الباحث عبد الإله بلقزيز حول التفكير في التكفير: نحو استراتيجيّة مواجهةٍ ثقافية

يمثل العقل التكفيري – إنْ جازت تسميتُه عقلاً – الثمرة المُرّة لميراثيْن ثقيليْن يجثمان على حاضر مجتمعاتنا وثقافتنا: ميراثٌ ثقافي تكفيري حَفِل به تاريخُ الإسلام، وناهضتْهُ تيارات العقل والاجتهاد والتسامح فيه؛ وميراث اجتماعي – اقتصادي – سياسي معاصر من الحيْف والتهميش والاستبداد، كانت مجتمعاتُنا العربية، وفئات واسعة من الشعب فيها، عرضةً له. واجتمع الميراثان معاً في تكوين ظواهر اجتماعية شاذة وكارثية عدّة منها ظاهرة الجماعات التكفيرية، الذاهبة بنزعتها الرفضوية الاحتجاجية إلى الحدود التي تنذر بإطاحة كيان الجماعة الوطنية في كلّ بلدٍ من البلدان العربية المنكوبة بأفعالها!

يتعلق الأمر في تكوين ظاهرة التكفير بتداخل عوامل عديدة مركّبة، لا بعامل واحد بسيط. قد يبدو التكفير ظاهرةً ثقافية – دينية تتصل بنوعٍ من الفهم خاطئٍ لنصوص الإسلام؛ وهي كذلك من غير شك. لكن أسبابها وعواملها أعمق من مجرّد إساءة القراءة والفهم، وأبعد من مجرَّد القصور المعرفي في إدراك مقاصد الأحكام الشرعية؛ وبيانُ ذلك أن هذا القصور ليس جديداً على المسلمين، في تاريخهم الحديث والمعاصر، ومع ذلك لم يجنح منهم أحدٌ لتكفير الناس وسفك دمائهم باسم الدين. ثم إن التكفير غالباً ما أطلّ على مجتمعاتنا في أوضاع الأزمة الاجتماعية – السياسية، ونما في بيئات طحنتها أوضاعُ الأزمة تلك. وهو ما يقوم به الدليل على اتّصال الظاهرة بعوامل الاجتماع والسياسة والاقتصاد…. إلخ. وما لم تُدْرَك هذه الحقيقة (= حقيقة اتّصال ظاهرة التكفير بالعوامل الاجتماعية – السياسية)، سنُسِيء الردّ عليها، ونُخطِئ طريق استيعابها أو احتواء أخطارها، وربما قد تسقُط ردودُ فعلنا تجاهها في فخّ مفاقمةِ أسباب تجديدها واستفحال أمر مخاطرها تلك.

إذا صحَّ القول إن التكفير من الثمرات المُرّة للاجتماع السياسي العربيّ المعاصر – وهو صحيح – فلا مهْرب من القول إنّ ارتفاع الظاهرة (= التكفير) لا يكون بغير العمل على ارتفاع أسبابها المولِّدة: أزمة الاجتماع السياسي العربي. وليس يخامرنا شكٌّ في أن الأزمة هذه مركَّبة وعميقة وبنيوية، بل قابلة – لتلك الأسباب – لأن تصبح أزمةً انفجارية من فرط تراكماتها وتداخُل أبعادها. إن الفقر، والتهميش، والاستبداد، والفساد، وسوء توزيع الثروة… عدوٌّ مبين للحاضر والمستقبل، لأنها جميعها بيئة خصبة لإنتاج ظواهرَ من الرفض والاحتجاج عديدة قد يَرْكبُ بعضُها مرْكب العنف الأعشى للردّ على قسوةِ الأوضاع بأفعالٍ انتحارية أشدّ قسوة، على مثال ما يجري اليوم مع جماعات التكفير المسلحة، بل على مثال ما بدأ يُفصح عن نفسه منذ سنوات الثمانينيات من القرن العشرين الماضي!

التكفير، بهذا المعنى، هو الترجمة الثقافية السياسية لأوضاع البؤس الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي ينخر عمران هذا الاجتماع العربي: المتأخّر، العصبوي والمهزوم. والردّ عليه (= على التكفير) لا يكون فقط من طريق سياسات الاستئصال الأمني؛ فهذه ما نجحت يوماً في إنهائه: لا في الجزائر، ولا في أفغانستان، ولا في مصر، ولا في الصومال… إلخ، إذْ ما يلبث بعد كلّ ضربةٍ أن يُطِل بأكثر من رأس بعد قطع رأسه الأولى! والمستفاد من هذا أن ظواهر من هذا الضرب تنشأ من أسباب اجتماعية عميقة، لا يمكن القضاء عليها بتصفية أعراضها، وإنما باستئصال الأسباب والجذور التي ولَّدتْها وأَنْبَتَتْها. وهكذا، ما لم تتقدم مجتمعاتُنا العربية في السعي نحو إنتاج نظام سياسيّ حديث يكفل حقوق المواطنة، والحريات العامة، والمشاركة السياسية، وما لم تَهْتَد إلى وضع حدٍّ للفساد وهدْر الثروة والمال العام، وتحقيق الإنماء المتوازن، والحدّ من الفوارق الطبقية الفاحشة، عبر إعادة توزيع الثروة توزيعاً عادلاً أو أكثر عدلاً، فلن يكون في الوسع إنهاء ظاهرة كبيرة وخطيرة مثل ظاهرة التكفير وجماعاته السياسية والمسلّحة.

أمّا إذا صحَّ القولُ إن التكفير من الثمرات الـمُرّة لميراثٍ ثقافي إسلامي معادٍ للعقل والاجتهاد والتسامح، وضَيِّقٌ الأفق في فهم نصوص الدين – وهو صحيح – فإنّ على ذلك يترتّب القولُ إننا سنكون – في حينها – في مسيس الحاجة إلى اجتراح استراتيجيةٍ فكريةٍ: تربوية – تعليمية وثقافية – تنويرية لصدِّه والردّ عليه، وإضعاف نفوذه في الوعي والمجتمع. وعلينا هنا أن نعترف، ابتداءً، بأن تراثنا العربي الإسلامي – شأنُه شأن أي تراث ثقافي في التاريخ الإنساني – فيه الغث والسمين، الرديء والجيد، الظلامي والتنويري، وأنه مثلما حَوَى تيارات العقل والتجديد والاجتهاد والتسامح، كان فيه القدرُ الكبير من تيارات التحجُّر والجمود والانغلاق والتكفير والتشرنُق على الذات. ومثلما نشأت الإصلاحية الإسلامية النهضوية الحديثة (في القرن التاسع عشر) مستلهمةً تيارات الاجتهاد في ذلك التراث، نشأت الإحيائية الصحوية الإسلامية (وحفيداتها من الحركات التكفيرية) مستلهمةً تراث الانغلاق والجمود والتكفير. لن يفيدنا، كثيراً، إنكار حقيقة وجود مصادر لهذا الفكر الظلاميّ المنغلق في تراثنا، أو التستّر عليها بدعوى تنقية صورة الماضي وصورة الإسلام؛ إذْ مَن قال إنّ صلةً ما تربط هذه التيارات بالإسلام حتى نخشى عليه من أن يُؤخذ بجريرتها؟ بل نحن نذهب إلى الظن أن تنقية صورة الإسلام إنما تكون من طريق تحريره من ذلك التراث المنغلق والظلامي، ومن طريق تحريره اليوم من محاولات السطو عليه من قِبل تيارات التكفير وجماعاته.

 

تابعوا قراءة مقال الباحث عبد الإله بلقزيز كاملا من موقع مركز دراسات الوحد العربية 

 

 

..................

طالع أيضا:

 

"سبب تخلف المسلمين ليس الإسلام ولا الاستعمار"، بل

 

"سلطوية تحالف مشؤوم بين رجال الدين والدولة"

 

ما مدى نجاعة المقاربة الاستباقية والدينية في محاربة التطرف في إندونيسيا؟

 

خطاب الأبراج العاجية: النخب العربية لا تملك إجابات لمواجهة تحديات الواقع

 

لماذا يريد 72% من سكان إندونيسيا الشريعة الإسلامية

...................