الروائي والمفكر إلياس خوري
واقع العالم العربي هو الكابوس وليس كنايته الأدبيّة

يدافع الكاتب إلياس خوري عن حق الروائيين العرب في الاحتفاء بالمكانة، التي تحــتلها الرواية في الثقافة العربية المعاصرة، لكن يشدد أنه يجب ألاّ ننـسى أن هذه المـكانة قديمة وليست ابنة هذه اللحظة «الجوائزية»، وأنها ليست مدعاة للفخر، بل تدعونا إلى التواضع وإلى بناء شعرية الرواية وموسيقاها ومشهديتها، وإلى تأكيد تداخل الأنواع الأدبـية والفـنية في نسيج ثقافي يقاوم الموت والاستبداد والانهيار الأخلاقي.

أبدأ بسؤال لست متأكداً من قدرتي على الإجابة عنه، لكنه سؤال يؤرقني منذ أن بدأت أشعر بأنني أعيش في مكان غامض يقع خارج التجارب الأدبية، التي اعتدت أن أتماهى معها ومع أبطالها. أستطيع أن أعيد ذلك إلى بدايات الحرب الأهلية اللبنانية حين انفجر المجتمع اللبناني الصغير على تناقضات تتجاوزه، ولا يملك أمامها القدرة على الاحتمال، فتشظى، وبدأت مع تشظّيه تنهار أحلام صنعتها الحداثة الأدبية والسياسية.

ظلال الحرب اللبنانية لم تختفِ مع إعلان نهاية الحرب في سنة 1991، وإنما ازدادت رسوخاً، وصارت إشارة إلى عجزنا عن أن نعي أن بلاد العرب تعيش في نكبة مستمرة منذ سنة 1948 على الأقل، وأن هناك مساراً كارثياً دخلنا فيه ولا يزال في انتظارنا، وأن علينا أن ندفن آباءنا الذين نعيش مع جثثهم ولا نشم رائحة موتهم التي اعتدنا عليها.

غير أن السؤال صار أكثر إشكالية حين أعدت اكتشاف فرانز كافكا. كافكا هو كابوس الإنسان المعاصر، والذي يُستلهم أدبه من أجل اكتناه عزلة الإنسان الوجودية، لكنني اصطدمت بعجزي عن التماهي مع أبطال كافكا، خصوصاً في «التحول» و «المحاكمة»، وهما العملان الأدبيان اللذان صارا عنواناً لبؤس الإنسان المعاصر.

فظاظة الكناية الكافكوية

إعجابي بالصنعة الأدبية المحكمة، وبالسحر الذي تختزنه كنايات كافكا واستعاراته، ازداد رسوخاً مع ازدياد نفوري من التماهي مع أبطاله. وقد عزوت هذا النفور في البداية إلى فظاظة الكناية الكافكوية، فحتى رواية «المحاكمة» التي استوحى منها صنع الله إبراهيم روايته «اللجنة»، بدت لي عصية على إقامة حوار مع عوالم التفكك التي أعيش في وسطها، وبدا عالمها الكابوسي عاجزاً عن الدخول في نسيج العلاقة بين المنامات وأحلام اليقظة التي احتلّت مخيّلتي.

لم أفهم سبب هذا النفور إلاّ عندما وعيت أنني أعيش وسط حلقات متتابعة من النكبات المتتالية، التي وصلت اليوم إلى ذروتها مع الكارثة السورية، التي جعلتنا شعوباً من الضحايا والمشردين.

وإذا أردت تحليل هذا النفور فإنني سأدخل حقلاً مليئاً بألغام الكلمات، إذ لا يصحّ استخدام كلمة نفور في وصف أدب كافكا، الذي هو إحدى أهم علامات الأدب المعاصر، فهو أدب يتميز بقدرة عجيبة على بناء الكناية والاستعارة بصفتهما بديلاً من الواقع وأحد احتمالاته.

الكلمات تسبح في اللازمن

نجح كافكا في بناء عالم مقفل بالكناية، ففي «التحول» و «المحاكمة» يتحوّل الواقع الملموس إلى احتمالات تعيدنا إلى الخرافة، الكلمات تسبح في اللازمن، الأمر الذي يسمح للكاتب ببناء استعاراته وكناياته من متخيّل عصابي منقوش على جدران الخوف غير المرئية.

أدب كافكا إشارة صادمة إلى امتهان الإنسان وتحطيم كرامته في شرط إنساني أفقه الوحيد هو الرعب. قلت في نفسي وأنا أستعيد قراءة كافكا، إن هذا المقترب الكافكوي قد يكون مدخلنا، نحن أبناء هذا التاريخ المنقلب، إلى قراءة واقعنا، لكنني اصطدمت بحاضر حطَّم الحواجز التي تفصل الإنسان عن الوحش. لقد أثبت المستبد والفاشي والصهيوني أن خيال الجريمة أكثر اتساعاً من أي خيال، وأعلن عجز الأدب عن اللحاق بجنونه الفظائعي، وبذا صار الواقع هو الكابوس وليس كنايته الأدبية.

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة