
الطموح للحرية والاستقلالية ليس خصوصية غربيةالإسلام والتنوير - من التنوير إلى تنوير التنوير
إن النقاش الدائر اليوم حول الإسلام ينتهي دائما إلى المطالبة بضرورة مرور المسلمين (أخيرا) بمرحلة التنوير. وترتبط بهذا المطلب فرضيتان: الأولى تشخيصية، ترى أن العديد من مشاكل العالم الإسلامي لها علاقة بواقع أنه لم يعش فترة التنوير. والفرضية الثانية علاجية، وتفيد بأن "استدراك" التنوير سيسمح عاجلا أم آجلا بإيجاد حلول للمشاكل المطروحة.
لا ريب أننا أمام فرضيتين سطحيتين، فكلتاهما تقومان على تصور للتاريخ أحادي البعد، يعتمد النموذج التحقيبي الغربي (القرون الوسطى، النهضة، الإصلاح، الحروب الدينية، التنوير...إلخ). لكننا لن نتمكن على الرغم من ذلك من رد مطلب التنوير.
إن المطلب الذي يرتبط بمفهوم "التنوير"، يتخذ طابعا قطعيا. فهو لا يتأسس على اعتبارات تاريخية، بل يصدُق مبدئيا على كل البشر. وينضاف إلى ذلك أن العديد من المسلمين في العصر الراهن يدافعون عن الفكرة نفسها، لأنهم يأملون، عبر ذلك، في التحرر من بنيات التفكير المتكلسة التي تقوم على أمثلة للماضي، وعبر ذلك على خطاب أسطوري وليس على خطاب عقلاني.
الطموح إلى الحرية والاستقلالية ليس خصوصية غربية
يتوجب علينا في هذا النقاش أن نحذر من تحويل التنوير نفسه إلى أسطورة. إن هذا بالضبط ما يحدث لما نتعامل معه بشكل مطلق ونعتقد أنه قادر على حل كل المشاكل، وأن بإمكانه أن يفتح الباب أوتوماتيكيا للتقدم الثقافي والاجتماعي. فحتى التنوير يخضع لشروط ومحددات، وهو ما يتوجب مناقشته، حتى يحترم النقاش الدائر حول التنوير شروطه النقدية ولا يتحول إلى مجرد حذلقة مدرسية.
وبهذا المعنى فإنه من الضروري التفكير بدقة في شروط تطبيق مفهوم التنوير على العالم الإسلامي، وهو ما تحاوله الأفكار الثلاث التالية:
وإلى ذلك ينتمي عصر النهضة ولربما أيضا القرن الـ 13 (إذا ما أخذنا بأطروحة مؤرخ الفلسفة كورت فلاش)، والسفسطائية اليونانية وخصوصا فلسفة أفلاطون وآرسطو التي لم تكن تهدف إلى شيء آخر سوى إلى الحرية العقلية للإنسان، ولهذا تم النظر إليها من طرف الكثيرين ومن بينهم الفيلسوف الألماني يورغن ميتِلشتراس كفلسفات تنويرية.

وتنضاف إلى ذلك تيارات مشابهة في دوائر ثقافية أخرى، ولا ريب أنها موجودة في العالم الإسلامي أيضا. وهناك يمكننا -وفقا للطريقة التي نفهم بها مفهوم التنوير-وصف العديد من المفكرين بالتنويريين: فيلسوف مثل أبو نصر الفارابي وابن سينا وابن رشد بسبب دفاعهم عن استقلالية العقل وأبو حامد الغزالي بسبب نقده للعقل، أبو بكر الرازي نظرا لمنافحته عن دين يتوافق مع العقل، ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة بعض المفكرين السياسيين في الحقبة العثمانية مثل حسن كافي الأقحصاري بسبب نقدهم للسلطة. إن هناك كُتّاباً مسلمين نافحوا في وضوح عن طموح الإنسان إلى الحرية والاستقلالية، والذين يتوجب اليوم اكتشافهم من طرف المسلمين وغير المسلمين.
لا أحد قد يزعم اليوم بأن نتائج التنوير في أوروبا كانت إيجابية فقط
لكن يتوجب التأكيد في الآن نفسه، وهذه نقطة أساسية بالنسبة للنقاش الدائر، بأن الاعتراف بمظاهر تنويرية عديدة لا يهدف البتة إلى التقليل من أهمية مرحلة التنوير الأوروبية في القرن الثامن عشر. بل العكس هو الصحيح: فبما أنه يتم فهم التنوير كمفهوم كوني، فإنه من الممكن أن نؤكد صلاحية كل تمظهر فردي من تمظهراته وأن نطالب المسلمين بالدخول في حوار فكري معه.
قد يبدو الأمر بالنسبة للمسلمين اليوم تعجيزيا، لكنه يتوافق مع موقف انتشر لوقت طويل داخل العالم الإسلامي. إن خلفية ذلك تعود إلى تحد اجتماعي مختلف، ارتبط بالسؤال: كيف يتوجب على المسلمين التعامل مع الإرث الثقافي لليونان القديمة؟ إن جوابهم عن هذا السؤال تميز بوعي كبير.
وفي هذا السياق كتب أبو يوسف الكندي منذ القرن التاسع بأن علينا أن لا نشعر بالخجل من الاعتراف بالحق وتبنيه، بغض النظر عن أصله، وحتى لو وصلَنا من أجناس وشعوب بعيدة. وبهذا المعنى قام العرب بترجمة العديد من النصوص الفلسفية اليونانية، وخصوصا كتب آرسطو إلى العربية.
لكن الأهم في الأمر هو الموقف الذي اتخذه العرب إزاء العلم "الأجنبي". فلم يتم النظر إليه كخصوصية ثقافية لقومية أو دين معينين، ولكن كإرث كوني للإنسانية. ولهذا السبب تمكن سعيد الأندلسي في القرن الحادي عشر من إنجاز شجرة نسب للشعوب التي ساهمت في تطور الأبحاث العلمي.