بالاقتصاد.

في اليوم نفسه، كانت الصين قد أعلنت على رفع القيود بالكامل عن في مقاطعة ووهان (وإن بقية عاصمتها مغلقة)، بعد هبوط أعداد الإصابات المحلية في الصين إلى الصفر تقريبا لعدة أيام متوالية. وبالتوازي كانت أطقم طبية صينية، ومعدات صحية تصل إلى دول أخرى من إيطاليا إلى أثيوبيا، للمساعدة في مواجهة الوباء.

ولا شك أن السلطات الصينية تسعى إلى تعويض الضرر، الذي لحق بصورتها، بالترويج لنجاحها في القضاء على المرض محليا ولدورها القيادي في مواجهته عالميا، ولا يخلو هذا من الكثير من البروباغندا. وبالقدر نفسه، لا يخلو التشكيك في كفاءة ردة الفعل الصينية ومدى نجاحها من الكثير من المواقف المسبقة والتنميطات ذات الدوافع الإيدلوجية.

في النهاية لا يعني الإقرار بنجاح السلطات الصينية في مواجهة الوباء أو نقد ردود أفعال الحكومات الغربية وإدانتها، احتفاء بالسلطوية أو ذما للديمقراطية، فالخطر الأكبر على الأخيرة هو على العكس من ذلك، أي الإصرار الأعمى على أن حكومات منتخبة ديمقراطيا بالضرورة تتمتع بالكفاءة والنجاعة، وذلك الشعور المتراخي بالثقة في الديمقراطية ومؤسساتها، دون مسألتها وإعادة مسألتها، ومواجهة نقائصها، والاعتراف بها، ومراجعة أولوياتها ، دائما وطوال الوقت.   

 

شادي لويس

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

شادي لويس، كاتب وأخصّائي نفسي مصري، مقيم في لندن، مهتمّ بتحليل البنية السيكولوجية للخطاب السياسي في المنطقة العربية.

 

 

 

اقرأ/ي أيضا: مقالات من موقع قنطرة

كورونا في تركيا: ريات المؤامرة والشعبوية 

فيروس كورونا: وباء كوفيد-19 يغير أجندة الأديان العالمية

دول عربية وإسلامية تعزل نفسها تصدياً لفيروس كورونا

هكذا ساعد الملالي على انتشار فيروس كورونا في إيران