مصر - التصوف...أداة سياسية في يد الأنظمة السلطوية؟
يقول عصام عبده: عندما كان يقف على المنبر ويؤدِّي الذكر، فعندئذ كان الأمر كما لو أنَّه كان يطير. ثم كان يشعر بالطاقة تمتد إليه من زملائه مريدي الحضرة الصوفية، الذين يسلمون أنفسهم معه للطقوس الصوفية ويردِّدون لفظ الجلالة "الله" بشكل إيقاعي وبسرعة أكثر وأكثر وبصوت أعلى وأعلى، حتى النشوة. وعندئذ ابتعد عنه كلُّ شيء سلبي. يقول عصام عبده لقد كان ذلك مثل التأمُّل، ثم يضيف مستدركًا: لا، بل كان أفضل من التأمُّل؛ فأنت تصل بصوتك - وبروحك - إلى أقصى حدودهما.
مع ذلك فإنَّ عصام عبده نفسه لم يكن حتى صوفيًا، من أتباع التيَّار الصوفي الإسلامي. كما أنَّه لا يزال كذلك حتى اليوم. اضطر هذا الشاب المصري البالغ من العمر أربعة وثلاثين عامًا إلى ترك "الحضرة الصوفية" قبل عام، التي شارك في تأسيسها وكان ينشد فيها.
من أجل فهم أسباب ذلك، يجب علينا أن نعرف المزيد عن الصوفية - وعن مصر اليوم، بعد خمس سنوات من انتهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين والاستيلاء على السلطة من قبل عبد الفتاح السيسي، الرئيس الذي تم انتخابه في ربيع عام 2018 لولاية ثانية.
من "جنون تعظيم السيسي" إلى الرفض العلني
عندما قام السيسي بخلع الرئيس محمد مرسي في الثالث من تمُّوز/يوليو 2013، كان يبدو أنَّ تأليه شخص هذا الرجل العسكري القوي الجديد كان ينمو بشكل غير محدود.
وبقدر ما كانت جراح الثورة وما تلاها من معركة بين الإسلاميين والثوَّار العلمانيين [الليبراليين] وأنصار النظام القديم كبيرة للغاية، بقدر ما كان يوجد حنين كبير للغاية إلى السلام والنظام، بحيث بات الكثير من المصريين سعداء برؤية رجل عسكري عاد ليمسك بزمام السلطة.
انتشر مصطلح "جنون تعظيم السيسي"، وظهر العديد من الأشياء الدالة على تقديس السيسي مثل الشوكولاتة وحتى الملابس الداخلية، وكان السياسيون والمواطنون العاديون يتسابقون في التعبير عن تمجيدهم له.
واليوم؟ يقول بعض المصريين عندما يدور الحديث حول الأوضاع الاقتصادية البائسة: "في عهد مبارك، كان كلُّ شيء أفضل". أو: "#ارحل_يا_سيسي" - وهو هاشتاغ انتشر من جديد على شبكة الإنترنت. لقد تأثَّر السيسي كثيرًا، لدرجة أنَّه قد علَّق على ذلك أيضًا أثناء أحد خطاباته واشتكى من أنَّ خدمته للبلاد لم تكن موضع تقدير. وبات الكثيرون يسخرون من الرئيس بشكل علني خاصة في الأوساط ذات التوجُّهات الغربية.
ولكن بطبيعة الحال فإنَّ نسبة التصويت التي حصل عليها السيسي وبلغت 97 في المائة في شهر مارس/آذار 2018 أثناء عملية إعادة انتخابه، وقد تم توجيهها بقوة، لم تكن نتيجةً مفبركةً تمامًا. وعلاوة على ذلك: هناك خوف يختلط بالسخرية. فبعد فترة قصيرة من تولي السيسي السلطة، بدأ النظام في الحدّ بشكل منهجي من حرِّيات المعارضة والمجتمع المدني، التي كانت قد زادت بشكل كبير أثناء الربيع العربي عام 2011.
كلُّ شيء تحت السيطرة
آخر إجراء اتَّخذه النظام هو قانون الإعلام الجديد. وبعدما صادق عليه الرئيس، أصبح نشرُ "الأخبار الزائفة" جريمة يعاقب عليها القانون، علمًا بأنَّ جميع المواقع الإلكترونية والمدُّونات والحسابات على شبكات التواصل الاجتماعي، التي يوجد فيها أكثر من خمسة آلاف مشترك، تعتبر بموجب هذا القانون من وسائل الإعلام. وعلى أية حال فإنَّ مصر تعتبر حاليًا بحسب منظمة "مراسلون بلا حدود" سجنًا "من أكبر السجون للصحفيين في العالم".
أمَّا بقية المجتمع المدني فحاله ليست أفضل بكثير. إذ لم يعد بإمكان المنظمات غير الحكومية أن تعمل في مصر إلَّا بشكل محدود للغاية منذ إصدار قانون جديد لتنظيم عملها. وقد أخطأ كلُّ مَنْ كان يتوقَّع أنَّ إعادة انتخاب السيسي يمكن أن تعني استعادة بعض الحرِّيات: فقد تم اعتقال العديد من المعارضين واتِّهامهم.
يقول أحد الأشخاص الذين لعبوا دورًا مهمًا في ميدان التحرير في عام 2011: "عمليًا جميع الذين كانوا معي هناك في ذلك الوقت أصبحوا الآن إمَّا ميِّتين أو في السجن أو غادروا البلاد". وهو نفسه نجا تقريبًا من المحاكمة - ومنذ ذلك الحين يبتعد عن الأنظار. مثل معظم المصريين.
الثورة التي كافحوا من أجلها، انتهت قبل خمس سنوات، في الرابع عشر من آب/أغسطس 2013، عندما قتلت قوَّات الأمن المصرية أكثر من ثمانمائة شخص من أنصار الإخوان المسلمين في مذبحة وقعت في ميدانين بالقاهرة. حتى وإن كان الثوار الليبراليون والإسلاميون خصومًا - فبعد ذلك اليوم بات من الواضح أنَّ النظام لن يتحمَّل أي تحدٍ لحكمه.
المعارضة الإسلامية غير المتجانسة
الحكومة في القاهرة تمنح الأولوية بطبيعة الحال لجوانب أخرى. مصر لا تزال تخوض مثل ذي قبل معركة صعبة ضدَّ الإرهابيين الإسلامويين. يميل النظام المصري إلى وضع الجميع في وعاء واحد - الإخوان المسلمين المصنَّفين كإرهابيين والجهاديين من تنظيم "الدولة الإسلامية" وغيرهم من أفراد التنظيمات، التي تواجه قوَّات الأمن المصرية منذ سنوات في شبه جزيرة سيناء.
غير أنَّ الطيف الإسلامي واسعٌ وغير متجانس ويشمل بالإضافة إلى الجماعات المذكورة، على سبيل المثال السلفيين غير الجهاديين، الذين تفاهم بعضهم مع النظام. لقد تراجع تأثيرهم وتأثير جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، لكنهم لم يختفوا تمامًا - إذ إنَّ المجتمع المصري متأثِّر كثيرًا بالإسلام السياسي، كما أنَّ مصر كانت مهد هذه الأيديولوجية. وبالتالي يبقى التهديد قائمًا بالنسبة للنظام، بصرف النظر عن مدى دفع الإسلام السياسي إلى العمل في الخفاء.
ولكن أين الصوفيون من كلِّ هذا؟ "الصوفيون هم الحلُّ" - إذا جاز تصديق تقديرات المراقبين والخبراء المصريين. يقول عصام عبده، المُنْشِد الصوفي السابق: "الخطة هي التصوُّف، لقد رأيت ذلك بأمّ عيني". وهو ليس الوحيد الذي يلاحظ وجود تقدير جديد للإسلام الصوفي من جانب النظام المصري.
صعود التصوُّف في مصر
من الصعب استخلاص هذا التقييم من أحداث فردية معيَّنة، ولكن يقول جميع المتحدِّثين إنَّ هناك ترويجًا لظهور التصوُّف في الفضاء العام، مثلًا من خلال زيادة فترات البثّ في التلفزيون. كذلك تم في السنوات الأخيرة الاعتراف بالعديد من الطرق الصوفية الجديدة، والتي كانت من بينها واحدةٌ تم الاعتراف بها في ربيع عام 2018، يترأسها مفتي الديار المصرية السابق علي جمعة.
من الواضح أنَّ صعود التصوُّف يلاقي تجاوبًا لدى شرائح واسعة من المصريين. فالحضرة الصوفية التي شارك في تأسيسها عصام عبده قبل عامين ونصف، كانت تقدِّم عروضها في البداية أمام جمهور صغير. وحول ذلك يقول عصام عبده: "كنا فنَّانين فقراء من دون أي دعم". ولكن أماكن العرض صارت تتسع أكثر، حتى تم في نهاية المطاف حجز هذه المجموعة للعرض في دار الأوبرا المصرية.
يقول عصام عبده متذكِّرًا: "كان هذا مثل حلم". حيث وقف هو وأفراد الفرقة الخمسة عشر الآخرون على خشبة المسرح أمام أكثر من ألف شخص وقدَّموا طقوسهم الدينية. وهو لا يرى أنَّ صعود "الحضرة" السريع جاء مصادفة. ويعتقد من ناحية أنَّ فرقته قد أصابت عصب العصر، ومن ناحية أخرى أنَّها تم دعمها من قبل الدولة. "هم يريدون الصوفيين بدل الداعشيين"، مثلما يقول.
كريستيان مايَر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: صحيفة فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ / موقع قنطرة 2018
ar.Qantara.de