العراق - ظن البغداديون أن زمن التفجيرات ولى: أغلب ضحايا هجوم داعش باعة يحاولون كسب لقمة العيش

الهجوم الانتحاري ببغداد يكشف ثغرات أمنية تغذيها الجائحة والتوترات السياسية: كشف التفجيران الانتحاريان اللذان تبناهما تنظيم الدولة الإسلامية في بغداد ثغرات في الأجهزة الأمنية العراقية المنشغلة إلى حدّ بعيد بالتعامل مع تداعيات انتشار وباء كوفيد-19 والتوترات السياسية وتصاعد نفوذ المجموعات المسلحة المتنافسة.

وقُتِلَ ما لا يقل عن 32 شخصا وأصيب أكثر من مئة بجروح في تفجيرين انتحاريين الخميس 21 / 01 / 2021، في اعتداء حصد العدد الأكبر من القتلى منذ ثلاث سنوات في العاصمة التي شهدت هدوءا نسبياً منذ هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية نهاية عام 2017.

ويقول الباحث جاك واتلينغ من "المعهد الملكي لخدمات الأمن والدفاع" في لندن لوكالة فرانس برس، "تنظيم الدولة الإسلامية لم يعد (...)، لكن هناك بعض المشاكل الواضحة جداً في قطاع القوات الأمنية العراقية، وما حدث خير دليل" على ذلك.

بعد الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003، أعيد تأسيس الأجهزة الأمنية من الصفر، وتمت الاستعانة بمدربين من جيوش أجنبية. لكن هؤلاء المدربين غادروا بمعظمهم فجأة بسبب جائحة كوفيد-19.

وانتشر فيروس كورونا المستجد بين عناصر القوات العراقية بسبب انعدام شروط التباعد الصحي خلال التواجد في معسكرات التدريب. في آذار/مارس 2020، أعلن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة بأنه سيسحب المدربين الأجانب.

وذكر مسؤول أميركي كبير في بغداد الشهر السابق لفرانس برس أن "انخفاض التدريب خلال العام الماضي 2020 بسبب كوفيد-19، سبب فجوة هناك"، في إشارة الى العاصمة.

ويرى واتلينغ أن هذا يعني كذلك أن قوات الأمن العراقية فقدت جزءا كبيرا من الدعم الذي كان يقدمه التحالف في مجال المراقبة، أي نوعا من "نظام إنذار مبكر" لعب دورا حاسما في كشف هجمات تنظيم الدولة الإسلامية قبل وقوعها.

وأعلن التحالف الدولي العام الماضي 2020 بعد سحب قواته من ثماني قواعد في العراق، أن الجيش العراقي بات قادراً على محاربة فلول الجهاديين لوحده.

خلال الفترة ذاتها، ومع تحسن الأوضاع الأمنية، قامت السلطات برفع حواجز خرسانية ونقاط تفتيش كانت موجودة منذ سنوات طويلة في بغداد. كما حركت وحدات أمنية مهمة لملاحقة خلايا تنظيم الدولة الإسلامية في مناطق ريفية خارج المدن وسلّمت وحدات أقل خبرة مسؤولية الأمن في العاصمة.

ويقول المحلّل الأمني أليكس ميلو إن "تنظيم الدولة الإسلامية كان يبدو أضعف من أن يتمكن من شن هجمات"، لكنه "وجد ثغرة يمكنه النفاذ منها".

وأعطى المسؤول العسكري الأميركي أمثلة على ذلك. في كانون الأول/ديسمبر 2020، اضطرت قوات التحالف الى تنفيذ ضربة جوية قرب الموصل (شمال) بعد أن سمح تراخي القوات العراقية على الأرض للجهاديين بالعودة الى التحرك.

وقتل في الضربة 42 جهادياً، وهو عدد كبير في ظروف تواجد قوات برية في المكان.

وأشار المسؤول الأميركي إلى أن "قادة كبار في بغداد كانوا غاضبين جداً من القوات المحلية، لأنه كان عليها أن تعرف بأمر تجمع الجهاديين".

لكن التحدي الأساسي قد لا يكون تقنيًا فقط. إذ تتألف قوات الأمن العراقية بشكل رئيسي من الجيش والشرطة الاتحادية والحشد الشعبي. والحشد الشعبي عبارة عن تحالف فصائل شيعية أدمجت مع القوات الأمنية بعد 2014.

وعدد كبير من هذه الفصائل مدعوم من إيران، الآمر الذي ولد عدم ثقة بينها وبين القوات التي تدربت على يد التحالف.

وتزايد التوتر بين الطرفين بعد مقتل رئيس فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهدي، بضربة جوية نفذتها طائرة أميركية مسيرة مطلع العام الماضي 2020.

ويرى واتلينغ أن "التوتر الحقيقي سياسي". ويوضح "خلال القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية، كان هناك كثير من تبادل المعلومات غير الرسمي بين الحشد والتحالف والآخرين، لكن هذا لم يعد موجوداً".

ويشكل العمل في ظل هذه التوترات تحدياً كبيراً بالنسبة لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي يُنظر إليه على أنه مقرّب من الولايات المتحدة.

وتولى الكاظمي رئاسة الحكومة بعد شغله منصب رئيس جهاز المخابرات في البلاد. واعتمد بشكل رئيسي على جهاز مكافحة الإرهاب الذي تلقى تدريباته على أيدي القوات الأميركية لملاحقة الخلايا الجهادية واعتقال مسؤولين فاسدين والحد من هجمات الجماعات المسلحة التي تطلق صواريخها في اتجاه السفارة الأميركية.

ويرى مراقبون أن الكاظمي يثق بعدد محدود جداً من القوات الأمنية، ما اضطر قوات مكافحة الإرهاب الى خوض مواجهات غير مرغوب بها ضد الفصائل الموالية لإيران انتهت أحيانا بتراجعها.

ويقول الباحث مارسين الشمري في معهد بروكينغز إن "التراجع المستمر عن الأوامر والاعتذار للجماعات المستهدفة لا يؤدي إلا إلى إضعاف قوات مكافحة الإرهاب والقائد العام والحكومة العراقية".

ودفع اعتداء الخميس 21 / 01 / 2021 الكاظمي إلى إجراء تغييرات في قيادات أمنية، وتسمية قادة جدد بينهم قادة عمليات بغداد والشرطة الاتحادية واستخبارات وزارة الداخلية المعروفة بـ"خلية الصقور".

ويأمل الكاظمي أن تساهم هذه التغييرات بمعالجة الثغرات. لكن مراقبين يشككون في إمكانية تحقيق ذلك، لأن المشكلة قد لا تكون فعلا على مستوى القيادة.

ويقول واتلينغ "عندما تتعامل مع بيروقراطية فاسدة، لا أحد نظيف".

في هذا الوقت، استكملت العائلات الجمعة 22 / 01 / 2021 دفن ضحايا اعتداء الخميس الذي أعاد الخشية إلى قلوب البغداديين من عودة التفجيرات الأمنية التي شهدوها خلال مراحل عدة منذ العام 2005.

مقتل 32 على الأقل في أول هجوم انتحاري ضخم ببغداد منذ ثلاث سنوات

وأعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عن الهجوم في سوق مكتظ في بغداد يوم الخميس 21 / 01 / 2021 فيما قالت السلطات العراقية إن انتحاريين فجرا نفسيهما مما أودى بحياة 32 على الأقل في أول هجوم انتحاري ضخم بالعراق منذ ثلاث سنوات ووصفت الهجوم بأنه إشارة محتملة إلى عودة نشاط التنظيم المتشدد.

وقالت الدولة الإسلامية في بيان نشرته على تطبيق تليغرام إن اثنين من رجالها فجرا نفسيهما في ساحة الطيران في وسط العاصمة العراقية بغداد.

وشاهد صحفيو رويترز الذين وصلوا بعد وقوع الانفجارين بِرَكَاً من الدماء وأحذية متناثرة في موقع الهجوم وهو سوق للملابس في ساحة الطيران بوسط المدينة. وقالت السلطات الصحية إن 110 أشخاص على الأقل أصيبوا.

وقال بائع متجول كان يقف على مقربة من المكان إن أحد المهاجمين سقط على الأرض وأخذ يصرخ مدعيا أنه يعاني من آلام في معدته ثم ضغط على جهاز التفجير الذي بيده ليحول الناس إلى أشلاء.

كانت التفجيرات الانتحارية يوما ما أمرا شائعا في بغداد، لكنها أصبحت نادرة الحدوث منذ هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية عام 2017، في إطار تحسن عام في الوضع الأمني أعاد الحياة إلى طبيعتها في بغداد.

وقال مدير الدفاع المدني اللواء كاظم سلمان للصحفيين "الأسلوب واضح والعدو واضح بالتأكيد... بحسب علمي... لم أطلع على تصريح. لكن بالتأكيد ربما تكون عصابات داعش الإرهابية هي التي تقف وراء هذا الحادث المجرم".

ويُظهر مقطع فيديو صُور من سطح مبنى وانتشر على وسائل التواصل الاجتماعي الانفجار الثاني الذي أدى إلى تطاير الأشخاص المتجمعين في المنطقة. وأظهرت الصور التي تم تداولها على الإنترنت عدة أشخاص من القتلى والجرحى. ولم يتسنَّ لرويترز التحقق بشكل مستقل من هذه الصور.

ووقع تفجير يوم الخميس 21 / 01 / 2021 في نفس السوق الذي شهد آخر تفجير انتحاري كبير في العاصمة العراقية في يناير كانون الثاني 2018 بساحة الطيران أيضا وأدى إلى مقتل ما لا يقل عن 27.

وقال مكتب رئاسة الوزراء في بيان مقتضب إن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي عقد اجتماعا طارئا مع كبار قادة الأمن لمناقشة الهجوم. وانتشرت قوات الأمن العراقية وأغلقت الطرق الرئيسية للحيلولة دون وقوع أي هجمات أخرى محتملة.

وقال متحدث باسم الجيش في بيان إن رئيس الوزراء أقال عقب الاجتماع قادة عسكريين وأمنيين كبارا منهم وكيل وزارة الداخلية لشؤون الاستخبارات، ومدير عام الاستخبارات ومكافحة الإرهاب بوزارة الداخلية، وقائد قوات الشرطة الاتحادية.

وسيطر تنظيم الدولة الإسلامية على مساحات واسعة في العراق وفرض عليها حكمه قبل أن تلحق القوات العراقية الهزيمة به عام 2017 بدعم من القوة الجوية الأمريكية.

وما زال هناك متشددون من التنظيم في العراق يشنون هجمات على القوات العراقية والمسؤولين المحليين بشمال البلاد في الغالب.

عراقيون يبحثون عن أقربائهم في مستشفيات بعد تفجيري بغداد ويخشون موجة عنف جديدة

وتنقلّ أفراد عائلات الضحايا مفجوعين في أروقة أحد مستشفيات بغداد من سرير إلى آخر في محاولة للتعرف على أحبائهم الذين أصيبوا في الاعتداء الذي حصد أكبر عدد من القتلى منذ ثلاث سنوات في العاصمة العراقية.

في مستشفى الشيخ زايد، تجمعت العائلات على بعد أقل من ثلاثة كيلومترات من ساحة الطيران حيث فجر انتحاريان نفسيهما في الصباح، وقد نُقِلَتْ جثث و نُقِلَ جرحى يصارعون الموت، إلى المكان.

ووقع الاعتداء صباح الخميس 21 / 01 / 2021 في موقع لتجمع عمال مياومين وسوق للملابس المستعملة في ساحة مزدحمة وسط العاصمة التي يبلغ عدد سكانها عشرة ملايين نسمة.

قام انتحاري أول بتفجير نفسه في سوق البالة "بعد أن ادعى أنه مريض فتجمع الناس حوله"، بحسب وزارة الداخلية التي أوضحت أن الانتحاري الثاني فجر نفسه "بعد تجمع الناس لنقل الضحايا الذين أصيبوا في التفجير الأول".

وأغلب الضحايا الذين سقطوا هم من الباعة الذي يحاولون كسب لقمة العيش في بلد يمر بأسوأ أزمة اقتصادية، على خلفية انخفاض أسعار النفط والتراجع الحاد في قيمة العملة.

وقال عباس سامي (25 عاما) الذي كان يبحث عن شقيقه "أخي متزوج وله طفلان وخرج هذا الصباح ليحضر شيئًا لإطعامهما. ماذا سيحدث لأبنائه الآن؟".

وتسلم المستشفى ضحايا لم يتم التعرف عليهم بعد بسبب شدة إصابتهم.

وقال مازن السعدي الذي نجا بأعجوبة من الانفجار، وقال إنه كان مع صديقه الذي "ابتعد بضعة أمتار عني. كنا سوية لحظة التفجير. بعد لحظات اختفى، ولم أرَهُ". وبعد بعد الوقت، عثر على جثته في المستشفى.

ومع تحديد الحكومة موعدا لانتخابات مبكرة، يخشى هذا الرجل "عودة التفجيرات". وتحول الخلافات السياسية دون البت في اقتراح تأجيل أو إلغاء الانتخابات المبكرة.

وقال السعدي "عادت الصراعات السياسية" التي غرقت فيها البلاد من 2006 إلى 2010. "يعود بنا الزمن إلى الوراء".

وظن البغداديون أن زمن التفجيرات التي كان ينفذها جهاديون في الماضي، وتخللها أحيانا تفجير 15 سيارة مفخخة في يوم واحد وهجمات أسفرت عن سقوط 300 قتيل، انتهى. فمنذ 2017، تاريخ إعلان الانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية، حصل نوع من الاستقرار.

لكن عاد الخوف والقلق ليخيما على الجميع اليوم ويذكرا بتجارب الماضي.

وقال أبو زينب الذي توفي شقيقه في مستشفى الشيخ زايد "كيف تسلل الدواعش إلى قلب بغداد؟ ألم تعلن الحكومة النصر على داعش؟".

وذكَّر أسلوب التفجير باعتداءات تنظيم الدولة الإسلامية.

واعترف مسؤول استخباراتي رفض الكشف عن اسمه، بحدوث خرق. وقال لوكالة فرانس برس "كنا في حالة تأهب لاحتفالات نهاية العام وتوقعنا وقوع هجمات، وفي النهاية لم يحدث شيء. خذلنا حذرنا".

وكغيره من الكثير من العراقيين، حمّل أبو زينب المسؤولية إلى الفساد الذي ينخر في كل المؤسسات بما فيها تلك التي يفترض أن تضمن أمن الجميع. وقال "ما دام الفساد ينخر المؤسسات الأمنية، لن يعود الأمن وأصبح العراقي حطب نار الصراعات بين السياسيين".

وقال البعض إنهم جالوا على العديد من المستشفيات الأخرى دون أن يجدوا أحباءهم.

وقال عباس سامي "لم نرتَحْ طويلا، وعادت التفجيرات الآن مع تردي الوضع الاقتصادي".

وأضاف بحسرة "بات من المستحيل العيش في هذا البلد". أ ف ب ، رويترز

 

 

[embed:render:embedded:node:24255]

 

 

[embed:render:embedded:node:37136]