انتهاز حدود أوروبا المغلقة وجمع الثروة من بؤس اللاجئين

تبدو بلدة "برج مغيزل" الواقعة في شمال دلتا النيل على ساحل البحر الأبيض المتوسط وكأنها قرية صيادين مصرية عادية. ولكن معظم الأهالي يعيشون في هذه القرية من تهريب اللاجئين، "المربح أكثر بكثير من تجارة المخدِّرات"، والتذكرة الوحيدة التي تنقلهم إلى أوروبا، بل وثمة حديث عن "تواطؤ الشرطة في أعمال التهريب". الكاتب كريم الجوهري يسلط الضوء على تهريب اللاجئين من مصر إلى أوروبا وخاصة السوريين في تقريره الميداني التالي لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Karim El-Gawhary

نصل إلى المهرِّبين عبر طُرُق متعرِّجة ووعرة، تنتشر على جانبيها بساتين خلاَّبة من النخيل والقصب الكبير. وتفوح هنا رائحةُ البحر، ونسيمٌ طعمه مالح - عند الطرف الشمالي من دلتا النيل، حيث يلتقي ذراع النيل الغربي "رشيد" مع البحر الأبيض المتوسط.

وهنا تقع بلدة برج مغيزل، وهي قرية صيَّادين مصرية عادية، مثلما تبدو من النظرة الأولى. توجد هنا بعض قوارب الصيد الراسية فوق الرمال. وقوارب أخرى تسير ببطء عبر نهر النيل لتعبر مئات الأمتار المتبقية باتِّجاه البحر. وفي شارع القرية يسود مزيجٌ مفعم بالحيوية والنشاط مكوَّن من السيَّارات ومركبات "التوك توك" وعربات الحمير. وهنا تقوم محرِّكات الديزل الصاخبة بضخ المياه من قناة الري إلى الحقول المجاورة.

غير أنَّنا لا نشاهد من النظرة الأولى أنَّ هذه القرية برمَّتها تعيش عمليًا من التهريب. الجميع هنا تقريبًا يشاركون في تجارة نقل اللاجئين وخصوصًا السوريين عبر البحر إلى إيطاليا.

تبدو السيِّدة رضا في عباءتها السوداء المطرَّزة بشكل جميل وكأنَّها رئيسة القرية. وهي تملك مركبان، تمت سرقتهما من قبل مافيا المهرِّبين - على الأقل مثلما تدَّعي رضا. ولذلك فقد تمت الآن مصادرة المركبين من قبل السلطات.

كبار المهرِّبين

والسيِّدة رضا صاحبة المركبين هي واحدة من الأشخاص القليلين الذين يتحدَّثون بصراحة حول الجانب المظلم لهذه القرية. وحول ذلك تقول: "جميعنا نعرف كبار المهرِّبين بأسمائهم. وهم يستغلون شباب القرية. كما أنَّ خمسة وتسعين في المائة من شباب القرية يعملون في التهريب". وتضيف أنَّ الرحلة إلى إيطاليا بمركب محمَّل باللاجئين يمكن أن تُربحهم نحو ثلاثمائة ألف يورو: "بعض الأشخاص في القرية أصبحوا بين عشية وضحاها من أصحاب الملايين"، مثلما تقول وتضيف أنَّ الذين يكسبون أكثر هم كبار المهرِّبين وأصحاب المراكب.

وهم يعملون دائمًا بالطريقة نفسها: "كلُّ واحد من كبار المهرِّبين لديه العديد من المندوبين، الذين يُجَمِّعون اللاجئين ومن ثم "يُخزِّنونهم" - مثلما يصفون ذلك - بشكل مؤقت في بيت أو في حظيرة للمواشي، إلى أن يتَّفقوا مع أصحاب المراكب. وثم ينقلون اللاجئين في مراكب صغيرة إلى أخرى كبيرة. ومن هناك يذهبون إلى إيطاليا"، مثلما تقول رضا. تستغرق هذه الرحلة من أربعة إلى سبعة أيَّام، بمحاذاة الساحل صعودًا إلى المياه الليبية ومن ثم عبر البحر إلى السواحل الإيطالية.

طرق التهريب الرئيسية إلى أوروبا عبر البحر المتوسط
على مدار ثلاثة أيام في شهر مايو/ أيار 2016 وقعت حوادث غرق جديدة في البحر المتوسط أودت بحياة سبعين مهاجرا على الأقل، بحسب البحرية الإيطالية، التي أنقذت أيضا أكثر من 550 شخصا. لكن تصريحاتها تشير إلى احتمال أن يكون حوالي مئة شخص مفقودين.

"تواطؤ الشرطة في أعمال التهريب"

ويبدو أنَّ الشرطة المحلية تشارك منذ فترة طويلة في تجارة التهريب، مثلما تقول صاحبة المركبين رضا: "بالمال يمكن تحقيق كلِّ شيء. ولنفترض أنَّني شرطي ووظيفتي هي أن أراقب إن كنتَ لا تخرق القانون. غير أنَّني آتي إليك - إلى المهرِّب - لكي أحصل على أجرتي. وإذا كنتَ تدفع للأشخاص العاملين في الدولة، فيمكنك عندئذ أن تفعل كلَّ شيء، ولن تتم محاسبتك أبدًا".

وكبار المهرِّبين في هذه القرية يرفضون إجراء مقابلات معهم. وهم يتجنَّبون كلَّ شيء من شأنه أن يُسلِّط الضوء على أعمالهم. ولكن على الشاطئ يمكننا أن نلتقي الشباب أبناء قرية الصيَّادين هذه. وهؤلاء الشباب هم الذين يخرجون في نهاية المطاف بالقوارب إلى إيطاليا.

يقول شاب من هؤلاء الشباب، وهو طالب لم يبلغ عمره بكلِّ تأكيد ثمانية عشر عامًا بعد، ولا يريد رؤية اسمه منشورًا في الصحافة: "أنا أحصل مقابل كلِّ رحلة أوصلها إلى هناك على ما يعادل خمسمائة يورو". ويضيف أنَّ ذلك صعب، لأنَّ اللاجئين غالبًا ما يكونون في حالة سيئة.

العمل في التهريب من دون تردُّد

ولكن هذا الشاب الذي يرتدي قبعة بيسبول وسمَّاعات على أذنيه لا يشعر مع ذلك بأي تردُّد، ويقول: "إذا أُتيحت لي الفرصة مرة أخرى، فسوف أفعل ذلك من جديد. أنا أنتظر فقط حتى نهاية المدرسة، وفي العطلة سأعود مرة أخرى. في فترة الدراسة أذهب إلى المدرسة، وفي العطلات أعمل كمهرِّب". ويضيف أنَّ الأمر بسيط للغاية: "إمَّا أن تعمل هنا كصيَّاد فقير أو أن تسافر طريق إيطاليا".

وفي مدينة الإسكندرية الساحلية الواقعة على بعد ساعة بالسيارة، ركَّزت الصحفية هناء أبو العز عملها على البحث حول اللاجئين والمهرِّبين. وحول اعتماد المهرِّبين على القاصرين في قيادة المراكب، تقول هناء أبو العز إنَّ هذا عمل مخطط له: "غالبًا ما يكون الأشخاص الذين يعملون على السفن دون سنّ الثامنة عشْرَة. وعندما يتم القبض على السفينة أمام سواحل إيطاليا، فعندئذ لا يمكنهم اعتقال سوى القاصرين. وعادة ما تتم معاملتهم كضحايا، ويحصلون على وضع اللاجئ وبدلاً من إرسالهم إلى السجن يتم إرسالهم في إيطاليا إلى المدرسة". ولكن مع ذلك فإنَّ هؤلاء الشباب لا يريدون أن يتم ضبطهم، وذلك لأنَّ كلَّ شخص منهم يحصل مقابل كلِّ رحلة على ما يعادل خمسمائة يورو.

African refugees in the Mediterranean
"كلُّ واحد من كبار المهرِّبين لديه العديد من المندوبين، الذين يُجَمِّعون اللاجئين ومن ثم "يُخزِّنونهم" - مثلما يصفون ذلك - بشكل مؤقت في بيت أو في حظيرة للمواشي، إلى أن يتَّفقوا مع أصحاب المراكب. وثم ينقلون اللاجئين في مراكب صغيرة إلى أخرى كبيرة. ومن هناك يذهبون إلى إيطاليا"، مثلما تقول المواطنة المصرية رضا.

وبالتالي عندما تعبر سفن الاتِّحاد الأوروبي الحربية الكبيرة البحر الأبيض المتوسط من أجل محاربة المهرِّبين، فعندئذ يكون الاحتمال الأكبر أنَّها لن تعتقل سوى بعض طلاب المدارس المصريين.

وكذلك لقد تقصَّت الصحفية هناء أبو العز عن طريقة عمل المهرِّبين المعتادة. وحول ذلك تقول إنَّ "مندوبي مافيا التهريب يذهبون إلى المقاهي، التي يرتادها اللاجئون السوريون في الإسكندرية. ويتحدَّثون إليهم ويعدونهم بأنَّهم يمكن أن يساعدوهم. ثم يتَّفقون معهم على سعر يتراوح بين ثلاثة آلاف دولار وثلاثة آلاف وخمسمائة دولار من أجل رحلة العبور إلى إيطاليا". ولا يخبرون اللاجئين متى ستبدأ هذه الرحلة. ثم يتلقَّى اللاجئون مكالمة هاتفية، يخبرونهم فيها أين يتجمَّعون. وهناك عادة ما يتم نقلهم بحافلة إلى مكان بعيد ويتم "خزنهم مؤقتًا" في منزل، مثلما تقول هناء أبو العز.

تجريد اللاجئين من هواتفهم المحمولة

وقبل ذلك يتم تجريد اللاجئين بشكل مؤقَّت من هواتفهم المحمولة، لكي لا يتمكَّنوا من الاتِّصال بأي شخص. وأخيرًا عندما تبدأ الرحلة، يتم إيقاظ اللاجئين بشكل مفاجئ وغالبًا في منتصف الليل، ويتم نقلهم إلى مراكب صغيرة على الساحل، ومن ثم ينقلونهم بهذه المراكب الصغيرة إلى مراكب أكبر في عرض البحر. "يشارك العديد من الأشخاص في عملية التهريب. حيث يقوم البعض بتأمين المكان الذي تنطلق منه الرحلة. ولا يتركون أي شيء للصدفة، بل يتم حساب كلِّ شيء. وكذلك تتم مراقبة البحر. وهم يعرفون بالضبط متى وأين تسير دوريات خفر السواحل"، مثلما تقول الصحفية هناء أبو العز.

لا ينتهي ذلك دائمًا بشكل جيِّد بالنسبة للمهرِّبين، وخاصة بالنسبة للذين كانوا يقودون المراكب، وأعمار بعضهم أحيانًا تزيد عن ثمانية عشر عامًا. لقد دعتني أسرٌ كثيرة في هذه القرية إلى منازلها وأخبرتي هذه العائلات أنَّ أبناءها قد تم اعتقالهم في إيطاليا. وكذلك لقد تم إلقاء القبض على آخرين وهم في الطريق وتم سجنهم في ليبيا أو حتى في تونس.

وفي هذا الصدد تقول أحدى الأمَّهات: "اعتقدت أنَّ ابني خرج للصيد. ثم سمعت أنَّ ابني قد تم إلقاء القبض عليه في إيطاليا". وحول الرجل الذي سافر من أجله ابنها تقول: "لقد استغلَّنا وغرَّر بنا تمامًا". وتضيف أنَّها لم ترَ من هذا الرجل أي مبلغ من المال.

"هذا الرجل يجب أن يُسجَن. لأنَّه يُرسِل في كلِّ يوم مركبًا في رحلة جديدة إلى إيطاليا. وبيته هناك ليس بعيدًا من هنا"، تقول ذلك وهي تشير إلى منزل جديد مكوَّن من ثلاثة طوابق، تطل شرفاته على نهر النيل، ويبرز من بين المباني المجاور الآيلة للسقوط.

حلم الحصول على ثروة وبيت جميل

من الملفت للنظر أنَّ بعض المباني في القرية حديثة البناء أو تم تجديدها حديثًا. وهذه المباني لم يتم تمولها بالجنيه المصري، بل بدولارات اللاجئين، مثلما تقول صاحبة المركبين رضا: "الجميع في القرية يحلمون بامتلاكهم في يوم ما بيت جميل بعدة طوابق مثل بيوت المهرِّبين".

ولكن النظر إلى المنازل الجديدة لا يكشف إلاَّ عن جزء من ثروة المهرِّبين. فقد نقلوا ثرواتهم إلى أماكن خارجية. إذ إنَّ "الأشخاص الذين يعملون كمهرِّبين كبار، يخافون من أن يتم سؤالهم عن مصدر هذا المال. ولذلك فهم يبنون لأنفسهم نظامًا موازيًا"، مثلما توضح الصحفية هناء أبو العز. وفي البداية يشترون منزلاً كبيرًا آخر في الإسكندرية.

Fishing boats awaiting the next "mission" on the seafront at Borg Meghezel (photo: Karim El-Gawhary)
Local officials in the pocket of the mafia: ″You can do anything when you′ve got money. Say I′m a policeman and my job is to see that you don′t break the law. But I come to you, the smuggler, to get my salary. If you pay the people who work for the state, you can do anything and you′ll never be brought to justice,″ says boat owner Reda

"كما أنَّهم يسافرون بانتظام إلى إيطاليا أو فرنسا أو إلى أماكن أخرى في أوروبا. وحتى أنَّ لديهم هناك شققًا وبيوتًا وعملاً آخر أحيانًا". وبين فترة وأخرى يأتي كبار المهرِّبين من أجل زيارة أهاليهم، مثلما تقول هناء أبو العز: "وصحيح أنَّ لديهم هنا منزلاً جميلاً بعدة طوابق، غير أنَّ حياتهم الحقيقية تسير في مكان آخر".

جميع الدلائل تشير إلى أنَّهم يزيدون ثرواتهم من بؤس اللاجئين. "طريق البلقان الغربية باتت مغلقة، وليبيا فوضوية وخطيرة جدًا، ولذلك فسوف يزداد الطلب على مصر من جديد بين اللاجئين السوريين ابتداءً من الربيع"، مثلما يقول المحامي المختص في شؤون اللاجئين محمد سعيد في الإسكندرية. بيد أنَّ مصر ترفض منذ العام الماضي 2015 دخول المزيد من اللاجئين القادمين من سوريا إلى هبة النيل، التي يعيش فيها بحسب الإحصاءات الرسمية أكثر من مائة وثلاثين ألف لاجئ سوري مسجَّل. وعلى الأرجح أنَّ الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير.

"اليوم تمتد الطريق الوحيدة للسوريين من أجل الوصول إلى مصر عبر لبنان، لمواصلة رحلتهم من مصر إلى إيطاليا. وبما أنَّهم لم يعودوا يحصلون على تأشيرة لدخول مصر، فقد أصبحوا يسافرون إلى السودان. ومن هناك يسيرون على أقدامهم عبر الصحراء لثلاثة أو أربعة أيَّام، إلى أن يصلوا إلى أسوان في جنوب مصر"، مثلما يقول المحامي محمد سعيد. وأخيرًا يذهبون إلى الإسكندرية، حيث يتم اصطيادهم من قِبَل المهرِّبين.

"مربح أكثر من تهريب المخدرات"

في برج مغيزل يقوم المهرِّبون بتجهيز المراكب للرحلة التالية. لا أحد يعرف إن كانوا سيخرجون في الليل للصيد أو من أجل التهريب. "الناس هنا يُهَرِّبون كلَّ شيء"، مثلما تقول صاحبة المركبين رضا. يُخْرِجون من البلاد المعارضين السياسيين والإخوان المسلمين، ويدخلون إليها الأسلحة ومقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" - وبالطبع المخدرات أيضًا. "ولكن تهريب اللاجئين"، مثلما تقول: "مربح أكثر بكثير من تجارة المخدِّرات".

وقرية المهرِّبين لديها قوانينها الخاصة. مافيا التهريب تحدِّد كلَّ شيء هنا، في حين أنَّ الشباب يحلمون أن يكون لديهم في يوم ما منزلٌ كهذا المنزل الجميل مثل كبار المهرِّبين. وبالتأكيد إنَّ الجميع تقريبًا هنا متورِّطون في أعمال جنائية وفي صفقات مظلمة وغير قانونية. غير أنَّهم يعتبرون أيضًا بالنسبة للاجئين بمثابة تذكرة - هي التذكرة الوحيدة التي تنقلهم إلى أوروبا.

 

كريم الجوهري

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة ar.qantara.de 2016